الذاكرة السياسية

حقائق من ثورة الجزائر تتكرر في غزة الحاضر.. دروس للتاريخ (3)

قصص ونوادر لثورة التحرير الجزائرية في مواجهة الاستعمار الفرنسي تتكرر لدى المقاومة الفلسطينية في مواجهة حرب الإبادة.. (واج)
قصص ونوادر لثورة التحرير الجزائرية في مواجهة الاستعمار الفرنسي تتكرر لدى المقاومة الفلسطينية في مواجهة حرب الإبادة.. (واج)
"إذا كان الزمان غير الزمان، فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى  يوم  الدين. وسنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم، تجعل دوام الحال من المحال، ولو دامت  للأولين لما دانت للآخرين! وإن الكيل بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف، هو سبب كل الخلل في المعايير والموازين وهذا الدمار المبين.

وفي تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى، دروس للمعتبرين، وإن الذكرى قد تنفع حتى البغاة  والعصاة والطغاة، فضلا عن المؤمنين!!

وبمناسبة إحياء الجزائر للذكرى  التاسعة والستين لثورة القرن العشرين دون منازع في الفاتح  من  تشرين  الثاني (نوفمبر 1954)، وربطا بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية  في الساحة والساعة الدولية، عرفنا إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد، نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي، الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا"، لما يزيد عن السبع سنين، مماثلة لما يراه العالم  على  المباشر  يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل، في معركة الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية، والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على المحسنين والمسيئين، والظلمة والمجرمين، وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا غلابا وافتكاكا باليمين، وتلك هي سنة الله في الأولين  والآخرين.

تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة في الوقت ذاته، وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك  الثورة الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها، حتى توقيف القتال وتقرير المصير والاستقلال. وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛ بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات، التي اعترضت مسيرتها الطويلة إلى النصر المبين!

ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962، كان هو يوم ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830، مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال، كما أن كل احتلال يحمل بذور استقلال؛ إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع  الحال.

وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانا مع ما يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين، وخاصة من جهة  نوعية  الاستيطان  وفصيلة المستوطنين أنفسهم  خلفا عن سلف، والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء  المغرب العربي الكبير  المدفونين  في القدس الشريف على مر التاريخ  الإسلامي للأمة، عندما كانت أمة حرة  حتى  تحت الاحتلال الأجنبي  الخارجي (الأرحم  مع  الأسف  من  الاستحلال الداخلي  الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000  مجاهد سنة 1948، ودخلوا  من أرض الكنانة سابقا  لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة، التي لم تتغير في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة واليد القصيرة، على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا  إلى داكار ونواكشوط  والرباط وتطوان، مرورا بقسنطينة ووهران!؟!

وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو حال غزة وفلسطين هذه الأيام؛ لما بين الثورتين من تطابق  وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الأولى، مقارنة بما نراه على المباشر في  الثورة الفلسطينية  العظيمة  الثانية، التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.

وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات ومعارك التحرير، التي يخوضها الأشقاء  الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون انقطاع)،  في مواجهة  أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال يلتف حوله  قادة  العالم الغربي الاستعماري كله، ويدعمونه انتقاما  من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة.

كنا نعتقد، وإن بعض الظن  ليس إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء المعمورة، قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة حقوق الإنسان الفلسطيني خارج  حقوق الإنسان، التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم  الواجم.

إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.

وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين، لا يثير القلق  فقط حول مصير البشرية في هذا العالم (وحيد القرن)، وإنما يعيد السؤال أيضا وبإلحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة، تتراجع إلى ما تحت الصفر كما نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة والإنسانية، التي تحتضر في مستشفياتها المنكوبة كلها  اليوم  والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق الإنسان (الحجري)، وليس الإنسان  البشري  المتحضر المتعلم  والمتقدم"!!

وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة  الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء  في الجزائر الثانية (فلسطين  الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ والاتعاظ به وأخذ العبرة منه.

