قضايا وآراء

التضخم في تركيا.. الأزمة والمخرج (2)

يشدد الكاتب على ضرورة معالجة أسباب التضخم والسيولة النقدية- جيتي
أعلن وزير الخزانة والمالية التركي نور الدين نباتي عن تحسن جميع مؤشرات الاقتصاد الكلي للبلاد؛ باستثناء نسبة التضخم الذي ارتفع في جميع دول العالم خلال 2022، وتأكيده أن الإجراءات الأخيرة مثل تحسين الأجور ووضع المتقاعدين ليست موجهة للانتخابات، بل على عكس ذلك يجب اعتبارها تقاسما للمكتسبات مع المواطن، ودعوته كافة الجهات المعنية في تركيا إلى المساهمة في مكافحة التضخم، وما أشار إليه من أن نقطة الذروة في آلية "وديعة الليرة التركية المحمية" من تقلبات أسعار الصرف" بلغت 1.47 ترليون ليرة، وأن تركيا الآن في فترة تشهد تحسّنات تاريخية وتحطيم أرقام قياسية، حيث تم كسر الجمود المسيطر على التضخم"..

وبالنظر إلى أسباب التضخم المزمن في تركيا، نجد أن كل أسباب التضخم وُجدت مجتمعة من خلال عرض النقود والطلب والعرض، ويرجع ذلك لأسباب خارجية وداخلية. وتأتي جائحة Covid-19 في مقدمة الأسباب الخارجية، وكذلك الحرب الروسية الأوكرانية، حيث كان لذلك تأثيرا مباشرا على تعطيل سلسلة التوريد، وخلق مشاكل في جانب العرض، وزيادة تكاليف الطاقة والمدخلات، وخاصة أسعار النفط والغاز الطبيعي، فضلا عما سبق ذلك من مضاريات خارجية استهدفت ضرب الليرة التركية.
علاج مشكلة التضخم المزمنة في تركيا هو القضاء على الأسباب قدر الإمكان. ولا بد من تناول جرعة الدواء ولو كانت مؤلمة، فالمهم العمل والسعي للخروج من أزمة التضخم بصورة علمية وعملية، علما بأن الشفاء يحتاج لفترة زمنية معينة بعد شرب الدواء، ومن هنا تبدو أهمية الصبر على مواصلة العلاج

ومع ذلك فإن جائحة Covid-19 والحرب الروسية الأوكرانية لم تُصب تركيا لوحدها بل أصابت اقتصاديات دول العالم، وعلى الرغم من تسجيل تضخم قياسي مرتفع في البلدان المتقدمة في الأشهر الأخيرة، ولكنه لا يزال لا يتجاوز خانة الآحاد، أما تركيا فهي واحدة من البلدان التي وصل فيها التضخم إلى مستوى قياسي. لذلك، يجب أن تكون هناك أسباب أخرى لاختلاف تركيا السلبي عن العالم من حيث معدل التضخم المرتفع، وهذا يوصلنا إلى الأسباب الداخلية، وتأتي في مقدمتها زيادة المعروض النقدي بمستوى قياسي، ففي حين كان متوسط التوسع النقدي في العالم في عامي 2020 و 2021 حوالي 13 في المئة، مرت تركيا بمستويات غير طبيعية من التيسير الكمي بحوالي 50 في المئة و95 في المئة على التوالي، فضلا عن انحسار رأس المال الأجنبي عما كان من قبل، وتكاليف البنية التحتية المتزايدة، وزيادة فاتورة الديون الخارجية، والعبء المالي المتزايد للاستثمارات العامة أو الاستثمارات المضمونة من قبل الدولة للناس، والجشع الذي سيطر على سوق العقارات والمواد الغذائية وزيادة الطلب عليها، والتغيير المتكرر لمحافظ البنك المركزي.

وكما هو الحال في جميع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فإن الشرط الذي لا غنى عنه لمنع المشاكل هو القضاء على الأسباب. ونفس القاعدة تنطبق على التضخم، حيث إن علاج مشكلة التضخم المزمنة في تركيا هو القضاء على الأسباب قدر الإمكان. ولا بد من تناول جرعة الدواء ولو كانت مؤلمة، فالمهم العمل والسعي للخروج من أزمة التضخم بصورة علمية وعملية، علما بأن الشفاء يحتاج لفترة زمنية معينة بعد شرب الدواء، ومن هنا تبدو أهمية الصبر على مواصلة العلاج.

