الذاكرة السياسية

التيّار القومي في الجزائر.. حاضر رغم شدّة الغياب

الوعي المزدوج (العربي والإسلامي) شكّل القاعدة الأساسيّة التي اعتمدتها النخب الجزائريّة منذ أن وطئ أوّل جندي فرنسي شواطئ سيدي فرج (ضواحي مدينة الجزائر العاصمة) عام 1830..(الأناضول).
لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار، ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

"عربي21"، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

اليوم يقدم الكاتب والإعلامي الجزائري نصر الدين بن حديد ورقة خاصة من حلقتين لـ "عربي21"، عن تاريخ التيار القومي في الجزائر، يعرض فيها لأهم ملامح علاقة الجزائريين بالفكر القومي أثناء وبعد الاستعمار..


                                                              نصر الدين بن حديد

حدّد الفكر القومي مصير عديد البلدان التي توصل إلى حكمها في الفضاء العربي، وكذلك شكّل التهديد الأهمّ للدول الأخرى التي عرفت حركات ذات توجه قومي متفاوتة القوّة. كما اختلفت التجارب في منطقة المغرب العربي مثلا من بلد إلى أخر.

ليبيا عرفت انقلابا عسكريّا أوصل العقيد معمّر القذافي ومجموعة من الضباط إلى الحكم، تماهوا مع الفكر الناصري الماسك للسلطة في مصر المجاورة.

في تونس يَعتبر المجاهد الأكبر (الحبيب بورقيبة) الحامل لفكر ليبرالي العلاقة الجيّدة مع المعسكر الغربي السبيل الأمثل للنهوض بالبلاد، ويرى في الحوار والمفاوضات الوسيلة الأفضل للحصول على الاستقلال على مراحل، على خلاف خصمه «الزعيم الأكبر» (صالح بن يوسف) المتبنّي للفكر القومي، الذي يعتبر العلاقة مع الشرق، مصر خصيصا السبيل الأوحد لتحقيق الاستقلال، الذي وجب تحصيله بشكل متزامن في جميع دول المغرب العربي، بفعل توحيد حركات التحرير في المنطقة.

الفكر القومي في الجزائر

حدّد بيان فاتح نوفمبر/تشرين الثاني 1954، الذي شكّل القاعدة الأيديولوجيّة التي اعتمدتها جبهة التحرير الوطني في الجزائر، إحدى أهدافه في "تحقيق وحدة شمال إفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي والإسلامي".

هذا الوعي المزدوج (العربي والإسلامي) شكّل القاعدة الأساسيّة التي اعتمدتها النخب الجزائريّة منذ أن وطئ أوّل جندي فرنسي شواطئ سيدي فرج (ضواحي مدينة الجزائر العاصمة) يوم 14 جوان/حزيران 1830، بدءا بالمقاومة المسلّحة التي قادها الأمير عبد القادر، مرورًا بعديد الانتفاضات الأخرى، وصولا إلى تأسيس جبهة التحرير الوطني.

الجزائر تملك تعريفًا خاصّا وتنفرد بتفسير على حدة، لمفهوم "القوميّة"، علمًا وأنّ هذا اللفظ في ذاته غير متداول في هذه البلاد، حين يتمّ الحديث عن "اللغة الوطنيّة" أيّ اللغة العربيّة، على اعتبارها تلعب أكثر ممّا هو دور اللغة عادة.
لم يتبلور في الجزائر سواء زمن الاستعمار أو بعد استقلال البلاد، تيّار "قومي" على شاكلة ما هو قائم في المشرق العربي من تنوّع يشمل "الأحزاب البعثيّة" بشقيّها السوري والعراقي، والتيّار الناصري، وحتّى "العصمتي" (نسبة إلى المفكر القومي المصري عصمت سيف الدولة)، نهاية بالنظرية العالمية الثالثة، الاطروحة السياسية التي قدمها العقيد معمر القذافي في أوائل سبعينيات القرن الماضي.

لم ينشأ الوعي "العروبي والإسلامي" في الجزائر على خلفيّة صراع ، كما هو الحال في المشرق العربي، بين أيديولوجيات تشقّ المجتمع المحلّي، بل يمكن الجزم أنّ العمق الشعبي كما النخب، تعتبر التمكّن من اللغة العربيّة كاف للانتماء إلى الهويّة العربيّة الاسلاميّة، سواء في بعدها الثقافي والحضاري، أيّ الوقوف في وجه اللغة الفرنسيّة، أو السياسي، مواجهة الاستعمار ذاته...

اللغة العربيّة الرافعة الأفضل للانتماء الوطني

سعى المستعمر الفرنسي إلى اجتذاذ اللغة العربيّة، حين منع مرسوم 24 كانون الأوّل (ديسمبر) 1904 أي معلم من فتح مدرسة قرآنية إلا بترخيص من السلطات بعد التزامه بجملة من الشروط التعجيزية، التي تمس بكرامة الجزائريين وهويتهم.

كذلك اعتبر قانون 8 آذار (مارس) 1938 المعروف بقانون شوطون اللغة العربيّة، «لغة أجنبيّة»، وحظر استعمالها وتعليمها.