مفارقات عجيبة

من المفارقات العجيبة التي تدخل ضمن الحكمة الإلهية التي رعت ثورة الجهاد المباركة، وأنقذت العديد من المجاهدين المخلصين، يقول المجاهد آكلي قصري: "توجهت أنا إلى المهمة التي كلفني بها الرائد سي أحسن، فيما لم ينفذ الجنود الذين أمرتهم بمغادرة المكان الأوامر واستثقلوا المغادرة، وقد كان إحساسي في محله، فقد باشر الجيش الفرنسي تمشيطا مكثفا للمنطقة، وأحكم عليها حصارا مشددا، فسمعت طلقات رصاص من الناحية التي تركت فيها زملائي، فأوجست خيفة من أن يكونوا قد وقعوا في مصيدة العدو. في المساء عدت من المهمة، فالتقيت بسي محند أوبلقاسم، فسألته عن مصدر الرصاص الذي دوى قبل قليل، فأخبرني أن مقران وكاتبي ومسؤول منطقة بني مزنزان قد ألقي القبض عليهم، وكانت بالنسبة لي الفاجعة الكبرى، وبالنسبة لعاشور الحركي الخائن بمنزلة الغنيمة الكبرى، عذب أمقران عذابا شديدا، إلى أن  جاء دور الحراسة لواحد من الجزائريين المجندين في الجيش الفرنسي (أصله من مدينة وهران)، عندما حاول أحد الحركى ضرب مقران منعه، وقال له؛ إنه في هذا الوقت تحت حراستي ومسؤوليتي، الأمر الذي أدى إلى  شجار بين الأول والثاني، وبعد أن هدأت الأمور قال المجند الجزائري لمقران المعتقل، من كان يبعث لنا بالرسائل لنغادر الثكنة، وكنا نحن قد بعثنا برسائل إلى هؤلاء الجنود نحرضهم فيها على مغادرة الثكنة والالتحاق بصفوف جيش التحرير، فقال له مقران الذي كان منهك القوى من شدة التعذيب، حتى إن السلك الذي ربط به كان قد أكل من لحمه، نحن من كان يبعث لكم بالرسائل، فقال له: لو أطلق سراحك الآن هل تستطيع الهروب؟ فقال مقران نعم، وعاد ذلك الجندي إلى مقران وقال له هل توصلني إذا ما فررنا معك، فأجابه بالتأكيد، وبالفعل كان ذلك، فجلبوا معهم بعض الأسلحة وفروا إلى المخبأ بالغابة، وعندما وصل مقران إلى المكان الذي كنا فيه اعترف لي أن ما حدث هو عدم تنفيذ تعليماتي بمغادرة المكان، فقد كانت النتيجة أن خسرنا الكاتب ومسؤول منطقة بني مزنزان، ولكننا غنمنا في الوقت نفسه ثلاثة جنود آخرين وأسلحتهم".

طرائف نادرة

من الطرائف النادرة التي يرويها سعد دحلب على صديق عمره ورفيق دربه بن يوسف بن خدة، قوله: "كان ابن خدة معروفا بشجاعته. لم أره أبدا من قبل بنفس الهدوء والرزانة اللذين كان عليهما في تلك الفترة الحرجة. "الأب الهادئ" الذي اختار أن يسمي نفسه "ألبير مولينى Albert Molina" على اسم فرنسي يهودي من الجزائر العاصمة. وذلك لأنه وكما قال لي، يمكن لهجته أن تكون ليهودي وليس لفرنسي، ومن ثم لا يمكن أن تفضح أمره وهو يتجول باستمرار ودون كلل في مدينة الجزائر، ويغير السيارات وسائقيها أربع مرات في اليوم.

كان يضع قبعة من اللبد فوق رأسه، كما يفعل كل أوروبي يحترم نفسه، وكان وجهه مزيّنا بشنب كبير متدلّ، لا يظهر أي قلق أو اضطراب في نفس صاحبه. ومع ذلك، فقد حدث في أحد الأيام أنه قرر أن يحلق ذقنه عند حلاق فرنسي على مقربة من مقر ولاية الجزائر، حيث كان قد ضرب موعدا لأحد سائقيه. كعادة كل الحلاقين كان هذا يتكلم دون توقف، وكان ابن خدة يتمتم بما يفيد الموافقة، وفي لحظة من اللحظات كاد أن يختنق من شدة الضحك، أو الرعب في الوقت ذاته الذي كان السكين يباشر حلقه، توقف الحلاق لحظة واتّخذه كشاهد مستفسرا في تعجب: "هل هذا حق الأنذال! أليس كذلك! بينما يختبئ القادة الأنذال لـ (جبهة التحرير الوطني) ويبعثون بالصغار والمغرر بهم للقيام بالاعتداءات والمؤامرات الإجرامية. يجب علينا أن نفتك بهم جميعا. أليس...؟ الأنذال!

وفي هذه الحالة تمتم ابن خدة موافقا مرتين عوض مرة".