إنه لا ينكر منصف ما قدمه الرئيس أردوغان لتركيا والانتقال بها نقلة نوعية في تنمية الموارد البشرية والطبيعية والرأسمالية، ولكن في ظل حاجة تركيا إلى الاستقرار والانطلاق بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المزمع عقدها بعد بضع شهور لمزيد من البناء والتنمية، وكذلك مواجهة ما منيت به تركيا من زلزال مدمر خلال الأيام القليلة الماضية، تبدو أهمية علاج أزمة التضخم، فلا قيمة لأي مؤشرات في ظل وجود تضخم مزمن يصيب المواطن في متطلبات معيشته الأساسية.

في ظل حاجة تركيا إلى الاستقرار والانطلاق بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المزمع عقدها بعد بضع شهور لمزيد من البناء والتنمية، وكذلك مواجهة ما منيت به تركيا من زلزال مدمر خلال الأيام القليلة الماضية، تبدو أهمية علاج أزمة التضخم، فلا قيمة لأي مؤشرات في ظل وجود تضخم مزمن يصيب المواطن في متطلبات معيشته الأساسية
وإذا كان الرئيس أردوغان يرى أن التضخم هو نتيجة لسعر الفائدة فهذه حقيقة نتفق معها، ولكن ليس هذا فحسب، بل هناك عوامل أخرى لا بد من معالجتها لحصار التضخم وتحسين معيشة الناس، فإذا كانت الزيادة في الأجور دفعة مهمة للحماية الاجتماعية فإن هذه الزيادة في الكتلة النقدية يجب أن تكون مقابلها كتلة إنتاجية، وفتح أسواق جديدة للتصدير، وترشيد الواردات، والاستفادة من موارد النفط والغاز الداخلية لخفض فاتورة الاستيراد، ودعم السياحة مع الرقابة على أسعار الفنادق التي تتعامل بالدولار بمغالاة لم تحدث من قبل وفرض التعامل بالليرة عليها، وكذلك الرقابة على السوق العقاري تمليكا وإيجارا، الذي حدثت طفرة فقاعية فيه تضاعفت معها أسعار العقارات بالدولار دون مقتضى إلا الجشع والمضاربة رغم عدم قانونية بيعها إلا بالليرة، فضلا عن الارتفاع الخيالي للإيجارات. وقس على ذلك المواد الغذائية، والدولة يجب ألا تكتفي بالرقابة فقط بل من حقها في مثل هذه الظروف فتح منافذ للمواد الغذائية بسعر الجملة، وطرح أراض وعقارات بالقرعة بعيدا عن المزادات التي ساهمت في رفع الأسعار.

كما تبدو أهمية السيطرة على ارتفاع أسعار وسائل النقل العام، والنظر في ارتفاع الرسوم والغرامات والضرائب بصورة تحول بين الناس والاقتداء بالدولة في رفع الأسعار، وتقطع الطريق أمام ارتفاع التضخم وسيادة لولب تضخم الأسعار. وكذلك الاعتماد في الإنفاق الاستثماري للدولة على الصكوك الإسلامية مما يخرجها من نفق الديون وتبعاتها، ويزيد التكوين الرأسمالي في الاقتصاد التركي ويراكم من رأس المال الاجتماعي.

وكذلك ترسيخ الشفافية والإفصاح وإزالة ضبابية عدم اليقين وإعطاء الثقة للمستثمرين المحليين والأجانب، والحرص على استقلالية البنك المركزي، ومنح البنوك والمؤسسات المالية التشاركية القدرة على ترسيخ التمويل بالمشاركات، والمساهمة بفعالية في عملية التنمية وتلبية متطلبات البلاد والعباد، مع وضع إطار زمني للانتهاء من وديعة الليرة التركية المحمية، وغلق الباب أمام طباعة البنكنوت بدون مقتضى اقتصادي.

twitter.com/drdawaba