الذاكرة السياسية

حقائق من ثورة الجزائر تتكرر في غزة الحاضر.. دروس للتاريخ (1)

نوادر تستحق أن تروى من الثورة الجزائرية في مواجهة الاستعمار الفرنسي تفيد الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال.. (واج)
نوادر تستحق أن تروى من الثورة الجزائرية في مواجهة الاستعمار الفرنسي تفيد الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال.. (واج)
"إذا كان الزمان غير الزمان، فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى  يوم  الدين. وسنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم، تجعل دوام الحال من المحال، ولو دامت  للأولين لما دانت للآخرين! وإن الكيل بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف، هو سبب كل الخلل في المعايير والموازين وهذا الدمار المبين.

وفي تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى، دروس للمعتبرين، وإن الذكرى قد تنفع حتى البغاة  والعصاة والطغاة، فضلا عن المؤمنين!!

وبمناسبة إحياء الجزائر للذكرى  التاسعة والستين لثورة القرن العشرين دون منازع في الفاتح  من  تشرين  الثاني (نوفمبر 1954)، وربطا بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية  في الساحة والساعة الدولية، عرفنا إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد، نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي، الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا"، لما يزيد عن السبع سنين، مماثلة لما يراه العالم  على  المباشر  يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل، في معركة الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية، والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على المحسنين والمسيئين، والظلمة والمجرمين، وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا غلابا وافتكاكا باليمين، وتلك هي سنة الله في الأولين  والآخرين.

تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة في الوقت ذاته، وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك  الثورة الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها، حتى توقيف القتال وتقرير المصير والاستقلال. وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛ بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات، التي اعترضت مسيرتها الطويلة إلى النصر المبين!

ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962، كان هو يوم ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830، مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال، كما أن كل احتلال يحمل بذور استقلال؛ إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع  الحال.

وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانا مع ما يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين، وخاصة من جهة  نوعية  الاستيطان  وفصيلة المستوطنين أنفسهم  خلفا عن سلف، والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء  المغرب العربي الكبير  المدفونين  في القدس الشريف على مر التاريخ  الإسلامي للأمة، عندما كانت أمة حرة  حتى  تحت الاحتلال الأجنبي  الخارجي (الأرحم  مع  الأسف  من  الاستحلال الداخلي  الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000  مجاهد سنة 1948، ودخلوا  من أرض الكنانة سابقا  لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة، التي لم تتغير في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة واليد القصيرة، على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا  إلى داكار ونواكشوط  والرباط وتطوان، مرورا بقسنطينة ووهران!؟!

وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو حال غزة وفلسطين هذه الأيام؛ لما بين الثورتين من تطابق  وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الأولى، مقارنة بما نراه على المباشر في  الثورة الفلسطينية  العظيمة  الثانية، التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.

وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات ومعارك التحرير، التي يخوضها الأشقاء  الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون انقطاع)،  في مواجهة  أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال يلتف حوله  قادة  العالم الغربي الاستعماري كله، ويدعمونه انتقاما  من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة.

كنا نعتقد، وإن بعض الظن  ليس إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء المعمورة، قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة حقوق الإنسان الفلسطيني خارج  حقوق الإنسان، التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم  الواجم.

إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.

وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين، لا يثير القلق  فقط حول مصير البشرية في هذا العالم (وحيد القرن)، وإنما يعيد السؤال أيضا وبإلحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة، تتراجع إلى ما تحت الصفر كما نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة والإنسانية، التي تحتضر في مستشفياتها المنكوبة كلها  اليوم  والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق الإنسان (الحجري)، وليس الإنسان  البشري  المتحضر المتعلم  والمتقدم"!!

وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة  الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء  في الجزائر الثانية (فلسطين  الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ والاتعاظ به وأخذ العبرة منه.

