قضايا وآراء

قيس سعيد ونبض الشارع التونسي في ظل الانقلاب

1300x600

في ظل الغموض النسبي لممارسات قيس سعيد وإجراءاته ابتداء من 25 تموز/ يوليو 2021 حتى اليوم، يلاحظ أن ثمة نوعا من الانتقائية في إجراءات قيس سعيد العقابية أو الانتقامية، فهو يركز في خطاباته ومن دون تسمية على حركة النهضة، ويحاول شيئا فشيئا التصعيد معها بطريقة تبعث على السخرية التي يحكمها التلميح الخطابي منذ 25 تموز/ يوليو 2021 حتى اليوم، دون التصريح باسم النهضة حتى هذه اللحظة، حيث يركز في خطاباته على إنقاذ البلاد من عصابة الخونة والمرتزقة وعملاء الخارج، وحيث يتهمهم بمحاولات اغتياله واغتيال آخرين من دون أن يوضح من هي تلك الحفنة من الخونة والسرّاق التي اعتاد على التلميح بها، ولم يتقدم بطلب للنائب العام للتحقيق في أكذوبة الاغتيال التي تكررت، ولم يقنع أحدا بوجودها، فهو رجل مريض يتهيأ له أنه مستهدف شخصيا، وأن ثمة من يريد قتله والتخلص منه.

يعاني قيس سعيد من فقدان البوصلة، فهو يتخبط يمنة ويسرة؛ ليجد شيئا يمكنه الاتكاء عليه لينفذ تهديداته وتصريحاته الهلامية التي لا تستند إلى شيء، بل مجرد أوهام مريض نفسي يعتقد أن العالم كله ضده، لكنه يصر على المضي قدما في هواجسه، فهو بالضرورة يعاني من مرض نفسي خطير يعد من أصعب الأمراض التي لا علاج لها، وهو جنون الارتياب (البارانويا)، فمرض البارانويا هو نمط تفكير ينجم عنه الشعور غير المنطقي بفقد الثقة بالناس، والريبة منهم والاعتقاد بوجود تهديد ما، مثل الإحساس بأن هناك أشخاصا يراقبونك، أو يحاولون إلحاق الأذى بك بالرغم من عدم وجود ما يؤشر على ذلك، ويتسم الأشخاص أصحاب هذا الاضطراب بالغرابة، والشك، وانعدام الثقة بالآخرين، وهو اضطراب عقلي لا يستطيع المصاب به التفريق بين الحقيقة والوهم، ومن أهم سماته الاقتناع الراسخ لدى المصاب بوهم غير حقيقي. وقد يصل الأمر به إلى اضطراب الفصام العقلي الشديد الذي ينتج عنه الإصابة بالهلوسة، والأوهام، والاضطراب في التفكير والسلوك، مما يؤثر على أداء الوظائف اليومية، ويتطلب المصابون بالفصام علاجا مدى الحياة.

ولو تابعنا أقوال قيس سعيد وتصريحاته وتصرفاته لوجدنا هذه الأعراض لديه بشكل لا لبس فيه، ومما يؤكد ذلك: توهمه بأن ثمة من يريد اغتياله وتصريحه بذلك عدة مرات، وقد ثبت أنه محض وهْم، لا أساس له من الصحة، مما جعله أضحوكة في مجالس العامة والخاصة.

الشارع التونسي يغلي غليانا لم نلحظه من قبل، فهو منقسم على نفسه، وبدأ عامة الشعب بالصراخ جراء الغلاء الذي بدأ يتصاعد بوتيرة عالية، وجراء انقطاع بعض المواد التموينية الأساسية المدعومة حكوميا كزيت القلي والسكر؛ فزيت القلي الذي كان المواطن يشتريه بدينار واحد، يدفع اليوم ثمنه بين 5 دنانير و6.8 دينار حسب الجودة. وكذلك مشكلة العظم (البيض) التي تفاقمت حد انقطاعه من الحوانيت (الدكاكين)، علما بأن البيض من أكثر المواد الاستهلاكية طلبا في تونس لارتباطه بكثير من الوجبات المحلية.

أما الغلاء فحدث ولا حرج، كل شيء تقريبا ارتفع سعره بتفاوت. المواد الغذائية والخضروات والسجائر والأدوات المنزلية والإلكترونيات. كل شيء بات في دائرة الغلاء، وبعضه في دائرة الغلاء الفاحش.