ويروي بعض المغامرات الطريفة التي وقعت له في شوارع العاصمة، رفقة الشهيد البطل عمارة رشيد فيقول: "كان رشيد أوعمارة رجلا شجاعا ذا سحنة بيضاء، يشبه إلى حد ما أوروبيي الجزائر من صفة الأقدام السوداء، كما كان طيبا وجريئا إلى درجة الجسارة. عشت معه ذكريات لا تنسى، تجعله حيّا إلى يومنا هذا في ذاكرتي، فكثيرا ما تظاهر بالفرنسي الساخط أمام العسكريين من الشرطة وغيرهم الذين كانوا يوقفون سيارتنا، فكان هؤلاء أحيانا يشيرون لنا بالمرور هازين أكتافهم "ها هو شخص يجيز لنفسه كل شيء" كما كانوا يظنون، ولكن الوقت لم يكن يسعهم للاهتمام به. أما أنا كما قلت له: "فلعلهم ظنوا أنني مخبر حقير، فطلعتي لا تخطئ! أو أنني شرطي من الدرجة الثانية".

ومن الطرائف التي وقعت له مع ابن خدة في إحدى زياراتهما الرسمية للصين فيقول: "وكاد ابن خدة أن يختنق من الضحك، وكان هذا في مأدبة عشاء عند وزير الدفاع الصيني المارشال بن تاخاي. كان الحديث حادّا وجادّا، فلم نكن نهمل أي كلمة من حديث المارشال، حيث كان يروي لنا عن حرب كوريا، فقد كان هو قائد فرقة المتطوعين الصينيين، وقد أورد في كلامه: "كان عندي "مليون جندي" وفي الأخير رفع كأسه مناديا بانتصارنا، وصداقة شعبينا وسقوط الأمبريالية، وختم كلامه متنهدا: "للأسف لو كان عندنا حدود مشتركة مع الجزائر! لبعثنا لكم بالكثير من المتطوعين".. وعلى إثر هذه الكلمة صحت باللغة العربية الدارجة وقلت لابن خدة: حمدا لله أن هذا لم يكن..! فالفرنسيون يذهبون حتما يوما، ولكن من يستطيع إخراج الصينيين إذا ما انغرسوا عندنا!؟".

وعن حادثة أخرى طريفة وقعت للسيد ابن خدة مع لحم الخنزير في أحد المطاعم الروسية، يقول سعد دحلب: "قلت للسيد ماتيي، سيسر رئيسنا كثيرا بمساعدتكم في علاقتكم مع عمال المطعم الروسي، وقصصت عليه المغامرة التي حدثت لنا في تلك الصبيحة ذاتها عند موعد الإفطار. فبعد أن تعب ابن خدة من اصطياد وعزل القطع الصغيرة من شحم الخنزير ولحمه بشوكته، التي كان الطباخ يزين بها كل ما يقدمه لنا، وأمام عجزي عن تدارك الموقف؛ «لأن هذا من مهامي كوني خادم الوفد» عثر ابن خدة على الحل، فرسم بكل عناية أنف خنزير، وعرضه على الخادم، موصيا إياه بألا يقدم لنا هذا النوع من اللحم مرة أخرى! لم يبحث الخادم عن المزيد من الشرح وكأنه فهم كل شيء، وقفز مهرولا نحو المطبخ. وما هي إلا لحظات؛ كونه منضبطا وملتزما بعدم ترك الزبون في الانتظار، حتى عاد مسرعا ومقدما لنا نصف رأس خنزير كان جاهزا!

ومنذ ذلك التاريخ وكلما استعصى على التعبير، كنت أطلب من ابن خدة أن يتحفنا برسم!!".

وعن قصة الطائرة اللغز التي أرسل العقيد علي كافي وإبراهيم مزهودي من مقر انعقاد مؤتمر الصومام لاستقبالها في الولاية الثانية، يقول علي كافي: "فوجئت بزيغود يناديني رفقة العربي بن مهيدي (بصفتي القائد العسكري للمنطقة الثانية)، وأبلغنا بأمر طائرة وأطلعني على المكان المقرر لإنزال الأسلحة، وهو منطقة واد الزهور قرب منطقة القل، ولاحظت أن هذا المكان غير آمن لقربه من البحر. واقترحت استبداله بدوار بني صبيح، الذي يبعد عن البحر وتحيط به الجبال، ووافقا على اقتراحي بتحديد المكان الجديد، وطلب مني زيغود الرحيل فورا بأقصى سرعة ممكنة.

ووصلت المكان المحدد حيث كان في استقبالي الرائد صالح بوبنيدر بعد عمليات عسكرية واشتباكات خطيرة ومحاصرة العدو. أعددت العدة، ورسمت المكان الذي ستنزل به الطائرة وحمولتها، وضبطت الإنارة لتدليل الطائرة ولكن الطائرة لم تأت، ولم يعرف السبب لغاية الآن. هل فعلا كانت هناك طائرة محملة بالأسلحة؟ وهل كان من المعقول أن تنزل طائرة حمولتها من الأسلحة في المكان إياه تحت سمع وبصر الرادارات وقوات العدو؟ هل إن إيماننا بالثورة هو الذي جعلنا نصدق أم كانت هناك نية مبيتة لعزل زيغود عن قائده العسكري؟

إننا لا نشك في صديق المناضل البطل العربي بن مهيدي؛ ولكن من خطّط للعملية؟

وهناك سؤال خطير ما يزال يطرح لغاية اليوم، وهو قصة الطائرة التي كان من المفروض أن تقوم بإنزال الأسلحة في منطقتنا.

