قضايا وآراء

الفن بين الرسالية والربحية.. مسلسل "الفلوجة" أزمة إبداع أم أزمة مجتمع؟

كيف يمكن التعامل مع المحتوى التلفزيوني؟- عربي21
1- عمق الأسئلة وعشوائية المواقف

هل الفن مقصود لذاته أم هو وسيلة لتحقيق أهداف أخرى؟ ما علاقة الفن بالواقع؟ وهل هو حرفة لتحصيل منافع مادية أم هو موهبة لتحقيق اللذة الذوقية وإنعاش الروح؟ ما هي حدود الواقعية في الفن؟ ما هي ملامح العلاقة الجدلية بين الفنان والمجتمع؟

هذه الأسئلة وغيرها كثير طُرحت دائما كمبحث من مباحث الفلسفة والفن والدين والأدب والثقافة وحتى السياسة، وما من مبحث نظري إلا وفيه أقوال مختلفة وحتى متعارضة لأسباب متعلقة بالباحث وبطبيعة المبحث؛ كونه ليس مبحثا علميا تحكمه قوانين الطبيعة ومبدأ السببية.

تُطرح هذه الأسئلة الآن في تونس وبصيغ مختلفة بمناسبة عرض قناة تونسية لمسلسل بعنوان "الفلوجة"، وهو مسلسل اعتبره كثير من المتابعين مسيئا للقيم وللأسرة وللمؤسسة التربوية، لكونه يعرض ما يحصل داخل تلك المؤسسات من ممارسات، لا علاقة لها بعالم المعرفة والعلوم والفنون؛ باعتبارها من مهام المعلم والمتعلم، وإنما لها علاقة بمكامن البشر الغرائزية وبواعثه الشهوانية خارج ضوابط القانون وقيم المجتمع وتقاليده.

إضافة إلى كون العنوان "الفلوجة" يُحيل إلى مدينة الفلوجة العراقية التي تعرضت عام 2003 إلى قصف أمريكي بالفوسفور الأبيض، وهو مادة مبيدة للبشر وملوثة للتربة وللمائدة المائية، هذه التسمية تبعث على استنتاج كون صاحب العمل "الدرامي"، إنما يروج لمعنى الإبادة الثقافية والقيمية، سواء بما هي "واقع" أو بما هي "مطلب".

بعض المثقفين كتبوا في المسألة، وفيهم من دعا إلى التعامل بعقلانية مع هذا العمل "الفني" بعيدا عن التخوين والترذيل، وفيهم من اعتبر أن الحل سهل وهو المقاطعة؛ لأن مجرد التنديد والاتهام هما دعاية مجانية لهذا العمل.

من المحامين من رفع قضية للمطالبة بإيقاف بث المسلسل، كما تقدمت نقابة التعليم الثانوي بشكاية لوزير التربي،ة تطلب منه فتح تحقيق في عملية تصوير المسلسل داخل أحد المعاهد الثانوية، وتشير إلى احتمال وجود شبهة فساد وارتشاء.

صفحات التواصل الاجتماعي شهدت موجة من التنديد، وصلت حد اعتبار صاحب البرنامج مكلفا بمهمة تدمير المجتمع التونسي، بالنظر إلى كون كل أعماله منذ 2011 هي في نفس الاتجاه باسم الواقعية، وباسم وضع المجتمع أمام المرآة ليرى نفسه "عاريا".

بعض المثقفين كتبوا في المسألة، وفيهم من دعا إلى التعامل بعقلانية مع هذا العمل "الفني" بعيدا عن التخوين والترذيل، وفيهم من اعتبر أن الحل سهل وهو المقاطعة؛ لأن مجرد التنديد والاتهام هما دعاية مجانية لهذا العمل، وقد قيل بأن الحلقة الثانية من المسلسل شهدت متابعة مليونين من التونسيين، وهو ما لم يحصل مع الحلقة الأولى، التي لاقت ردود فعل واسعة؛ فكانت النتيجة عكسية.

وزير التربية عجز عن اتخاذ موقف وأحال المسألة إلى رئيس الجمهورية، لكونه "يمتلك نظرة شمولية عن المجتمع..".

2- الواقعية بين الرسالية والغرائزية

ما يُعرف بـ"تلفزيون الواقع". وتعود فكرة "تلفزيون الواقع" إلى مطلع سبعينيات القرن العشرين في أمريكا، و"تلفزيون الواقع نوع من البرامج التلفزيونية، يسلط الضوء على ظاهرة اجتماعية أو نشاط بشري معين، عبر تتبع الحياة اليومية لمجموعة من الأفراد، سواء كانوا مشاهير أو أشخاصا عاديين، ينتخبون في إطار برنامج على شاكلة المسلسلات التلفزية".

وقد شهدت تجربة "تلفزيون الواقع" ازدهارا في تسعينيات القرن العشرين، خاصة في أمريكا الشمالية وأوروبا، وقد استنسخ عديد المنتجين التلفزيونيين التجربة في البلاد العربية خاصة لبنان وتونس، فكانت برامج تطرح فيها قضايا أسرية لا في معناها المعيشي ولا في معناها النجاحي التفوقي الإبداعي؛ وإنما في معناها "الفضائحي" خاصة في مجتمع محافظ له قيمه وتقاليده، وهو يواري معاصيه وانحرافاته، لا نفاقا وإنما احتراما لتقاليد مجتمعه ولعلاقات الجيرة والصداقة وصلات الرحم، ولكن تلك البرامج وتحت عنوان "الواقعية" ومصارحة الناس بحقيقتهم، تحرص على النبش في تفاصيل المشاكل والخصومات والموبقات داخل الأسرة، وتعمل على تقديم بث حي لعملية "تفاضح" بين زوجين أو بين بنت ووالدتها أو ابن ووالده.