في بداية الانقلاب 25 تموز/ يوليو من العام الفائت، وجد قيس سعيد الكثير من المؤيدين، وكانت غالبيتهم العظمى من الشباب الذين أوصلوه إلى كرسي الرئاسة، وأغلب هؤلاء من غير المتعلمين أو من المعطلين عن العمل. ومن خلال متابعتنا الحثيثة لآراء الناس؛ فقد وجدنا تحولا كبيرا في رأي الناس؛ فقد تحول كثيرون من دائرة التأييد إلى دائرة المعارضة حين لم يجدوا من وعود سعيد سوى الكلام، بعد أن أوهمهم أنه سيأتيهم بالذهب الذي سرقه الخونة. وكلما مر يوم يزداد عدد المعارضين، وتحديهم كأن يصر صاحب أحد المقاهي على اختيار قناة الجزيرة لمشاهدة الأخبار والبرامج والتقارير، وخصوصا تلك المتعلقة بالأزمة التونسية، بعد أن أغلقها لفترة من الزمن، ثم عاود فتحها بعد أن أحس بكذب ادعاءات سعيد وسوء أدائه، ولا يعترض أحد من رواد المقهى على ذلك.

تغير المواقف هو الشيء الأبرز في المشهد السياسي الاجتماعي؛ ففي حين كانت الآلة الإعلامية تعمل طوال النهار ضد ائتلاف الكرامة، استطاع سيف مخلوف بمواقفه وخطاب حزبه الواضح أن يغير رأي كثيرين جراء الظلم الذي تعرض له، وجراء تصريحات قيادات الحزب القوية المعبرة، ووقد أظهر اختطاف البرلماني والناشط السياسي نائب رئيس حركة النهضة نور الدين البحيري تعاطفا شعبيا غير مسبوق، ولم يكن متوقعا.

بات كثير من الناس يصفون قيس سعيد بالمجنون، وهو يواجه حاليا إهانات مباشرة وتقريعا حادا في صفحات التواصل الاجتماعي التي يظهر فيها أصحابها بأسمائهم الحقيقية وصورهم الشخصية، ما يعني أنهم باتوا في موقف المتحدي الذي لم يعد يخشى شيئا، فحين تقول لي فتاة مثقفة بحدة وقهر: "البلد لم يعد فيها سوى خيارين أن تصبح ثريا أو تنتحر"؛ فهذا يعني أن الشعب بات في حالة مزرية تبعث على اليأس.. وحين تذهب إلى أحد المشافي الحكومية في وسط العاصمة - في وجود حالات صحية غاية في الحرج - فلا تجد في قسم الاستعجالي (الطوارئ) طبيبا وتضطر للانتظار لعدة ساعات؛ فهذا يعني مقدمة حتمية لانهيار القطاع الصحي، وهذا شيء متكرر في كل المدن التونسية، ويزداد الأمر سوءا يوما بعد يوم.. وقس على ذلك كل المرافق الحيوية في الدولة.

سمعت بأذني ورأيت بعيني النساء يدعون على قيس سعيد بوجع وحسرة، فيقلن: "الله لا تفرحه ولا تربحه" في أكثر من مكان في أسواق تونس وفي الحوانيت (الدكاكين). وفي المترو والحافلات، وبات استسخاف إجراءاته وتقريع تصرفاته من الأمور الاعتيادية اليومية، فغالبية الشعب تنشد الحرية والعدالة الاجتماعية بأي ثمن كان.

إنني على ثقة بأنه لو تم إجراء استفتاء حقيقي بعيدا عن الأسلوب المصري، فإن سعيد لن يحظى بأكثر من 40 في المائة على أعلى التقديرات، وسوف يصدم صدمة كبرى حين يدرك أنه لم يعد مرغوبا فيه، وهو الذي ينظر لنفسه نظرة دوغماتية مريضة.

وعلى الصعيد السياسي النخبوي، فثمة بوادر تقارب بين حركة النهضة والأحزاب والمنظمات التي كانت على مسافة بعيدة منها، وذلك حين أحس الجميع بالخطر، واستدعوا التجربة المصرية المريرة، فثمة تضامن كبير مع المعتقلين والمختطفين في أروقة السياسة وبين قطاعات من الشعب.

الشعب يستعد لمعركة الكرامة يوم 14 كانون الثاني/ يناير بكثير من الجدية والرغبة في التغيير، لكنهم في الوقت نفسه يتوقعون قمعا شديدا من قبل أجهزة الأمن، كما يتوقعون اعتقال أعداد كبيرة من المتظاهرين. لكنني وجدت إصرارا على المضي قدما في التظاهر رغم التوقعات السيئة.

