قضايا وآراء

تونس: هل كانت عشرية حمراء؟ (1-3)

أي تكمن محنة الديمقراطية في تونس؟- جيتي
1- "العشرية السوداء"

في موقع ويكيبيديا نجد هذا التعريف للعشرية السوداء: "الحرب الأهلية الجزائرية أو العشرية السوداء في الجزائر هي صراع مسلح قام بين النظام الجزائري وفصائل متعددة تتبنى أفكارا موالية للجبهة الإسلامية للإنقاذ والإسلام السياسي. بدأ الصراعُ في كانون الثاني/ يناير عام 1992 عقب إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 1991 في الجزائر والتي حققت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوزا مؤكدا..".

تلك العشرية راح ضحيتها أكثر من ربع مليون قتيل، ولم تبدأ الجزائر في تضميد جراحها إلا بعد ميثاق السلم والمصالحة الذي قدمه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، حيث تم إجراء استفتاء عامّ عليه في 29 أيلول/ سبتمبر 2005 وحصل على موافقة 97 في المائة، وتم تنفيذه باعتباره قانونا في 28 شباط/ فبراير 2006.

الذين أطلقوا تسمية العشرية السوداء على تجربة المسار الديمقراطي في تونس منذ نتائج انتخابات 2011 التي فازت فيها حركة النهضة، إلى 25 تموز/ يوليو 2021 حين فعّل قيس سعيد الفصل 80 من الدستور وأوقف المسار برمته وفتح مسارا سياسيا جديدا؛ هل كانوا يستدعون الصورة المرعبة للعشرية الجزائرية ويريدون التلبيس بها على التونسيين لإيهامهم بكونهم عاشوا عشرية حرب أهلية بين مؤسسات الدولة والتيارات الإسلامية والحال أنهم لم يعيشوها؟

لون السواد يُحيلُ إلى الأحزان واليأس وإلى الظلام، وهم يقصدون ذلك طبعا فهم يصمون الإسلاميين بالظلامية، كما يصورونهم دائما على أنهم عنيفون وغير ديمقراطيين.

وهذا الوصْمُ بالظلامية والعنف هل كان حُكما موضوعيا مستَخلصا بعد خوضهم تجربة حكم مع الإسلاميين؟ أم كان حُكما مُسبقا منذ فوز الإسلاميين بالانتخابات في تشرين الأول/ أكتوبر 2011 فكانت الأحكامُ السلبية استباقية؟

لا يمكن معالجة الأزمات دون قراءة موضوعية لعناصرها ودون مراجعات نقدية علمية وشجاعة تحدد المسؤوليات وتشير إشارات مباشرة إلى الأخطاء وإلى المخطئين دون تهرب من المسؤولية، ودون محاولة رمي "المولود" مجهول النسب في حاوية على قارعة الطريق أو الاكتفاء بتحميل "التهمة" لطرف واحد.

إذا كان خصوم الإسلاميين من سياسيين ومثقفين ونقابيين يُبيحون لأنفسهم وصف عشرية ما قبل حادثة 25 تموز/ يوليو 2021 بكونها "عشرية سوداء"، يريدون بذلك ترذيل خصمهم اللدود، فسيكون متاحا للإسلاميين أولائك التساؤل إن كانت تلك العشرية "حمراء"؛ إما إحالة على رمزية الحُمرة عند خصومهم الأيديولوجيين أو إشارة إلى حُمرة دماء شهداء الإرهاب، وإلى حُمرة نيران الحرائق المفتعلة
مثل هذه المواقف تُعبّر عن كسل ذهني وعن عجز فكري وعن جُبن سياسي وأيضا عن ضَعف أخلاقي، فالتملص من نصيبنا في المسؤولية لا يعالج الأزمات وإنما يُضاعفها، لأننا سندخل بذلك إلى متاهات لا تنتهي من تبادل الاتهامات ومن ممارسة الكذب ومن محاولة تضليل الناس باستعمال وسائل غير جيدة؛ تفسد أخلاق المجتمع وتُنتج مظاهر الاتجار في الكذب والتزوير سواء في وسائل الاعلام أو في الفضاءات العامة.