حكاية طريفة

يروي المجاهد محمد الصالح الصديق حكاية طريفة وقعت له وهو في طريقه إلى تونس عن طريق فرنسا مبعوثا من الثورة، فيقول: "قال لي ذلك المترجم؛ إنهم عازمون على قتلي، وأنه لذلك عليّ الهروب إذا ما أطلقوا سراحي هذه المرّة. وفعلا، فقد اتّصلت بقيادة الثورة بالولاية الثالثة، فدبّروا لي طريقة أمرّ بها إلى المشرق العربي عن طريق فرنسا. والغريب أنّ جبهة التحرير أوهمت إحدى الفرنسيات بباريس أنني أعمل مع العدو (أي ضدّ الثورة). وأنه حكم عليّ بالإعدام من طرف المجاهدين، ولا بدّ عليها أن تتستّر علي. فصدّقت ذلك واستقبلتني هي وزوجها، علما أن هذا الأخير كان ثوريا دون علمها. وهكذا قضيت عندهما تسعة عشر يوما. هي تحسب أنني أعمل لحساب فرنسا، وزوجها يعلم حقيقتي، وقد ساعدني حتى غادرت المطار وأفلتّ بأعجوبة من قبضة المخابرات الفرنسية رغم هويتي المزورة".

يصف المجاهد حسين دالي المعاملة الحسنة التي كان يتلقاها الطلبة المجندون في جيش التحرير الوطني في الولاية الرابعة فيقول: "كنا نحن المتعلمين، نُعامل معاملة خاصّة من المجاهدين، فكان السي سليمان، رحمه الله (مسؤول الناحية)، يأمر أحد الجنود بأن يحملني على ظهره عندما نمر عبر واد، حتى لا أتبلل، ويقول له عني، وآخرين مثلي؛ إنهم إطارات الوطن في المستقبل".

يروي المجاهد رزقي بوهراوة في مذكراته قوله: "كنتُ مرّة في أدغال سيدي نعمان مع الرّائد سي حسن محيوز، تبادلنا أطراف الحديث هنيهات، ثمّ استلقيْنا لأخذ قسْط من النوم. وبعد مضيّ بعض الوقت، شعرتُ به يُدخل يده في جيْبي، معتقدا أنّني في سباتٍ عميق. فقلتُ له: ماذا تفعل؟ أتبحث عن الشمّة؟ (وهي تبغ الفم)، توضع تحت اللسان. لقد أخبروك بأنّني أتناولها. أتريد الصّراحة؟ إنّي، والله، لأدخـِّن كذلك سجائر الأطلس! وقد تدفعني هذه الظروف القاسية إلى شرْب الخمر! لقد كلّفتْنـي بمهمّة سياسيّة أبعدتْني عنْ مجموعتي، إنّني هائم وحدي في التّلال والأودية. ضحك كثيرا لكلامي الصريح معه بتلك الجرأة، ولم يعلّقْ على شكواي، ثمّ قال لي رحمه الله: تصبح على خير".

وضعيات صعبة

يصف المجاهد حسين دالي الوضعية الصعبة جدا التي أصبح يعيشها جيش التحرير الوطني في أواخر سنوات الثورة، فيقول: "كان الأمر صعبا للغاية، كنا نختبئ في الحفر، نفترق على الثالثة صباحا، كلّ واحد منا يذهب إلى مخبئه الذي لا يعرفه الآخر، ثم نعود ونلتقي مساء، لا تجد في النهار إلّا الفرنسيين، كان الأمر صعبا، أربعة أشهر عانيت فيها، في المنطقة الممنوعة كلّ شيء عدو لك، وحتى العصافير، تطير فتفضحك، الذئب يبحث عن علب السردين التي تخفيها ويعثر عليها أينما كانت، الضفدع يفضحك بسكوته، السلاح قلّ، والجيش كذلك، ولم يبق لدينا إلّا ما نسميه بالسلاح الإيماني، وهو الإيمان بالوطن، وقنبلة يدوية ليرميها الجندي ويفرّ، وقارورة ماء، وخنجر حتى يفتح علبة السردين، هذا فقط!" .

ويروي أيضا بعض الحيل التي كان يستعملها الثوار لخداع العدو واختراق صفوفه، فيقول: "أقول لك إننا سبقنا فرنسا في محاولة اختراق صفوفها، لقد بعثنا للحركى، رسائل كما لو أنّنا نشكرهم على السلاح الذي أرسلوه لنا (وذلك لم يكن صحيحا)، ففي الجباحية سنة 1958 سجنت فرنسا العديد من الحركى وقامت بتعذيبهم؛ لأنها اكتشفت تلك الرسائل الوهمية، فكان أن ضربنا بذلك عصفورين بحجر واحد".