واضح أن سعيّد منشغل بتعزيز سلطته ولا وقت لديه لمعاناة التونسيين، بل لقد طالب بتخفيض الرواتب 10 في المائة بسبب صراخ الخزينة من الإفلاس، وسوء التوقعات في الأشهر القادمة، وهو لا يعمل على تسوية الأمور بحيث يسهل إمكانية الحصول على معونات أو قروض دولية، بل يمعن في تشويه صورة البلد، وتمكين الفوضى لصالح هواجسه الشخصية ونوازعه النفسية الغريبة، بما يجعل المشهد الاقتصادي والموقف المالي في أسوأ حالاته التي تنذر بانهيار أعمدة الدولة ومؤسساتها.

وعلى الجبهة السياسية، يتساءل المحللون عن طبيعة المشاورات التي ستجرى عبر الإنترنت على مدى الأشهر الثلاثة المقبلة، وفيما إن كانت ستتم بالشفافية. وتقوم المشاورات على إجابة المواطنين عن عدد من الأسئلة تتعلق بالدستور والعملية الانتخابية والنظام التعليمي والصحي والاقتصادي. 

ويقول المحللون بأن الحكومة لم تعلن إن كانت ستنشر النتائج، ولا كيف ستؤثر هذه المشاورات على الدستور. ويقول المحلل السياسي التونسي محمد ضياء الحمامي ما معناه؛ إنها طريقة لإضفاء الشرعية على القرارات التي سيتخذها قيس سعيد.

وقد نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا منذ أيام أعدته من تونس مراسلتها فيفيان يي، وجاء فيه؛ "إن قيس سعيد وعد عندما استولى على السلطة بمعالجة الأزمة الاقتصادية، ولكن التونسيين لا يزالون ينتظرون". والحقيقة أنهم سينتظرون طويلا جدا، لأن الرسالة واضحة ويمكن قراءتها من العنوان؛ فقيس سعيد لا يمتلك رؤية ولا خطة طريق، ويتخبط بطريقة هستيرية، وخطابه عدائي لا يغري بالتفاؤل، ولا أعجب إلا من أولئك الذين يعتقدون بأن سعيد في منتصف الطريق إلى الجنة ليأتيهم بملذاتها وخيراتها.

والسؤال المطروح الآن: لماذا اعتقل سعيّد نور الدين البحيري؟

ربما اعتقد سعيّد بأنه سيضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، فهو يتصور أن اعتقال البحيري سيحقق له ما يأتي:

1- محاولة للتقرب من اليسار والدولة العميقة أو تحييدهما مؤقتا، ذلك أن العداء المستحكم بين اليسار وأزلام النظام السابق وبين النهضة، من شأنه أن يجعل أي إجراء ضد النهضة مقبولا لدى الطرفين، لكنني أظن أن اليسار على الأقل يفهم اللعبة، ولا أظن أن تنطلي عليه.

2- إرسال رسالة خوف للمعارضين الأقوياء وتخويف الشارع بشكل عام قبل 14 كانون الثاني/ يناير، ليحجموا عن التظاهر.

3- إسكات صوت البحيري الذي فضح إجراءات سعيد طوال الوقت.

وكانت تصريحات سعيد المتشنجة حول انتقاد البحيري المضرب عن الطعام باعثة على الدهشة، فليس هناك رئيس دولة يقول: "هو حر في اختياراته، لكنه ليس فوق القانون، وليس عليه أن يؤدي دور الضحية"، وهذا قمة الازدراء للمواطن التونسي وقلة أدب في التعامل مع إنسانية الإنسان. لو كان رئيسا حقيقيا لتمنى له الخير ودعاه إلى التوقف عن الإضراب، فهو خصم لدود للبحيري، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يقيم الرئيس من نفسه خصما لمتهم ينتظر المحاكمة!

وجاء تصريح الأمين العام لحزب العمال اليساري حمّة الهَمَّامي قويا حين قال؛ "إن الرئيس التونسي يسعى لإخضاع القضاء وتوظيفه لمحاسبة خصومه، ولحماية نفسه من الجرائم التي ارتكبها". وهو تصريح خطير في ظل الأزمة القائمة، وأظن أن له ما بعده، وقد جاء تصريحه بعد إحالة المرزوقي والغنوشي وحمة الهمامي ذاته وآخرين إلى القضاء بتهمة ارتكاب جرائم انتخابية، مع أن اسم قيس سعيد ذاته موجود على قائمة المخالفين لإجراءات الانتخابات.

لقد أودع قيس سعيد تونس غيابة الجب، ولكن هل من سيارة ينقذونها ويجعلونها على خزائن الأرض؟!

 

الوقائع على الأرض تقول عكس ذلك، والضحية شعب من الزوالية (الفقراء) يبحث عن لقمة العيش؛ وتضيق حول رقبته حبال قيس ومآلات ما قام به، ولا أظن أن ثمة حلا إلا بخروجه من المشهد.