قضايا وآراء

قيس سعيد وحسابات الربح والخسارة

1300x600
بعد انفراده بالسلطتين التنفيذية والتشريعية ها هو قيس سعيد يزحف نحو السلطة القضائية، بعد أن أصدر مرسوما بوقف المنح والامتيازات التي يتمتع بها أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، و"أول الرقص حجلان" كما يقول إخوتنا في الشرق.

بات هم سعيّد الوحيد الاستحواذ على السلطات الثلاث، تاركا وراء ظهره كل وعوده الخلبية للشعب المطحون، فهو يزحف كأفعى عمياء بلا رؤية، بلا خطط تنموية، بلا إحساس بالمواطن المطحون، بلا اكتراث بالغلاء الذي بدأ ينخر في عظام الفقراء، ناهيك عن اختفاء بعض المواد الأساسية من الأسواق كالسميد الرقيق الذي يعتمد عليه التونسي في صنع خبزه.

وهو بمعاداته السلطة القضائية يُحكم الحبل على رقبته وليس العكس؛ فهو في هذه الحال يواجه الكل التشريعي والقضائي، وجزءا من التنفيذي الذي ينظر بعين ويغمض أخرى انتظارا لما ستؤول له الأوضاع. هذا بالإضافة إلى الطيف السياسي الواسع الذي يصعّد نبرته مع كل إجراء جديد. وحين يقوم سعيد بحل مجلس القضاء الأعلى؛ فإنه سيواجه الداخل الشعبي والخارج الدولي، وسيمنح الرافضين لإجراءاته المزيد من المبررات لمزيد من الرفض الذي قد يؤدي في النهاية إلى ثورة تخلعه كما خلعت بن علي..
بمعاداته السلطة القضائية يُحكم الحبل على رقبته وليس العكس؛ فهو في هذه الحال يواجه الكل التشريعي والقضائي، وجزءا من التنفيذي الذي ينظر بعين ويغمض أخرى انتظارا لما ستؤول له الأوضاع. هذا بالإضافة إلى الطيف السياسي الواسع الذي يصعّد نبرته مع كل إجراء جديد

إن من أعظم إنجازات هذا الرجل أنه أبدع في شق صف الشعب؛ ليجعله شعبين، كل فريق يسبح في فلك غير فلك الآخر، وأنه يكذب كما يتنفس حين يتحدث عن الحريات. فمنذ عهد بن علي لم تشهد البلاد أسوأ مما هي عليه اليوم من كبت للحريات وقهر للمواطن، فقد وسّعت إجراءاته الأمنية الهوة بين المواطن والحاكم (الشرطي) الذي مارس الاعتقال والإخفاء القسري والإقامة الجبرية، والتغول على الإعلام، واعتقال الصحفيين والمحامين وناشطي حقوق الإنسان وإهانتهم وضربهم على مرأى من العالم ومسمع، والإحالة على المحاكم العسكرية، وهو ما لن ينساه طيف واسع من الشعب الذي تعلم من التجربة المصرية كيف تم تقسيم الشعب، ثم كيف تم الانقضاض على الفريقين بالتوالي!

بذريعة محاربة الفساد وإعادة الأموال المنهوبة والقضاء على الاحتكار وتوفير العيش الكريم للمطحونين بدأ قيس سعيد بالانتقام من خصومه، ولو استعرضنا من تم اعتقالهم أو تقديمهم للمحاكم العسكرية سنجد أنهم ألد خصومه السياسيين، وأن التهم الموجهة لهم تتسم بالكيد والتلفيق، وفصولها لا تسترعي الاعتقال القسري والإحالة إلى المحاكم العسكرية.

وتأتي الإدانة الحقيقية لقيس سعيد في كون من وجهت لهم الاتهامات وتم اعتقالهم هم فقط خصومه السياسيون، وكأن البلد كله عفيف نظيف اليد إلا من تم القبض عليهم من شرفاء تونس وخيرة رجالها. فقد غض سعيد الطرف عن اللصوص الحقيقيين، ولم يقترب من بعض الشخصيات التي تلقت الملايين من دول عربية وأجنبية، ولم يسألها عن مصادر أموالها، فهو معني فقط بمن كانوا شوكة في حلقه، وهم الذين أحسوا مبكرا بمكره ودأبه للاستحواذ على مفاصل السلطة، لكنهم لم يتوقعوا أن يصل بالبلاد إلى هذا الحد من الضياع والعبث، وقد أدرك كثيرون لعبة قيس سعيد في هذا الإطار، وباتوا في الصف المناوئ لإجراءاته التعسفية.

