كتاب عربي 21

هل حمى الجيش الثورة ؟!"4"

1300x600
كان نزول الجيش في يوم جمعة الغضب (28 يناير 2011) لتقديم المؤن والذخيرة للشرطة، التي نفذت ذخيرتها في هذا اليوم، ولم يأت لحماية الثورة، أو الذود عن الثوار كما تصور الذين استقبلوا مدرعاته بالهتاف، لأن القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو في الوقت ذاته "حسني مبارك"، هو صاحب قرار نزوله!

وعندما فشل الجيش في المهمة، لم تتغير الاستراتيجية، وإنما تغير التكتيك، ورابطت الدبابات أمام مداخله، لمراقبة المشهد، والبحث عن خطة بديلة لإنهاء الثورة بعد أن كانت رسالة الثوار في اليوم الأول كاشفة عن أن التأييد لن يستمر إلى ما لا نهاية، فهو محكوم بتصور، فإن خالفت الممارسات هذا التصور، فستكون النظرة الجديدة إليه على أنه في حكم قوات الشرطة، وعند "أول حركة غدر"، تمثلت في إغراق الميدان بالقنابل المسيلة للدموع، كان التعامل مع مدرعاته على أنها أهداف، من الذين هتفوا قبل قليل للجيش وظنوا أن نزوله هو لحمايتهم من الشرطة التي تذبحهم! 

في بعض المنافذ، جرب ضباط الجيش تعويق دخول المتظاهرين للميدان، وكان الأسوأ هو مدخل "كوبري قصر النيل"، والذي كان قائد القوة المرابط فيه يمارس التعنت في كثير من الأحيان، وهو المدخل الذي يستمد أهميته من استقبال الأعداد الأكبر سواء في يوم "جمعة الغضب"، أو في غيره من أيام الثورة، لأنه خاص بالقاطنين في محافظة الجيزة وضواحيها!

أكثر من مرة قيل لي إن عليَّ الدخول من "مدخل المتحف المصري"، وكان يجب أن أصل إليه عن "طريق رأس الرجاء الصالح"، وذات يوم قال لي أحد الضباط ضمن القوات المرابطة في ميدان عبد المنعم رياض، أن هذا المدخل ليس خاصا بالقادمين من الجيزة وينبغي أن أعود أدراجي من حيث جئت حيث مدخل "كوبري قصر النيل"، وقلت لكبيرهم لقد قال زميله عكس ما قال، فسمح لي بالمرور على مضض!

ذات يوم، كان تصرف قوات الجيش عند "مدخل المتحف"، على أساس أن "ميدان التحرير" أرض في قبضة العدو، وينبغي تحريرها، فأخذت تحررها شبرا شبرا، بدأت الدبابات في التحرك إلى داخل الميدان، غير مبالية باحتجاج المتظاهرين، الذين لم يجدوا من وسيلة لوقف تحركها إلا أنهم ناموا تحت عجلاتها، وكان معظم هؤلاء الذين أوقفوا الزحف لداخل التحرير هم من شباب جماعة الإخوان المسلمين، وقيادتهم كانت للدكتور محمد البلتاجي، الذي أبعد عن المشهد بقرار من التنظيم عندما ظن القوم أنهم فتحوا مكة، ولم تكن مكة قد فتحت، فتمكن العسكر من الانقلاب بسهولة في غيبة "ثوار الجماعة"، وكان الحكم يعتمد على الودعاء المسالمين الذين يتمتعون بحسن النية وسلامة الطوية!

كان تقدم الدبابات خطوة للأمام لن يمر إلا على أجساد هؤلاء الشباب، ولم يكن الجيش حريصا على أن يشارك في الدم؛ لأن هذا سيحول قواته إلى أهداف لبعض المتظاهرين كما حدث بعد الترحيب بالقدوم في يوم جمعة الغضب!

وفشلت المهمة، وكان هناك توافق بين الجميع على عدم تمني هذه اللحظة التي يحدث فيها الصدام بين الشعب وقواته المسلحة، والتي كانت لها مكانة مقدسة في قلوب المصريين، لم تهتز بالتفاصيل التي جرت في أيام الثورة، ولكن هذا الإيمان تزعزع بسبب ما أقدم عليه السيسي في 3 يوليو من انقلاب عسكري على الرئيس المنتخب، وزج بالجيش في مهمة فض المظاهرات، ومن أجل حماية قراره، وتثبيت أركان حكمه بقوة الدبابة!

وهذه المكانة كان يعرفها المشير محمد حسين طنطاوي في فترة حكم المجلس العسكري، فحرص على رفض الفصل بين الجيش والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وكان يغضب بشكل يخرجه عن شعوره عندما يقول أحد أمامه إن معارضة الثوار لحكمه لا تعني نيلهم من الجيش المصري، ويقول إن المجلس العسكري هو عنوان الجيش المصري. كما جرى في لقائه مع قيادات البرلمان الذي تشكل بعد الثورة.

كان المشير، وهو من الاختيار الحر المباشر لمبارك، يحتمي في مكانة الجيش وموقعه في قلوب المصريين، ليضفي قدسية على تآمره على الثورة، وعلى سياساته واختياراته التي تنتمي للثورة المضادة، وعمله على مد فترة حكمه لتكون مدى الحياة!

فشلت مهمة "جس النبض" في تحرير "الميدان" من الثوار بواسطة الجيش، فكان "التكتيك الجديد" يحتم حماية من يقومون بذلك، وكانت "موقعة الجمل"!