وبعد ذهابي إلى تونس، التقيت ببعض قادة الثورة وتساءلت عن سر تلك الطائرة اللغز، فأكدوا لي بأنه لم يكن هناك أي تخطيط أو إعداد لإنزال حمولة طائرة من الأسلحة، وإنهم لا يعملون شيئا عن هذا الأمر".

وعن موقف إنساني نادر المثال في الشهامة التي دفعته إلى إنقاذ الشاب المجاهد جمال شندرلي من مصير مجهول بعد شكوك حامت حوله في خاطر العقيد عميروش، لها علاقة بفتنة "الزرقاء"، التي حدثت في صفوف الطلبة والمثقفين، فأشيع أنه وقع له مكروه، وفي هذا الجو من القلق سافرت أمه من الجزائر إلى تونس لمعرفة ظروف وملابسات وفاته.

وشاءت الصدفة، أن أكون موجودا هناك، فأردت أن أطمئن والدته بأن ابنها لا يزال حيّا، ومهدت لذلك بأن دخلت عليها في الفندق وقلت لها؛ إن جمال حي يرزق، وسيصل إلى تونس مع القافلة القادمة من الجزائر بعد أيام إن شاء الله.

وكان جمال يجلس في بهو الفندق، وبعد تحضيرها نفسيا، لاستقبال ابنها، طلبت منه الصعود إلى غرفتها. وعند هذا اللقاء المفاجئ والمثير تعانقا بشدة وأخذا يبكيان بتأثر شديد".

وكجزاء الإحسان بالإحسان الذي هو من شيم المعادن النفسية من النساء والرجال على حد سواء، يروي علي كافي ذاته موقفا رائعا في الشهامة والوفاء، فيقول: "وفي عام 1961، أرسلت إلى زوجة القاضي شندرلي (أم جمال) لتحضر لي ابني إلى تونس، بعد التحاق زوجتي بي هناك.

وقامت أم جمال بتسجيل ابني باسم حفيدها وأحضرته معها إلى تونس، وكان عمره سنتين.

وقالت لي وهي تسلم لي ابني قاسم: "أنت أنقذت ابني من الموت وجئتني به حيا، وأنا حرصت على أن أحضر لك ابنك حيا، لأرد لك الجميل". وكان هذا أيضا من المواقف الإنسانية التي أثرت في حياتي كثيرا فيما بعد".

وعن العناية الإلهية التي كانت تتدخل لإنقاذ المخلصين في آخر لحظة، يروي المجاهد سي جمال (أحمد بناي) ما حدث له قبل الالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني فيقول: "لقد قُبض على بعض المُناضلين الذين كانوا يعملون معي، فأقرّوا باسمي. فجاءت الشرطة، وألقت علينا القبض على الساعة الرابعة صباحا، أنا وكلّ الشُبّان الذين يسكنون بالمنطقة، أخذونا جميعا إلى ثكنة عسكرية في بابا علي، وبدؤوا في تعذيبنا، لحظات لا تسمعُ فيها إلا الصّراخ، وكان أخي الأكبر معي، اعتقلوه هو الآخر، رغم أنه لم يكن مع النظام. ولكن، ولحسن الحظ، كان أبي، يسيّر مزرعة لأحد المُعمرين، وهو الكاتب العام للحكومة الفرنسية في كلّ الجزائر، عندما تمّ اعتقالنا اتصل به أبي، وحدثهم عمّا فعله العساكر بنا ظلما، أو هكذا قال له، وفي الوقت نفسه، كنت أنا أنتظر دوري لكي يتمّ تعذيبي، إلى أن حضر ابن ذلك المُعمر في تلك اللحظات بالذات، واسمه جونو. بعد أن أظهر أوراقه طلب أن يُطلق سرا أنا وأخي؛ لأنه لا علاقة لنا (بالإرهابيين والخارجين عن القانون) كما كانوا يسمون المجاهدين، فكانت الفرصة مواتية للهرب، فمباشرة بعد أن أطلق سراحي، هربت ولم أعد، فقد كنت أعرف أنّ أحد هؤلاء المناضلين سيُقرّ، بل قال لهم أحد المعتقلين معنا من الذين كانوا يدفعون الاشتراكات لي؛ بأنني أنا المسؤول، وحُوكمت غيابيا على إثر ذلك بعشرين سنة سجنا".
التعليقات (0)