لقد سقط سعيد في حالة الخوف بعد أن اشتد خطاب المعارضة وربما بعد تصريحات الطبوبي التي تحمل في العلن تهديدا، وفي الخفاء استجداءً بمنحه دورا في لعبة هدم الدولة وإتمام صفقة الانقلاب التي اتفقا عليها سابقا.
ربما كان الأخير يعني أنه في الصفوف الأمامية مع إجراءات قيس سعيد، وأيا كان الأمر؛ فقد وصلت رسالة الطبوبي باحتماليها كليهما للمرتجف، فوجدها فرصة سانحة للتراجع عن الجفوة التي أقامها بينه وبين الاتحاد. لكنها انفراجة لن تدوم، ولن يهيأ لها أن تستمر طويلا. ولن تصمد طموحات الطبوبي أمام سلطوية سعيد ورغبته الجامحة في التفرد بالسلطة

لقد أخافت تصريحات الطبوبي قيس سعيد - ربما - فالاتحاد العام للشغل فيه أعداد غفيرة من المنتسبين المخلصين لحاضنتهم، وهم قادرون على وضع البلد على حافة الهاوية لو بدؤوا إضرابا أو عصيانا مدنيا. وللتذكير أجتزئ الجزء الأخير من تهديد الطبوبي غير المسبوق، حين قال: "قلنا إن الحقوق تُفتكّ ولا تُهدى، ونحن دائما جنود في الصفوف الأمامية". والحقيقة أن لدي شكا في جملة: "ونحن دائما جنود في الصفوف الأمامية"، وأتصور أنها وصلت قيس سعيد كما أرادها الطبوبي؛ فربما كان الأخير يعني أنه في الصفوف الأمامية مع إجراءات قيس سعيد، وأيا كان الأمر؛ فقد وصلت رسالة الطبوبي باحتماليها كليهما للمرتجف، فوجدها فرصة سانحة للتراجع عن الجفوة التي أقامها بينه وبين الاتحاد. لكنها انفراجة لن تدوم، ولن يهيأ لها أن تستمر طويلا. ولن تصمد طموحات الطبوبي أمام سلطوية سعيد ورغبته الجامحة في التفرد بالسلطة وعدم السماح لأحد بالتدخل في إجراءاته.

ويحسن بي هنا أن أذكر بما قلته في مقالتي السابقة تحت عنوان "تونس ونموذج الدكتاتورية المصري" قبل أن يلتقي الصديقان اللدودان لقاء المجاملات والمودة الكاذبة، قلت: "تلك حدود الاتحاد العام للشغل في المعارضة، مجرد فقاعات كلامية، وأمل في أن يستعيد الطبوبي علاقته بقيس سعيد وأن يكون له دور في المرحلة القادمة، وإنْ من خلال تنازلات جوهرية، فالمهم عنده ألا يتم إقصاؤه وحسب، فهو يحلم بدور يؤهله اجتماعيا للحضور في المشهد كإحدى الهيئات المؤثرة في التغيير أيا كان لون هذا التغيير وشكله، وربما يوافق على نزع بعض الريش من جناحيه في سبيل الحضور في المشهد".

وقد جاء لقاء "سعيد/ طبوبي" متزامنا مع مقالتي السابقة التي سلمتها لـ"عربي21" قبل لقائهما بوقت كاف، ونشرت يوم 16 كانون الثاني/ يناير.

وفي حسابات الربح والخسارة، فقد خسر سعيد معنويا، بعد أن نكل بالاتحاد ووجه له الكثير من الاتهامات بطريقة التلميح، ثم اضطر أمام العداوات الكثيرة التي بدأت تتسع لإعادة العلاقة مع الطبوبي، وهو ما يؤشر على ضعفه وعدم ثقته بإجراءاته، وما حدث كان أكبر تنازلات قيس سعيد منذ الانقلاب.
قيس سعيد يخسر كل يوم مزيدا من أنصاره، ويفقد مزيدا من مصداقيته، وصار حديث الناس في كل مكان يلتقون فيه. لقد أدرك الشعب التونسي أن قيس سعيد ليس أكثر من ظاهرة صوتية فجة، تتسم بالكذب والتوهم والعجرفة، بعيدا عن المصداقية التي توقعها كثيرون منه حين انتخبوه رئيسا

ويكفي أن نقرأ أن استطلاعا جرى مؤخرا أفاد بأن 64.8 في المائة من التونسيين يعدّون ما جرى في 25 تموز/ يوليو انقلابا، وأن 70.6 في المائة أبدوا تخوفهم بخصوص مستقبل الديمقراطية والحريات في البلاد، و67.6 قالوا بأنهم غير راضين عن إجراءات قيس سعيد، فيما قال 65.6 في المائة منهم إنهم لا يثقون في نتائج الاستشارة التي ستتم عبر شبكة الإنترنت. وهو ما يؤكد بما لا يترك مجالا للشك بأن قيس سعيد يتكبد يوميا خسارة تلو خسارة، وذلك في ظل رفض غالبية القوى السياسية قرارات سعيد وتصر على أن ما يحدث إجراءات انقلابية على الدستور والحرية والديمقراطية، وأنها إجراءات أحادية لا تلزم أحدا بها.

قيس سعيد يخسر كل يوم مزيدا من أنصاره، ويفقد مزيدا من مصداقيته، وصار حديث الناس في كل مكان يلتقون فيه. لقد أدرك الشعب التونسي أن قيس سعيد ليس أكثر من ظاهرة صوتية فجة، تتسم بالكذب والتوهم والعجرفة، بعيدا عن المصداقية التي توقعها كثيرون منه حين انتخبوه رئيسا، وقد كنت شخصيا واحدا منهم، ومن المؤسف أن الغالبية العظمى من معارضي إجراءاته كانوا ممن انتخبوه في سباق الرئاسة!!