وقد بدأت خطة الاستعداد لهذه الموقعة في اليوم السابق لها، وتقوم على حصار "الميدان"، فيمنع دخول الطعام والدواء إليه، واتصل بي أحد الزملاء ليخبرني أن أحد أقربائه يعمل طبيبا وقد قدم من محافظة المنوفية بطعام ودواء، ويريد أن يتواصل معي، والذي اتصل بي هاتفيا بدوره، لأشرح له طريقة الوصول من الميدان، ومن مدخل شارع "طلعت حرب"، وموقع المستشفى الميداني الذي سيسلم فيه الدواء، ولم أكن أعلم ما يدور في منطقة وسط البلد!

قبل غروب الشمس غادرت الميدان إلى مكتب أحد الزملاء، الذي يقع في منطقة "وسط القاهرة" وعلى بعد أقل من كيلو متر من "التحرير"، وراعني هذا الهدوء الذي يخيم على المنطقة، وفي كل شارع راعني وجود ثلاثة أشخاص يجلسون، أو يقفون، ومن الناحية الأخرى من الشارع تقف سيارة إسعاف، وكانت مهمتهم مصادرة الأدوية والطعام فيها، وتوجيه الأمر للقادمين للميدان بالعودة من حيث جاءوا!

كان خلو الشوارع المحيطة بميدان التحرير من المارة يضفي جوا من الخوف والرهبة، وهي الشوارع التي لم تكن خالية أبدا، رغم قرار فرض حظر التجول.

قدم لنا أحد الأصدقاء، وقد لفت انتباهه عملية مصادرة الأدوية، وكان الجو باردا كهذه الأيام، ويرتدي "بالطو"، يمنحه هيبة فتقدم نحو الثلاثة ليسألهم بحدة المسؤول: من أنتم؟!.. فهبوا واقفين ليجيبونه. فربما ظنوا لهيئته أنه من جهة سيادية، وفي تعريفهم تبين أن اثنين منهم يتبعون جهتين أمنيتين مختلفتين، بينما الثالث كان من "المواطنين الشرفاء"، وهو اللقب الذي أطلق على الشبيحة بعد الانقلاب العسكري، الذين أنيط بهم الاعتداء على المتظاهرين في حضور قوات الأمن!

عدت لميدان التحرير بعد أقل من ساعة، وبدا لي أنني أسير في صحراء لا زرع فيها ولا ضرع، فقد بدا الحصار من مناطق أبعد، ومهمة الثلاثة في كل شارع هي للذين تسربوا.. وعندما وصلت لتقاطع محمد فريد مع شارع عبد الخالق ثروت، رأيت صديقي المحامي "أحمد قناوي" يسير وحيدا في شارع طلعت حرب إلى "التحرير"، كنت كمن وجد من يؤنس وحشته في الصحراء فناديت عليه، وعندما وصلت إليه أخبرني أن قوات الأمن داهمت مركز هشام مبارك قبل قليل، وكان يقع على بعد خطوات منا، وألقت القبض على مديره "سيف الإسلام حمد" وعددا من المجتمعين فيه، عندها أدركت أن الأمر يتجه للتصعيد.

في اليوم التالي كانت موقعة الجمل، وكانت الخيل، والبغال، والحمير التي اقتحمت الميدان، قد جاءت سيرا لمسافة عشرة كيلو متر، وعلى مشهد ومرأى من قوات الجيش التي كانت مرابطة في الشوارع في هذه الفترة، وتحركت الدبابات لتفسح المجال لدخولها، فموضع وقوفها لا يسمح  لها بالمرور.

لقد ظهر للعالم كله أن قوات الجيش وقفت موقف المتفرج، ولم يحدث التحرك للحفاظ على هيبة القوات، حتى ونيران الغزاة تصل لمؤخرة إحدى الدبابات بالخطأ، حيث جرى التعامل معها على أنها "نيران صديقة"، فقد كانت المهمة الأكبر هي تحرير الميدان من الثوار، لكن هُزم الجمع وولوا الدبر!

قبل عملية الغزو، جاء عبد الفتاح السيسي مدير المخابرات الحربية للميدان، ليطلب من الدكتور "محمد البلتاجي" إخلاءه بهدوء من الثوار، قبل أن يضطر إلى إخلائه بالقوة، لأن أنصار مبارك في طريقهم إلى الميدان، ومن حقهم أن يحتشدوا في "التحرير"؛ ليعلنوا تأييدهم لرئيسهم المحبوب!

لقد رفض البلتاجي "أمر" السيسي، وفي اللحظة التي كان فيها الثوار يدحرون الغزاة، كان "أنصار مبارك" قد حضروا، فإذا بهم شبيحة يحملون الأسلحة البيضاء والسيوف وكرات اللهب، ليومين متتاليين، بوجود الجيش الذي لم يقم حتى بهشهم.

بعد يومين من موقعة الجمل، اتصل بي هاتفيا "قريب زميلي"، كان في وضع مأساوي، يضحك ثم سرعان ما يبكي، يخبرني أنه بخير، ويقول إنهم صادروا ما كان في حوزته من طعام ودواء، وإنهم اعتقلوه ليومين ويبكي، لكنه يطمئنني على صحته ويضحك. هل تعرض لتعذيب أو لإهانة لم يتصورها؟.. وربما حالته مردها إلى مجرد اعتقاله على يد من شاهد وهو في قريته عبر شاشة التلفزيون الثوار وهم يهتفون لقدومهم؛ لأنهم جاءوا لتأديب الشرطة التي ضربتهم في هذا اليوم؟!

بعد كل هذا يقولون إن الجيش حمى الثورة!