الذاكرة السياسية

عبد الرزاق مقّري: هذه قصتي مع حركة مجتمع السلم والعمل الإسلامي بالجزائر

رئيس حركة مجتمع السلم بالجزائر عبد العالي حساني شريف يكرم سلفه الدكتور عبد الرزاق مقّري (فيسبوك)
أقامت حركة مجتمع السلم الجزائرية "حمس" مساء أمس الجمعة إفطارها الرمضاني السنوي بالتزامن مع انعقاد الدورة الاستثنائية لمجلس شورى الحركة، بحضور قياداتها الجديدة والسابقة، وفيها تم الإعلان رسميا عن تسلم القيادة الجديدة بزعامة عبد العالي حساني شريف مقاليد إدارة الحركة للمرحلة المقبلة.

الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم عبد الرزاق مقّري، كتب بهذه المناسبة سردا موجزا عن أهم المحطات التي عرفتها الحركة وعلاقته بها، ننشرها في "عربي21" بالتزامن مع نشرها على صفحة الدكتور مقري الخاصة على "فيسبوك"، لأنها تسلط الضوء على جانب مهم من تاريخ الحركة الإسلامية في الجزائر..


يوم تاريخي

لقد تم البارحة تشكيل المكتب التنفيذي الوطني الجديد لـحركة مجتمع السلم في الدورة الاستثنائية لمجلس الشورى الوطني شهرا بعد المؤتمر كما ينص عليه القانون الأساسي للحركة، وقمنا بمناسبة الإفطار السنوي الذي نظم في نهاية دورة المجلس بحضور أعضائه والضيوف من الدبلوماسيين ورؤساء الأحزاب والمنظمات بتسليم المهام للقيادة الجديدة، وهذا اليوم هو يوم تاريخي بالنسبة إلي إذ لأول مرة بعد قرابة نصف قرن من الزمن أغادر الهياكل التنظيمية لأدخل مرحلة جديدة لم أعرفها من قبل، لا أتحمل فيها أي مسؤولية تنظيمية بعد أن قضيت حياتي كلها مسؤولا في مختلف المستويات التنظيمية على النحو التالي:

ـ كانت المرحلة الأولى في آخر سنة من الطور المتوسط وفترة الطور الثانوي في النصف الثاني من عقد السبعينات حيث كنت شابا صغيرا من الطليعة الأولى المؤسسة للعمل الإسلامي في المسيلة تحت قيادة الشيخين الفاضلين صاحبي الفضل علي بعد الوالدين في التربية والتنشئة على الالتزام الديني والأخلاق الإسلامية والدعوة الإسلامية: الشيخ محمد مخلوفي والشيخ أحمد بوساق.

ـ ثم المرحلة الثانية: مرحلة الجامعة في جامعة سطيف، في النصف الأول من الثمانينيات التي كانت مرحلة التنشئة القيادية العملية الميدانية بكل معانيها والتعرف على الحركات الإسلامية وقادة الصحوة، وكان العمل الدعوي فيها بين الجامعة والمسيلة توليت فيها مسؤوليات كثيرة ومتنوعة.

ـ ثم المرحلة الثالثة، في النصف الثاني من الثمانينيات، وهي مرحلة تولي القيادة والانخراط في العمل الإسلامي على المستوى الوطني والدخول في مسارات تاريخية كان لها تأثير كبير على ما بعدها بخصوص مسيرتي الدعوية والسياسية وبخصوص تحولات كبرى في تاريخ الحركة الإسلامية والتطورات السياسية في البلاد.