ويروي المجاهد محمد الشريف موهوبي قصته مع أحد الخونة، فيقول: "أذكر أننا بعد تلك المعركة بثمانية أيام، جاءنا بعض المناضلين من أولاد وارث وأبلغونا بما فعله خونة زيمولة، وكان رئيسهم اسمه بلعيد علي عمار، وقد خشي على نفسه من انتقامنا، فصار لا يبيت في منزله، ومرة جاء فعلمنا بالأمر، فذهبت أنا ورابح طوطاح، ووصلنا إلى بيته الذي كان فيه مخرجان، فحاصرنا الباب من الجهة العليا، وناديته، فأجابتني زوجته، فقلت لها أن تعلم زوجها بأنّ سكان المنطقة كلهم سيلتقون أمام المسجد، فقالت لي؛ إنه ليس موجودا، ولكننا بقينا نراقب المكان مدة 20 دقيقة تقريبا، حتى رأيناه يخرج متنكرا ومتخفيا بين ثلاث نساء، ولكني اكتشفت أنه ليس امرأة، فسرت وراءه إلى باب المسجد، وكان هناك ركن مظلم هو الحد الفاصل بين النساء والرجال، وهناك نزع الغطاء عن رأسه، وأنا كنت قد أوصيت الحارس أن يُراقبه، ثم غادرت النساء، وتخلف الرجال، وكان الخونة الثلاثة، وبينهم ابن بلعيد علي عمار، الذي كنا ننوي أن نأخذه معنا، لكن ليس لقتله. أما الأب فعندما انكشف، أظهر نفسه، وتعذر بأنه ادعى الغياب عن المنزل لأسباب أمنية، وأبدى استعداده ليدفع مبلغ 15 ألف فرك قديم، فطلبنا منهم أن يُرافقونا فرفضوا، وعندما حاول الرفاق تقييدهم قاوموا، ثم راحوا يصرخون ليسمعهم العساكر في مركز سيدي نعمان، وفي تلك اللحظات قفز ابن بلعيد من النافذة وهرب، فقرر عبد الرحمن عروس، أن يقضي عليهم جميعا".

"أقول لك إننا سبقنا فرنسا في محاولة اختراق صفوفها، لقد بعثنا للحركى، رسائل كما لو أنّنا نشكرهم على السلاح الذي أرسلوه لنا (وذلك لم يكن صحيحا)، ففي الجباحية سنة 1958 سجنت فرنسا العديد من الحركى وقامت بتعذيبهم؛ لأنها اكتشفت تلك الرسائل الوهمية، فكان أن ضربنا بذلك عصفورين بحجر واحد".
وعن تعاون بعض الوطنيين الجزائريين مع الثورة، تروي المجاهدة باية ماروك قصتها الطريفة مع أحد رجال الشرطة الذي أنقذها من قبضة العدو بأعجوبة، فتقول: "بقيت في العمارة نفسها، مُختبئة لدى شرطيّ جزائري في الإدارة الفرنسية، يُدعى حميد مواسي. كان المُجاهدون قد اتصلوا به من قبل، لكي يُكلفوه بمهام، ولكنه رفض، حتى إنّ المسؤولين أرادوا تصفيته، إلا أنني حلت دون ذلك؛ لأنه لم يكن مُعاديا للثورة. وفي الأخير، صار يتعاون معنا، وكانت البداية بإخفائي في بيته، فكانت الشرطة تبحث عني في كلّ البيوت، إلا بيته هو، لهذا أقول إنه قدم للثورة خدمات جليلة".

وتقص جميلة دريش بعض ما تعرفه عن اجتماع 22 الذي انعقد في منزل عائلتها، وبمشاركة أخيها إلياس، فتقول: "كان أخي إلياس يحضر ضيوفه، ويطلب من أمّي أن تُحضّر لهم المكان، وكان لدينا سطح المنزل في "لارودوت" تنصب فيه أمي خيمة، تخرجنا لنبيت فيها، وتترك المكان لهؤلاء الضيوف، إذ إنهم يمرون من الحديقة وعندما يُغادرون يستعملون الطريق نفسه، إذ يمرّون عبر السطح إلى الحديقة، ويفرون، وفي حي "لارودوت" (المرادية حاليا) لم نكن عائلة مُشتبها فيها، بل إنّ الشُرطة لم تكن تُفتّش بيتنا، فمنزل السيد بيسيتي (وهو معمر إسباني)، كان يُطلّ على سطح بيتنا، وكان يرى الناس يأتون ويزوروننا، وأننا ننظم سهرات، خاصّة في شهر رمضان، فكان يقول للمفتشين؛ ألا يقربوا بيتنا، ويصفنا بالنبلاء، الذين لا يمكن أن يكونوا ثوريين.