2- محنة الديمقراطية

محنة الديمقراطية لا تكون غالبا بسبب أنظمة تسلطية وإنما تكون بسبب فساد مزاج النخب الفكرية والسياسية والإعلامية والنقابية حين تغرق في الخصومات وتُهمل قضايا الناس الحقيقية، فينصرف عنها الناس بل ويتحولون إلى جمهور غاضب يائس قد تستهويه مشاريع شعبوية أكثر سوءا وأبشع من الاستبداد.

وإذا كان خصوم الإسلاميين من سياسيين ومثقفين ونقابيين يُبيحون لأنفسهم وصف عشرية ما قبل حادثة 25 تموز/ يوليو 2021 بكونها "عشرية سوداء"، يريدون بذلك ترذيل خصمهم اللدود، فسيكون متاحا للإسلاميين أولائك التساؤل إن كانت تلك العشرية "حمراء"؛ إما إحالة على رمزية الحُمرة عند خصومهم الأيديولوجيين أو إشارة إلى حُمرة دماء شهداء الإرهاب، وإلى حُمرة نيران الحرائق المفتعلة، وإلى حُمرة أعين الجمر التي كان شررها منقدحا في الخطاب وفي النصوص وفي الرسوم وحتى في إيقاع الموسيقى وأدعية الصلاة.

3- سُنن التاريخ

في السياسة لا وجود لا لملائكة ولا لشياطين، وإنما يوجد دُهاةٌ وسُذّجٌ، يوجد فاعلون ومفعول بهم، يوجد مقتدرون وعاجزون، يوجد ناجحون وفاشلون، وفي السياسة توجد دائما سفينة واحدة تتسع لكل الخصومات ولكنها لا تتسع للكراهية والأحقاد، ولن تتوسّل الموجَ حين يأخذُها بمن فيها.

ما حدث في كانون الثاني/ يناير 2011 كان فرصة للتونسين كلهم على المستوى الداخلي كي يذهبوا إلى مستقبل جديد يعالجون فيه مشاكلهم الاجتماعية والسياسية والثقافية، ويُرتّبون علاقاتٍ جديدة في ما بينهم، علاقات متحررة من ضغط السلطة التي قسمتنا بين "موالين" و"معارضين"، وكان فرصة على المستوى الخارجي بما يدعم السيادة الوطنية والقرار السيادي الحر.

ما حدث في الأيام الأولى من حرق وفوضى، يمكن فهمه بكونه نتيجة منطقية لما أحدثه هروب بن علي من صدمة نفسية لدى مناصريه كما لدى معارضيه، فلا أحد كان يتصور أن رئيسا بكل تلك المهابة والقوة المُتخيّلة سيهرب وهو في بدايات عُهدة رئاسية جديدة عنوانها "رفع التحديات".

الشعور بنهايات كل حاكم هو شعور فطري لإيمان الناس بحتمية فناء كل ظاهرة، فتلك سنن التاريخ وتلك محدودية الكائن البشري، لا خلود لأي بشر مهما حقق من "مجد" بمال أو بسلطة أو بعلم، ولكن تلك النهاية وبتلك الوضعية لم تكن منتظرة.

كان يُنتظَر من السياسيين والنخب الفكرية والإعلامية والنقابية أن تتلقّف اللحظة الجميلة بعقل مُبدع وبروح تفاؤلية وبعزم وطني، تلك اللحظة هي أشبه بلعج برق في ظلمة حيث انكشف للتونسيين حظ وفير يتيح لهم فرصة لترميم ذواتهم ولمعالجة واقعهم بحكمة ومسؤولية، كان يُنتظر أن يتنادى "الزعماء" و"القادة" في المنظمات والأحزاب والمجتمع المدني من أجل تونس جديدة.