ـ المرحلة الرابعة: وهي المرحلة التي انتهت البارحة وهي تنقسم ذاتها إلى ثلاث مراحل أخرى:

ـ المشاركة في التأسيس الرسمي لحركة المجتمع الإسلامي (حمس لاحقا) سنة 1991 وعضوية المكتب التنفيذي الوطني (الأمانة الوطنية للإعلام لمدة وجيزة، الأمانة الوطنية للجالية إلى 1998، الأمانة الوطنية  لحقوق الإنسان والعلاقة مع المجتمع المدني، رئاسة الكتلة البرلمانية، مسؤوليات خارج الوطن) تحت قيادة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله تعالى إلى غاية وفاته سنة 2003، وقد دامت أكثر من 12 سنة، وقد كانت مرحلة ممتعة ومفيدة جدا عملنا فيها على حماية البلاد والحركة بنشاط منقطع النظير في الداخل والخارج ضمن ظروف سياسية وأمنية خطيرة جدا. وكان فضل الشيخ محفوظ فيها علي كبيرا بما أخذت منه من أخلاق وفكر ومهارات وعلاقات رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته.

ـ نائب رئيس الحركة في عهد الشيخ بوجرة ذكره الله بخير لعشر سنوات (2003 ـ 2013)، وهي مرحلة صعبة ومعقدة جدا بسبب الخلافات التي وقعت بعد وفاة الشيخ محفوظ نحناح ولكن أهم ما وفقني الله إليه في عهدتها الأولى المساهمة الأساسية والحاسمة في المحافظة على الحركة ومنعها من الانهيار بتمسكي بشرعية المؤسسات ثم المساهمة الكبيرة في التطوير من خلال مسؤوليتي في مهمة التخطيط والتدريب التي رسخت المعالم التخطيطية وترقية الموارد البشرية التي كانت نواة التطور الكبير الذي عرفته الحركة لاحقا.

ها أنا أغادر مرتاح البال والضمير، عزيزا كريما بحمد الله، تجمعني بقادة ومناضلي الحركة علاقات الحب والود والتقدير والاحترام، وسيبقى يجمعنا واجب التعاون على البر والتقوى، في الفضاءات الوطنية والدولية الفسيحة، وفي إطار حركة مباركة باتت تسير على مناهج تجديدية في مختلف المجالات في موقع سياسي ريادي
كما كانت العهدة الثانية في هذه المرحلة صعبة جدا كذلك بسبب الخلافات في الرؤى السياسية  إلى أن جاءت الأحداث الكبرى في الجزائر وفي العالم العربي سنة 2011 فدعمت استشرافاتي وآرائي السياسية فحملتني تلك التحولات إلى رئاسة الحركة، ضمن أقدار الله التي لم يكن لي فيها أي إرادة ولا مسؤولية، وكان ذلك بأغلبية أكثر من ثلثي الأصوات سنة 2013 زادت نسبتها في مؤتمر عهدتي الثانية سنة 2018.

ـ رئيس الحركة لعهدتين لمدة عشر سنوات (2013 ـ 2023) يعتبرها الكثير مرحلة تأسيس ثانٍ للحركة ضمن ظروف جديدة تطلبت منا التطوير والتجديد لكي نحافظ على المكتسبات وننطلق من جديد،  وقد عرضنا تقريرا شاملا على ما تم إنجازه في هذه المرحلة على المستوى السياسي والمؤسسي والتنظيمي ضمن مؤشرات قابلة للقياس، وقد صادق المؤتمرون على التقرير بالإجماع وقد ننشره أو ننشر فقرات منه لاحقا.

لقد كانت هذه المراحل الخمسة عامرة بالأحداث، ولو وفقت لكتابة تفاصيل أطوارها ستستفيد الأجيال منها كثيرا وتكون كتابتها مرجعا أساسيا في دراسة وفهم الحركة الإسلامية من داخلها وتفاصيل التطورات الفكرية والاجتماعية والسياسية في الجزائر، ولا أظن أنني سأجد الوقت لكتابة ذلك الآن لأنني لا أنوي التقاعد فأنا أتأهب للدخول في المرحلة الخامسة بحول الله تعالى.