عندما اكتشفت السلطات الفرنسية أمر أخي إلياس جاؤوا ليقبضوا عليه، وكان بيتنا محاذيا لبيت عمي، وعندما جاء العسكر دخلوا بيت عمي، وأهل بيت عمي لم يخبروهم أنهم مخطئون، بل تركوهم يبحثون، حتى يتمكن إلياس من الهرب، وأرسلت زوجة عمي ابنها إلينا ليُخبرنا بالأمر، فراحت أمي تمزق الوثائق وترميها، وفي أثنائها خرج أخي ليذهب إلى العمل، كما لو أنّ شيئا لم يكن، ومر على شرطي الحراسة، وسلم عليه، فرد عليه التحية دون أن يعلم أنّه الشخص الذي جاء العساكر للبحث عنه.

وهكذا أفلت من قبضتهم، ليلتحق بصفوف جيش التحرير الوطني".

ويروي المجاهد الشاب أحمد بناي (المدعو جمال) قصة التحاقه بصفوف جيش التحرير الوطني فيقول: "دون أن أعلم أحدا بالأمر اتجهت إلى البرواقية، وكان البرد قارسا، ولاحظت أنني لا أشبه سكّان تلك المنطقة، فاشتريت عرّاقية، وهو اللباس الذي كانوا يرتدونه، حتى لا يتفطن أحد لأمري، ولو أنني كنت أحمل أوراق الهويّة معي. وعلى الخامسة صباحا كان عليّ أن ألتحق بالحافلة التي تنقل من البرواقية إلى بوسكن، وهي مسافة تُقدر بحوالي ستّين كيلومترا، رغم أنني كنت أحمل أوراق الهويّة، وكنت أفكر في أنه إذا تمّ سؤالي، أدعي أنّ لديّ عائلة في ذلك المكان وأتيت إليها زائرا، أو شيئا من هذا، وعندما وصلت إلى بوسكن، كان هناك دركيّان واقفان يُفتشان كلّ من يدخل إلى السّوق، ولكن، ولحسن الحظ، لم يكلماني، ذلك أنني كنت صغيرا، ولم أكن أثير الشُبهات، خاصّة أنني أخذت كلّ احتياطاتي، ومنها أن أتجنب الحديث بالفرنسية؛ لأنّ سكّان تلك المنطقة لا يُجيدونها. لا بأس، دخلت إلى السوق، فالتقيت شيخا يبيع دجاجتين صغيرتين، وتشاء الصُدف أن يكون شيخا أعرفه، اسمه بن شتيح، حيث كان يعمل عند جدي وعند أبي في المزرعة، وعندما نظر إلي استغرب، وسألني عن سبب قدومي، فقلت له إنّ لي رسالة عليّ أن أو صلها للمُجاهدين، وأنّ عليه إيصالها إليهم، وطلبت منه أن يُوصلني إليهم، وهكذا التحقت بالثورة بعد امتحان شاق لإخلاصي وإرادتي".

وعن تعاون بعض "الحركى" مع جيش التحرير الوطني بكل إخلاص وشجاعة، يروي الضابط رزقي بوهراوة بعض المفارقات الطريفة لهذه الحالات فيقول: "أؤكد هنا أنه بفضل هذه العلاقة القائمة على الثقة المتبادلة بيننا مع أهل القرية المخلصين للثورة، أصبحنا ندخل إلى أولاد وارثْ في جنح الظلام، ونبيت أحيانا في منازل بعضهم. وصادف مرّة أنْ كنّا خمسة في دار أحدهم، فجاء أحد الجنود الفرنسيين، ونادى على عبدالرّحماني، قائلا له: هيّا إلى المناوبة. لقد كنّا نسمع هذا الكلام ونحن داخل الدّار في أمان، ممّا يدلّ على الإخلاص الذي تحلّى به هؤلاء المساندون للعدوّ ظاهرا، والمتعاملون معنا بكل إخلاص في الواقع".

