قضايا وآراء

الوطنية الجديدة

1300x600
مفردتان متلازمتان في زمن الفتن والحروب والانقسامات والانقلابات العسكرية، الأولى هي الإرهاب والثانية هي الوطنية. يميل المستبدون دوما إلى تخويف الشعوب من المعارضة والمعارضين، ووصمهم بأنهم خونة خانوا الوطن وعملوا ويعملون على تخريب العقول وتشويه الإنجازات وقلب الحقائق، وهذه الفئة من وجه نظر المستبدين هي فئة غير وطنية. ولكي لا يطالبها أحد بالأسباب والمبررات فإن هذه السلطات عادة ما تمزج وصف المعارض بأنه -غير وطني وإرهابي- حتى ولو لم يحمل سلاحا وإنما يحمل قلما وورقة أو هاتفا محمولا يدون عليه أفكاره.

في عرف الدول المستبدة -وما أكثرها في منطقتنا- كل معارض إرهابي محتمل وغير وطني محتمل، ولو طالب بتغيير الحكم واستبدال رئيس مكان رئيس حتى لو عبر الانتخابات فقد تحول من إرهابي محتمل إلى إرهابي حقيقي، ومن غير وطني محتمل إلى غير وطني بالمرة، وبناء عليه تتحرك دوائر القضاء الخاصة والتي تسكن في رحم النظام لتنعقد فورا وتقرر وضع فلان على قائمة الإرهاب وتوجه له التهم وتصدر الأحكام المشددة، حتى دون أن يكون حاضرا وحتى دون وجود محام وحتى دون وجود أبسط قواعد العدالة المتعارف عليها، ثم تنطلق قوافل الإعلام المساند مهللة "القضاء المصري يدين فلانا والقضاء المصري النزيه يحكم على فلان بالسجن"، وربما بالإعدام لأنه معارض يهدد النظام باستخدام الشاشة أو الورقة والقلم، ثم بعد ذلك يتساءلون لماذا يضحك عليهم العالم ويقهقه ساخرا من النظام ككل ومن القضاء الملتصق برحم السلطة بالذات؟
كل معارض إرهابي محتمل وغير وطني محتمل، ولو طالب بتغيير الحكم واستبدال رئيس مكان رئيس حتى لو عبر الانتخابات فقد تحول من إرهابي محتمل إلى إرهابي حقيقي، ومن غير وطني محتمل إلى غير وطني بالمرة، وبناء عليه تتحرك دوائر القضاء الخاصة والتي تسكن في رحم النظام لتنعقد فورا وتقرر وضع فلان على قائمة الإرهاب وتوجه له التهم

ما يلفت النظر في مسألة التصنيفات أنك إذا سألت أحدهم عن معنى الوطنية فسوف لن تجد إجابة ولن تلقى ردا، إلا كلاما عائما غائما لا يسمن ولا يغني من جوع.

يقول بعضهم إن الوطنية هي الجيش والقوات المسلحة هي مصنع الوطنية!! تفتح فمك مستغربا: وماذا عن بقية مؤسسات الدولة؟ فيقول لك أحدهم: الجيش هو مصنع الرجولة ومن لم يدخل الجيش لم يعرف معنى الرجولة! فتستفسر منه: كيف؟ يقول لك إن الحياة العسكرية تعيد تشكيل طريقة حياتك، فأنت مضطر للاستيقاظ مبكرا وممارسة التدريبات في ظروف صعبة، والاستعداد الدائم وسماع الأوامر وتنفيذها دون جدال أو نقاش! فتبتسم: وهل إذا فعلتُ كل ذلك أُصبح وطنيا حتى لو لم ألتحق بالجيش؟ الإجابة لا.. المصنع الوحيد المعترف به للوطنية هو الجيش، وبقية مصانع الوطنية هي تقليد وغير معترف بها.