ها أنا أغادر

ها أنا أغادر كل تلك المراحل السابقة، من عضو في أسرة تربوية إلى رئيس أسرة، من عضو مكتب ناحية إلى رئيس مكتب ناحية، إلى عضو مكتب منطقة ثم رئيس مكتب منطقة، إلى عضو مكتب جهة ثم رئيس مكتب جهة (حسب أسماء مرحلة السرية)، إلى رئيس مجلس شورى وطني، ثم عضو مؤسس للحركة رسميا وعند الخروج إلى العلانية التنظيمية، إلى أمين وطني في المكتب الوطني إلى نائب رئيس الحركة إلى رئيس الحركة.

ها أنا أغادر  مرتاح البال والضمير، عزيزا كريما بحمد الله، تجمعني بقادة ومناضلي الحركة علاقات الحب والود والتقدير والاحترام، وسيبقى يجمعنا واجب التعاون على البر والتقوى، في الفضاءات الوطنية والدولية الفسيحة، وفي إطار حركة مباركة باتت تسير على مناهج تجديدية في مختلف المجالات في موقع سياسي ريادي وبهياكل ومؤسسات قوية ومستقرة ومنسجمة وفاعلة في مختلف مجالات الخير والبر لصالح بلدنا وديننا، ومنظومة قيادية ذات كفاءة ونزاهة وأخلاق وعلاقات ممتدة في كل الاتجاهات، وسمعة طيبة ومكانة مرموقة عند الجميع في الداخل والخارج بحمد الله تعالى.

ها أنا أغادر الهياكل القيادية للانخرط في النضال بلا مسؤوليات ضمن تجربة جديدة لا أعرفها، وفي قلبي مقاصد نبيلة وفي عقلي أحلام كبيرة وبعزيمة أقوى من الجبال وهمة تعانق السحاب لأواصل المساهمة في خدمة بلدي وأمتي وفلسطين والبشرية جمعاء دون ذلك الشعور المتعب المضني الشاق التي يكون على عاتق المسؤول الحزبي في بيئة صعبة وظالمة ومعقدة تتطلب في كل لحظة كمية كبيرة من التقديرات والتوازنات والجهد والوقت يكاد ينسى صاحبها  كل شيء يتعلق بحياته الشخصية، وحتى قناعاته الشخصية في بعض الأحيان حفاظا على من هم معه وما  يكون مسؤولا عليه.

ها أنا أغادر المسؤوليات الحزبية وعمري 63 سنة، لم أحقق الوصول إلى السلطة لأنه لا توجد ديمقراطية في بلادنا إلى الآن، ولأن الوصول للسلطة في بلادنا والبلاد المتخلفة لا علاقة له بالنضال السياسي ولو قضيت فيه كل عمرك ولا علاقة له بالكفاءة ولا بالتضحيات، ولكني حققت بفضل الله تعالى كل أهدافي التي رسمتها في مختلف المجالات الفكرية والدعوية والسياسية والتنظيمية وبنيت بفضل الله أجيالا من الموارد البشرية والمؤسسات في مختلف المجالات الخادمة للدين وللوطن وللأمة في الداخل والخارج، وأثناء ذلك كله لم أضيع أسرتي فحققت في حياتي العائلية بحمد الله وفضله ومنّه سبحانه ما يتمناه كل رب أسرة بصلاح الأولاد ونجاحهم في دراستهم والكفاف والعفاف في حياتهم، وبسيرهم جميعا على نهج والدهم في خدمة دينهم ووطنهم في الحركة وفي مختلف مجالات العمل والنضال.

ها أنا أغادر المسؤوليات الحزبية لأخوض تجارب جديدة، وأنا في سن الثلاثة والستين، بشعور كبير بالرضا، والشعور بالحرية  والهوامش الواسعة لاستكمال المسيرة وأهداف أخرى كبيرة، ويبدو أن الحياة ستكون جميلة ونافعة وممتعة إن شاء الله تعالى. اللهم آمين.