صور بطولية

وعن بعض الصور الرائعة للوطنيين الذين كانوا يتظاهرون بالتعاون مع العدو، وهم في حقيقتهم من أخلص الناس للثورة، وقد قدموا خدمات جليلة للوطن والثورة، يقول المجاهد أحمد عثمان: "كثير من الناس لا يعرف قصّة "الفاد" وأعلم أننا استطعنا تدميرها، ذلك أن حسان باي، وهو ابن الحراش، كان معهم، ثم تراجع، وفكر في أنّ مسيرته النضالية كلها كانت في خدمة الوطن، قبل أن يجد نفسه يتعامل مع الفرنسيين، وأراد أن يعود إلى جبهة التحرير الوطني، فطلب منه الهاشمي تواتي، أن يفعل ذلك ولكن سرّا، ويبقى يحضر اجتماعاتهم لكي ينقل الأخبار للجبهة، وبهذه الطريقة تمكنا من تفكيك الجبهة "الجزائرية الديمقراطية"، والخطيرة التي كانت تهدد الثورة في الصميم، ومن ثم استقلال الجزائر، بكلّ تأكيد" .

وعن أسر أحد جنود العدو ومحاولة إنقاذه من قبضة المجاهدين، بتدبير حيلة طريفة قام بها أحد الضباط الفرنسيين، يروي المجاهد رزقي بوهراوة في مذكراته كل تفاصيل هذه الحادثة فيقول: "أذكر أن جيش التحرير الوطني قد أسر جنديّا فرنسيّا، فأرسله إلى تامقوط، وبعد البحث والتّحرّي، تيقن الفرنسيّون أنّه أسير عندنا في مركز تامقوط، فكلّفوا نقيبا لهم لتحريره، فالتحق بجيش التّحرير، مدعيا أنه من المرتزقة، ومن الذين هم ضدّ هذه الحرب الظالمة. وكان الأسير يحرسه بعض الشيوخ الذين لا يخرجون معنا إلى المعارك، فاستغلّ النّقيبُ الماكر هذه الفرصة، فاقتربَ من هؤلاء الشيوخ، وطلبَ منهم أنْ يعلموه الصّلاة ليعْتنق الإسلام، وهكذا نال ثقتهم، حتى إنهم قالوا له بأنّ معهم أسيرا فرنسيّا؟ فقال لهم بمنتهى الخبث والدهاء: دعوني أرى هذا النذل، أخذوه إليه، ولمّا اقتربَ منه، أشار له بطرف العيْن، ثمّ نعته بأقبح الشتائم، وقال له: جئتَ لتقتل الجزائريّين الذين يدافعون عن وطنهم أيّها الملعون!

ومرّت الأيّام ، وجاء خبر قدوم سي عميروش إليْنا، فتساءل النّقيب المتنكّر عن سبب مجيئه؟ فقيل له: ربمـا جاء ليأخذ معه الأسير. فقال: من الأفضل قتله. فأجيب: بل الأفضل أنْ يأخذه عميرش. ولمّا أيقن أنّ الفرصة ضاعتْ منه، وأنْ لا أمل له في إنقاذ الأسير، قرّر أنْ يهرب قبل أنْ يُكتشف أمره، متعلِّلا بقضاء الحاجة والوضوء للصّلاة، وهكذا فرّ وعاد بخفي حنين إلى مركزه".

وعن بعض الاستفزازات العنصرية التي كان يمارسها جنود الاحتلال ضد الجزائريين، حتى من المجندين في الجيش الفرنسي، مما يبعث في نفوسهم بعض الحمية فتحدث نتائج مفيدة للثورة والوطن، يروي المجاهد عبد العالي مجاوي إحدى هذه الحالات فيقول: "وقع ذلك في إحدى  الثكنات العسكرية، بباتنة، كان المسؤول عليها مُلازم فرنسي مُتخرّج من المدرسة العليا لضبّاط فرنسا، وصالح نزار كان مُساعدا له، وفي إحدى جولات التفتيش، رأى المسؤول جنودا جزائريين تابعين له وكانوا يحرسون، فقال لهم؛ إنه عوض المكوث جميعكم مكتوفي الأيدي، فليُبادر بعضكم ببناء سور صغير، علّه يحميهم إذا ما حدث شيء، ففعلوا، وبنوا السور، ومرّ ذلك المسؤول بعد يومين، ورأى السور، ولكنّه لم يُعجبه، ودفعه برجله فتهدم، فقال؛ إنّ هذا "عمل عربي" ما يعني أنّ العمل العربي عادة ما يكون رديئا، فاستاء صالح نزار الذي كان برفقته من هذه العبارة، واعتبرها إهانة، بل جعلته يُقرّر أن ينتقم من ذلك المسؤول، ويُريه كيف يكون "العمل العربي"! فاتّصل بالثوّار، وقال لهم؛ إنّه مستعد لمُساعدتهم في الهجوم على الثكنة والاستيلاء على كلّ السلاح الموجود فيها، والقضاء على مسؤوليها، ففعل، واستولى الثوّار على الثكنة، فقال صالح نزار الثائر لذلك المسؤول العنصري: "هل رأيت كيف يكون العمل العربي؟".