يبدو هذا الكلام مثاليا، وهو مثالي فعلا، لأن أمجاد الشعوب إنما تنطلق من حُلم جميل ومن اشتغالٍ على المُثل العليا تنجذب إليه الهمم وتنطلق باتجاهها الأشواق وتندفع إليها روح التحرر، ولا تقدر الشعوب المُحبطة المهزومة نفسيا على بناء مستقبل ناهيك عن منافسة الشعوب الحية المبدعة.

الشعوب المُعبّأة بالأحقاد والمُكبّلة بالكسل الذهني والمُستعبَدة بأنانيتها وغرائزها وعُقدها النفسية، كلما أتاح لها التاريخ فرصة للنهوض ازدادت توغلا في الظلام ومارست المزيد من العبث واللغو، تماما كما طفل قاصر كلما أعطيته رصيدا سارع لإنفاقه في اللعب والحلوى.

ولما كان التاريخ سلسلة من الأسباب، تترابط حلقاتها في علاقة سببية بين المقدمات والمآلات، فلا يمكننا فهم ما انتهينا إليه بعد عشرة أعوام وما سيليها خارج قانون التاريخ وخارج ميزان العدل الإلهي، فالتاريخ لا عاطفة له وهو الشاهد الوحيد الذي لا يكذب أبدا، وشهادته هي ما أنجزه الناس بإرادتهم الواعية أو الحمقاء وبِعُلوّ همتهم أو بانحطاطهم الفكري والأخلاقي.

كل ما سيشهده التونسيون بعد 2011، كما قبلها، إنما هو نتاجُ أفعالهم، وليس مهمّا إن كانت تلك الأفعال سُوءَ تقدير أو كانت سوء نوايا، فقد كانت البدايةُ منذ أول يوم لهروب بن علي بدايةً غير "بريئة"
التاريخ لا ينطلي عليه خطاب الزيف ولا تُغريه الشعارات الكاذبة ولا يستجيب لأوهام الواهمين، ولا يُعطّل قوانينه ترضية للفاشلين حتى وإن حسُنت نواياهم، فعالم الناس يحتكم إلى النتائج، أما النوايا فيمكن أن تشفع للفاشلين في الآخرة.

كل ما سيشهده التونسيون بعد 2011، كما قبلها، إنما هو نتاجُ أفعالهم، وليس مهمّا إن كانت تلك الأفعال سُوء تقدير أو كانت سوء نوايا، فقد كانت البدايةُ منذ أول يوم لهروب بن علي بدايةً غير "بريئة"، بمعنى أنها كانت خالية من كيمياء الوحدة الوطنية وفاقدة لروح التضامن، كانت بداية بلا "ثقة".

الذي يقولون بأن السياسة مكر ودهاءٌ وبأن السُذّج وحدهم هم من يتحدثون عن "الثقة" و"البراءة" و"النوايا"؛ هم دائما من يتصدرون المشهد السياسي وهم دائما من يبادرون بالفعل ورد الفعل، وهم دائما من يحوّلون السياسة إلى تاريخ للصراعات والفِتن والخيباتِ والهزائم.

لن ينجوَ من الخيباتِ محايدون متفرجون ولن يُبرّأ من المسؤولية متابعون سلبيون حتى وإن ادعوا التعفف والنأيَ بالنفس عن المعارك الصغرى، فالتافهون وأصحاب العُقد النفسية لا يتصدرون المشهد إلا حين يتخلف أصحابُ الكفاءة عن تحمّل مسؤوليتهم، ولا يجدُ الأوباشُ جُرأة على ممارسة العبث إلا إذا غابت العدالة الحاسمة. العدالة ليست قيمة أخلاقية مجردة، إنما هي ميزان يستوي بين عالمي الحق والظلم، ميزان تحرسه إرادة لا تتخلف عن ممارسة "الحسم"، وكلما انعدم أو تأخر الحسم كانت مهمة التدارك صعبة.

twitter.com/bahriarfaoui1