شكّلت "جمعيّة العلماء المسلمين" التي تأسّست في 05 أيار (مايو) عام 1931 في مدينة الجزائر أحد أهمّ الفاعلين على مستوى "المقاومة الثقافيّة"، حين أعلنت أنّ هدفها يكمن في "التأكيد والحفاظ على هوية الجزائريين العربية والإسلامية"، كما "قيام نهضة عربية إسلامية بعيدة عن الخرافات".

الجزائر تملك تعريفًا خاصّا وتنفرد بتفسير على حدة، لمفهوم "القوميّة"، علمًا وأنّ هذا اللفظ في ذاته غير متداول في هذه البلاد، حين يتمّ الحديث عن "اللغة الوطنيّة" أيّ اللغة العربيّة، على اعتبارها تلعب أكثر ممّا هو دور اللغة عادة.

هذا الأمر يفسّر بقاء الصراع شديدًا مع الطرف الفرنسي بخصوص مكانة لغة المستعمر السابق، علمًا وأنّ باريس تعتبر "البلدوزر الثقافي" وخاصّة "اللغوي"، رأس حربة سواء لفتح الأسواق أو ديمومة استغلالها.

رغم غياب أيّ وجود فعلي وفاعل لأيّ شكل من أشكال الانتماء الأيديولوجي لأيّ من التيّارات القوميّة (ضمن التعريف القائم في المشرق العربي) تعيش الجزائر معركة "اللغة" سواء في شكلها المجرّد (أيّ الاستعمال) أو الأبعاد الثقافيّة والحضاريّة، في تغييب تام أم يكاد للبعد الأيديولوجي، حين يجد "اليساري العروبي" ذاته أقرب إلى "الإسلامي العروبي" من "اليساري الفرنكفوني"، بل نادرًا ما يتّخذ السجال حول اللغة بعدًا أيديولوجيا مجرّدا، وفق التصنيف المتعارف عليه.

اللغة "سلاح الداخل"

التيّار الفرنكفوني في الجزائر يعتبر المتمكّن من اللغة العربيّة خصمًا / عدوّا، مهما كانت الأيديولوجيّة التي يعتنقها، بل يتمّ الإشارة في انتقاص إلى الإسلاميين والقوميين جماعة دون أدنى تمييز بين هذا التوجه وذاك.

من ذلك اتّخذت قضيّة "التعريب" منذ ستينيات القرن الماضي بعدًا سياسيّا، إن لم نقل وجوديّا، حيث شهدت البلاد ولا تزال "حرب مواقع" بين الطرفين بين كلّ من التيّار العروبي ونظيره المتبنّي للغة الفرنسيّة، في تراوح بين خطاب رسمي يعلن التزامه بالتعريب وفقا لما ينصّ عليه الدستور، وواقع جعل الأمر سجالا بين المعسكرين، علمًا وأنّ أوساط فرنسيّة عديدة تعبر، بل هي تصرّح أنّ التعريب يمثّل ضربة قاتلة لنفوذ هذه الدولة التي تريد تخليد إرثها في الجزائر.

من ذلك يتمّ فهم الرئيس الراحل هواري بومدين حين صرّح "قضية التعريب هي مطلب وطني وهدف ثوري، ونحن لا نفرق بين التعريب وبين تحقيق أهداف الثورة في الميادين الأخرى".

التيّار الفرنكفوني في الجزائر يعتبر المتمكّن من اللغة العربيّة خصمًا / عدوّا، مهما كانت الأيديولوجيّة التي يعتنقها، بل يتمّ الإشارة في انتقاص إلى الإسلاميين والقوميين جماعة دون أدنى تمييز بين هذا التوجه وذاك.
اعتبار "التعريب ضمن أهداف الثورة" يفسّر البعد الأيديولوجي لرهانات اللغة المعتمدة في الجزائر، حين ترى قطاعات واسعة من النخب الجزائريّة أنّ الاستمرار في اعتماد اللغة الفرنسيّة، دليل على أنّ "الاستقلال منقوص" و"السيادة غير مكتملة"، ومن ثمّة يبقى ملفّ الخلافات مع فرنسا مفتوحًا وكذلك، العمل بغية تحقيق "الاستقلال اللغوي بالكامل".

بقدر ما يعجز التصنيف التقليدي للتيّارات ذات التوجه القومي ضمن المجال العربي عن تقديم صورة عن الساحة الجزائريّة، بقدر الجزم بوجود "وازع قومي" شديد الوضوح وكذلك شديد الارتباط بالخارطة "القوميّة" ضمن المجال العربي.

شكّل الصراع مع الأطراف "الانعزاليّة" ضمن المناطق ذات الغالبية الأمازيغيّة جزءا من الصراع السياسي منذ استقلال البلاد. صراع يدور في ظاهره حول مكانة أيّ من اللغتين العربيّة كما الأمازيغيّة، ومن ورائهما اللغة الفرنسيّة، ممّا جعل مسألة "الهويّة" في بُعدها العام واللغوي خاصّة، محلّ صراع لم يحسم بعد، وكذلك الانتماء إلى اللغة العربيّة أو رفضها، يحيل على موقف سياسي يحدّد الهويّة السياسيّة لأيّ طرف.