وعن الخيانات والمؤامرات الغريبة والطريفة، التي كانت تقوم بها الإدارة الاستعمارية لقمع الثورة، يروي المجاهد حسين زهوان أحد هذه الأعمال الخسيسة المعقدة فيقول: "علمت السبب بعد تلك الحادثة، إذ إنّ بلقاسم كريم قدم في ذلك اليوم للاتصال باللجنة الثورية للوحدة والعمل الذين كانوا يُحضرون للثورة، بعد أن ربط بينهم مصطفى بن بولعيد. هذا الأخير قال؛ إنه لا يُفجّر ثورة يغيب عنها من حمل السلاح منذ سنة 1947،  وكان يقصد بلاد القبائل. وتمّ الاتصال بين الطرفين بعد حادثة وقعت لمناضل من منطقة القبائل، أرسلته الحركة الوطنية لمنطقة الأوراس لكي يختفي فيها، واسمه أعراب اعمر، وظلّ مختبئا عن الأعين لمدّة، غير أنه انهار معنويا، وسعى لأن يُسلّم نفسه إلى السُلطات الفرنسية، واتّصل بالمسؤول الفرنسي، فوافق على أن يعفو عليه على أن يُثبت حُسن نيّته في تسليم نفسه، وذلك بإنجاز عملية في صالح فرنسا، فقتل أحد زملائه، ويُدعى زناتي، وقطع له أصبعه، كدليل على حسن نيته تجاه السلطات الفرنسية، غير أنّ المسؤول الإداري الفرنسي، الذي كان يعلم أنّ أعراب من منطقة سيدعلي بوناب، قال له؛ إنّ هذا لا يكفي، ودعاه لأن يُنجز عملا آخر، وهو القبض على أوعمران وبلقاسم كريم حيّين، أو يقتلهما. فغادر أعراب الأوراس فجأة، ودون سابق إنذار، وهو ما جعل بن بولعيد يشكّ في أمره، ويُرسل تحذيرا إلى المُناضلين قائلا؛ إنّ شُكوكا تحوم حول الرجل بشأن مقتل المناضل زناتي. وبعد الحادثة بأيّام قلائل قدم أعراب إلى بلكور، والتقى بأوعمران الذي كان على اطّلاع بتحذير بن بولعيد، فمشى الاثنان، مع مُناضلين آخرين، وهما محمد حمداش، وموحيس، ومرّوا ببلكور وحديقة التجارب، إلى أن وصلوا إلى غابة وادي المرأة المُتوحّشة، فهاجم  أوعمران الرجل، ولكنّ هذا الأخير استطاع أن يستدرك الوضع، ويتحكّم في أوعمران الذي نادى على صاحبيه، فقدما، وحينها فرّ وأعراب، فأطلق عليه أوعمران رصاصة فأصابه بها في ظهره فسقط في الوادي، وعندما سمع حارس الغابة ضجيجا، حاول أن يطلع على ما حدث، غير أنه رأى المُسدّس في يد أوعمران فاختبأ، ولكن أعراب لم يمت".

وتحكي المجاهدة باية مروك قصة أحد الخونة (من طويلي العمر)، فتقول: "عمر البياع (مثلما كنا نناديه)، كان مجاهدا ثم خان، وصار يعمل مع العدو، فحاول المجاهدون في مرات كثيرة أن يتخلصوا منه، ولكنهم لم يستطيعوا، وفي مرة كان هناك مجند في الجيش الفرنسي، جاء في رخصة، وأراد الالتحاق بالمجاهدين، فأمروه أن يقتل هذا الخائن، فذهب وراءه، وضربه بالسكين، ولكنه لم يمت، وأنا قبل ذلك، كنت أعرف حورية (زوجته الثانية)، وهي صديقة طفولة، فأعطاني المسؤولون قنبلة لكي أضعها تحت سريره، ولكنها لم تفتح لي الباب، وذلك لأنه كان يغلق عليها قبل أن يخرج؛ لأنه لم يكن يثق في أي أحد!".
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم