كتاب عربي 21

فاز لولا دا سيلفا.. فأين اليسار العربي؟!

1300x600

لا شك أن هناك فارقا بين يسار مقاوم، ويسار منبطح، وبين يسار أمريكا اللاتينية واليسار العربي الذي يرضى من الغنيمة بالإياب!

أكتب هذه السطور على وقع فوز لولا دا سيلفا برئاسة البرازيل، وانتزاعه الفوز من فم الأسد. فالرجل الذي حكم البرازيل لدورتين سابقتين، تعرض بعد سقوطه للتنكيل، والتهميش، على يد الرئيس اليميني المتطرف جابير بولسونارو، العسكري الذي تنحاز له الطغمة العسكرية الفاسدة، ويلقى تأييداً من واشنطن رأساً. بيد أن "لولا دا سيلفا" لم يرضخ لحاله، تماماً كما لم يرضخ في السابق لظروفه وهو العامل البسيط، وأن يجعل هدفه الفوز والانتصار للفقراء والمهمشين، فقد قاوم في المرتين حتى انتصر، ليعيد فوزه الإحساس بأن الأحلام لا تزال ممكنة، مهما حاول الأعداء تحويلها إلى كوابيس!

ولتقريب الصورة بين حالنا وحال القوم، وبين يسارنا العربي ويسار أمريكا اللاتينية (فاز بالرئاسة مرشح اليسار في كولومبيا في حزيران/ يونيو الماضي)، فإن هذا الفوز جاء في وقت أصدر فيه حزب اليسار في مصر (التجمع الوطني التقدمي الوحدوي.. الخ.. الخ)، بياناً يعتبر فيه قرض صندوق النقد الدولي أمراً يستحق التأييد، وإنجازاً للسلطة الحاكمة، يستوجب تقديم التحية لها!

فيسارنا العربي رضي بفتات الموائد، ونحن ندفع من لحم الحي ثمن انهياره النفسي عقب تفكك الاتحاد السوفييتي، لأنه ربط النظرية بموسكو، فاعتبر سقوط دولة الروس سقوطاً للنظرية، ومن ثم ذهب يعيش في ركاب السلطة، ويتقرب إليها بالنوافل، ولا يجد نفسه إلا حيث وجد الاستبداد، حتى إن كان الطغاة من طحالب الرأسمالية المتوحشة، والذين لم يدفعوا فيه أثماناً باهظة، فقد كان يكفي ثمناً له عضوية في البرلمان بالتزوير لرئيس حزب التجمع، وعضوية أخرى بالتعيين للرجل الثاني في الحزب، مع بعض الفتات المتناثر هنا وهناك، ويبدأ بصفقة طباعة كتب لوزارتي الثقافة والتعليم في المطبعة الخاصة بهما، والتي كانت آخر ما تبقى من الدعم السوفييتي لليسار المصري!

يسارنا العربي رضي بفتات الموائد، ونحن ندفع من لحم الحي ثمن انهياره النفسي عقب تفكك الاتحاد السوفييتي، لأنه ربط النظرية بموسكو، فاعتبر سقوط دولة الروس سقوطاً للنظرية، ومن ثم ذهب يعيش في ركاب السلطة، ويتقرب إليها بالنوافل، ولا يجد نفسه إلا حيث وجد الاستبداد، حتى إن كان الطغاة من طحالب الرأسمالية المتوحشة، والذين لم يدفعوا فيه أثماناً باهظة

اليسار المعضلة

حتى إذا قامت الثورة، وكان المصريون مع حلم التحول الديمقراطي، كان اليسار في نخبته يبحث عن الحاكم المستبد، ليستكمل معه مسيرته في "لقمة طرية، ونومة هنية"، ومن مصر إلى تونس فإن اليسار صار معضلة من معضلات هذا التحول. وتمتلئ النفس مرارة عندما نعلم أن من بين أنصار قيس سعيد ويحلقون حول العرش، هم يساريون، فماذا في الرجل يقنع أي كائن حي به؟! تماماً كما تشبعت النفس بالمرارة، ونحن نشاهد ذات انتخابات لنقابة الصحفيين المصريين؛ رئيس التجمع الوطني التقدمي وهو في طريقه لمقر النقابة ويهتف بصوت خفيض: "نافع.. نافع"، وكان بصحبته ظله أمين عام الحزب رفعت السعيد، فلم يشأ أن يدلي بصوته في وقار، ولكنه كان يريد للرسالة أن تصل، بأنه ليس مع المرشح المنافس لـ"نافع"، الناصري "جلال عارف". وكان الرجل يرد الجميل لإبراهيم نافع، لأن مؤسسة الأهرام التي يرأسها طبعت مذكراته "الآن أتكلم"، واحتفت بها جريدة "الأهرام" بنشر فصولها!

وتعجب لهذه النهاية الأليمة، من رجل كان ينحاز للديمقراطية من بين الضباط داخل مجلس قيادة الثورة، فإذا بالحال يصل به لدرجة احتوائه بطباعة كتاب، أو نجاحه لدورتين في البرلمان بالتزوير الذي أثبتته أحكام القضاء!
بعد كل ما جرى في النهر، فإن "لولا دا سيلفا" يزين كتفيه في حملته الانتخابية بـ"الكوفية الفلسطينية"، تعبيراً عن الموقف اليساري التقليدي من هذه القضية العادلة، في وقت ارتدت فيه زوجة الرئيس المنتهية ولايته قميصاً يحمل علم إسرائيل. فهل أدرك اليسار العربي في أي هاوية سقط، وقد صار أداة في يد الرجعية، وذليلاً على موائد أنظمة الاستبداد؟!

البديل الثالث

لقد كان تأثير سقوط الاتحاد السوفييتي كبيراً على اليسار المصري، ولم يشغله أن هناك يساراً مقاوماً في أمريكا اللاتينية. وفي البداية رفع شعار "نحن البديل الثالث"، لمواجهة النظام القائم والإسلام السياسي، ليتكشف بعد ذلك أن هذا البديل الثالث هو خدم البلاط للبديل القائم!

وكان الانهيار شاملاً، فلا نعرف ماذا تبقى من يسارية القوم، فحدث تحول في الموقف من قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وجمعيات السلام والتطبيع أسسها يساريون أقحاح، كانوا قبل ذلك هم من يرفعون شعار "الثورة قايمة والكفاح دوار"، "لطفي الخولي نموذجاً"، الذي أصدرت له السلطة في زمن عبد الناصر مجلة "الطليعة"، لتكون تجمعاً لليسار، ويكون الموقف من الاحتلال الصهيوني هو رأس المواقف وعمودها وذروة سنامها!

وبعد كل ما جرى في النهر، فإن "لولا دا سيلفا" يزين كتفيه في حملته الانتخابية بـ"الكوفية الفلسطينية"، تعبيراً عن الموقف اليساري التقليدي من هذه القضية العادلة، في وقت ارتدت فيه زوجة الرئيس المنتهية ولايته قميصاً يحمل علم إسرائيل. فهل أدرك اليسار العربي في أي هاوية سقط، وقد صار أداة في يد الرجعية، وذليلاً على موائد أنظمة الاستبداد؟!

إن لم تخن الذاكرة، فإن عدد الأحزاب الناصرية في مصر خمسة أحزاب، وإذ تحرش الجنرال بالدستور، وبالنص المتوارث عن مجانية التعليم، فمع ذلك لم يصدر من أي حزب من هذه الأحزاب، بل ومن أي ناصري، إدانة لهذا الموقف من إنجاز يحسبونه لعبد الناصر، وهو ما تبقى منه ولو كان نصاً دستورياً سقط في التطبيق، فماذا بقي من ناصريتهم؟!
تنازلات جعلت من اليسار، ليس المصري فقط ولكن العربي كذلك، أداة في يد الأنظمة المستبدة، بعد أن تلخص نضالهم في الوقوف ضد الإسلام السياسي، وبمواقف مراهقة كما يحدث من اليسار السوداني الذي بدد التحول الديمقراطي في السودان من أجل إشباع نزواته وبدا بلا قضايا يدافع عنها أو منهج يعمل على تطبيقه، فقط الوقوف ضد الإسلاميين

وهي كلها تنازلات جعلت من اليسار، ليس المصري فقط ولكن العربي كذلك، أداة في يد الأنظمة المستبدة، بعد أن تلخص نضالهم في الوقوف ضد الإسلام السياسي، وبمواقف مراهقة كما يحدث من اليسار السوداني الذي بدد التحول الديمقراطي في السودان من أجل إشباع نزواته وبدا بلا قضايا يدافع عنها أو منهج يعمل على تطبيقه، فقط الوقوف ضد الإسلاميين، ولو كانت المواجهة تستدعي الارتماء في أحضان العسكر، لأنه يدرك أنه لن تقوم له قائمة بعيداً عن دولة الاستبداد السياسي!

لقد لخص أحدهم في مصر الموضوع لصاحبه وهو يحاوره، بعد وقوفهم ضد الحكم المدني المنتخب، بأن إرادة الجماهير لا تعنيهم لأنهم لن يكونوا أبداً في السلطة، وبالتالي فلن يدافعوا عنها ليستفيد الإسلاميون بها، فكانوا كالذي خصى نفسه ليغيظ زوجته!

لم يعلموا أن الفشل ليس قدراً، وأن تموضعهم هم من وضعوا أنفسهم فيه بتنازلاتهم لدولة الاستبداد، مقابل الفتات الذي حرمهم منه حكم الإسلاميين، ولو نظروا لتجربة أمريكا اللاتينية لعلموا أن الأزمة فيهم وليس في الفكرة.

فهل يستوعب اليسار العربي الدرس القادم من البرازيل؟!

 

twitter.com/selimazouz1