الكثير من المشتغلين تحت عنوان "الواقعية"، إنما هم واقعون تحت سلطة الشهوة والغريزة، وهم جزء من أزمة المجتمع؛ بسبب جشعهم ونهمهم وتكالبهم على الأعمال الربحية، التي لا علاقة لها بفن ولا برسالة المصلحين والمثقفين وعلماء النفس وعلماء الاجتماع، إنهم يقومون بتحريك الغرائز وتهييج الشهوات؛ بمزيد "تعرية" المجتمع وكشف "عوراته".

تلك "واقعية" فضائحية وليست واقعية موضوعية تقوم بعملية تفكيك للظواهر؛ بهدف معالجتها أو المساعدة على فهمها والدفع نحو تجاوزها، فالواقعية لا تعني الغرق في الواقع بتشوهاته وانحرافاته وعاهاته، إنما تعني بذل الجهد العلمي والعملي في الفهم والمعالجة.

3- بين جشع "الواقعين" وهشاشة "الموقعين"

إن كثيرا من المشتغلين تحت عنوان "الواقعية"، إنما هم واقعون تحت سلطة الشهوة والغريزة، وهم جزء من أزمة المجتمع؛ بسبب جشعهم ونهمهم وتكالبهم على الأعمال الربحية، التي لا علاقة لها بفن ولا برسالة المصلحين والمثقفين وعلماء النفس وعلماء الاجتماع، إنهم يقومون بتحريك الغرائز وتهييج الشهوات؛ بمزيد "تعرية" المجتمع وكشف "عوراته". هؤلاء وهم في طريقهم إلى تحقيق الربح، يدوسون على المشترك من القيم والأخلاق والأعراف، لا تعنيهم إلا مصالحهم الخاصة.

وبقدر سلبية النخبة المثقفة الواعية وعدم تحملها مسؤولية إنتاج المعنى وتهذيب الذائقة وتحصين الذات، بقدر ما ينجح الجشعون في إشاعة التفاهة والسخف، وفي تدمير قيم المجتمع وهتك أسراره.

إن المجتمعات الواعية لا تخشى مثل هؤلاء الجشعين صناع التفاهة، بل إنها تسخر منهم ولا تنتبه إليهم ولا تنشغل بهم، ولا تجد انجذابا ذوقيا ولا ذهنيا لما يروجونه باسم "الواقعية" وباسم الأعمال الفنية من تفاهة وسُخف وانحراف.

المجتمعات التي لا تُعلي من شأن المبدعين والنوابغ وأصحاب الاكتشافات العلمية، والتي تهتم بالتافهين ولا ترى النجاح إلا بمعايير الكسب وجمع المال، هي مجتمعات رخوة هشة، وهي بيئة مواتية لنشر التفاهة والسخف، ولن ينفعها احتجاج بعض الأصوات المنددة بأعمال "فنية" رديئة، بل الأرجح أن غالبية مجتمعات التفاهة ستنتصر لمن يسخر منها، وستواجه من يدافع عن قيمها وكرامتها وإنسانيتها.

ردود الفعل العشوائية ضد أي ممارسة "خادشة" أو "شاذة"، إنما تعبر عن "هشاشة" في الشخصية، وعن حالة خوف وعجز، بل عن حالة خواء معرفي وفني وإيماني، وعن كسل ذهني يدفع أصحابه إلى التعجيل بتوقيع مواقف الإدانة والتنديد.

جاء في تقديم د. مشاعل عبد العزيز الهاجري لكتاب "نظام التفاهة" للفيلسوف آلان دونو (ص: 52):

"ما يجعل من تافهي مشاهير السوشال ميديا والفاشينستات يظهرون لنا بمظهر "النجاح"، يُسأل عنه المجتمع نفسه، الذي دأب على التقليص التدريجي لصور النجاح التي تعرفها البشرية ككل (العمل الجاد، والخير للأهل، والمواطنة الصالحة، وحسن الخلق، والأكاديميا، والآداب والفنون والرياضة.. إلخ)، فألغاها جميعا من قائمة معايير النجاح، حتى اختزلها في المال فقط، فلم يُبق إلا عليه وحده معيارا".

إن ردود الفعل العشوائية ضد أي ممارسة "خادشة" أو "شاذة"، إنما تعبر عن "هشاشة" في الشخصية، وعن حالة خوف وعجز، بل عن حالة خواء معرفي وفني وإيماني، وعن كسل ذهني، يدفع أصحابه إلى التعجيل بتوقيع مواقف الإدانة والتنديد. فالوعي عادة يكسب أصحابه هدوءا ورصانة وثقة بالنفس فلا يسهل استفزازهم، ولا ينجح صنّاع التفاهة في جرهم إلى ردود فعل متسرعة، لا تقوم على نقد علمي ولا تستند إلى حجج عقلية، ولا تخاطب عقول الناس ولا تكشف عن زيف أي عمل فني يقدمه التافهون باسم "الواقعية".

twitter.com/bahriarfaoui1