هنا تبدو المعضلة الكبرى في احتكار مفهوم الوطنية وحصره على فئة معينة هي منتسبو الجيش وخصوصا القادة منهم، فكل عسكري وطني حتى لو ثبت العكس، وكل مدني غير وطني ولو ثبت العكس أيضا.
تبدو المعضلة الكبرى في احتكار مفهوم الوطنية وحصره على فئة معينة هي منتسبو الجيش وخصوصا القادة منهم، فكل عسكري وطني حتى لو ثبت العكس، وكل مدني غير وطني ولو ثبت العكس أيضا

في عالم مثل هذا أو بلد تحكمه هذه العقلية كيف يمكنك أن تتناقش أو تتحاور أو تتفاهم وعلى أي أرضية؟ إذا كنت منزوع الوطنية وعليك إثبات وطنيتك أولا فكيف نتعايش؟ هذان أمران مختلفان لا يمتزجان (الوطنية واللا وطنية)، هم يرونك غير وطني أو وطنيا مزيفا لم تحصل على الختم، وبالتالي أنت في مرحلة الشك والريبة طيلة حياتك، فإذا أردت السلامة فاسلك طريقا غير التي تسلكها وغيّر مفرداتك وطريقة تفكيرك ونظرتك إلى الوطن، واعتبر نفسك لاجئا حتى يمنحوك لقب مواطن وطني شريف.

الوطنية من وجهة نظرهم ليست هي انتسابك للوطن ودفاعك عن مصالحه، ولا احترامك للدستور والقانون ولا التزامك بدفع الضرائب وعدم مخالفة القوانين.. لا، الأمر أبعد من ذلك بكثير، الأمر يتعلق بتعريفك للوطن؛ هل هو الأرض التي تعيش عليها وولدت فيها وتربيت وترعرعت على أرضها وأن هذا الوطن ملك للجميع؟ إذا كنت ترى أن الوطن ملك للجميع فهنا قد وقعت في المحظور؛ لأنه يتعين عليك الاعتراف بأن الوطن ملك للجيش، ترابه وسماؤه وبحره ونهره وبحيراته وثرواته وكل من يعيش عليه من بشر وحجر وحيوانات. هذا هو المفهوم الجديد للوطنية، وبالتالي يتعين عليك وعلى الراغبين في الحصول على صك الوطنية الالتزام بتعليمات مالك الأرض (الجيش)، وإلا فأنت إرهابي وخائن وغير وطني على طول الخط.

إذا سألت عن صفقات السلاح التي تمول اقتصاد الدول الغنية؛ ما لزومها إن لم نحارب من أجل مياه النيل مثلا؟ يقول لك قائل: احترس واحذر وخذ بالك من سؤالك.. هذه علامات اللا وطنية، ويشعرك بأنك قد تكون مصابا ببعض أعراض مرض الخيانة العظمى أو على وشك الإصابة بها، ولازم وحتما أن تذهب إلى مستشفى الوطنية للتعافي.
الجمهوريات الجديدة أو الدول الجديدة هي مشروع اختزال الوطنية في الجيوش واختزال الجيوش في القادة واختزال القادة في شخص من يحكم، واختزال الحكم كله في عائلة من يحكم باسم الوطنية، وعلى المعارضين اللجوء إلى الخارج أو البحر أو الرضا بما يلقيه إليهم العسكر من فتات

إذا سألت عن الثروات التي تستخرج من باطن الأرض ولا نعرف عنها شيئا فأنت تشكك في الحكم والقيادة، وهذه إحدى علامات الخيانة الكبرى، وإذا أعدت تكرار مثل هذه الأسئلة، فربما تتم إحالة أوراقك إلى المحكمة العسكرية بتهمة إفشاء أسرار عسكرية.

أما إذا سألت عن القروض والديون فالإجابة: لا تحاسبوني قبل أن يكون دخلي تريليون دولار سنويا. ولا أفهم حقيقة هل المفروض أن الشعب هو الذي يوفر التريليون للحاكم أم أن الحاكم هو الذي من المفترض أن يسعى ويعمل على زيادة الإنتاج والدخل القومي؟ الإجابة صحيحة في حال كنت تعيش في بلد عادي زي بقية بلاد الله، أما في هذا البلد فالحاكم لا يناقَش ولا يحاسَب إلا أمام الله، ولولا الملامة لتجرأ على الله قائلا "وسأدخل الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب".

الجمهوريات الجديدة أو الدول الجديدة هي مشروع اختزال الوطنية في الجيوش واختزال الجيوش في القادة واختزال القادة في شخص من يحكم، واختزال الحكم كله في عائلة من يحكم باسم الوطنية، وعلى المعارضين اللجوء إلى الخارج أو البحر أو الرضا بما يلقيه إليهم العسكر من فتات المناصب أو فتات الحوار أحيانا.