أخبار ثقافية

القصة القصيرة والسينما.. غضب وجمال في فيلم "وايلد تيلز"

جمع الفيلم بين تقنيات القصة القصيرة والسينما، فاعتمد على التكثيف الدرامي، وسرعة تنامي الحدث- تويتر

ستة أفلام قصيرة في فيلم واحد طويل. معادلة صعبة تمكن المخرج الأرجنتيني داميان زيفرون من جمع عناصرها في تجربة سينمائية مختلفة عن المألوف، عنونها باسم (Wild Tales). 

عنوان الفيلم "حكايات عنيفة" يفصح، من دون مواربة، عن مضمون التجربة التي سعى مخرجه إلى إنجازها، تجربة العنف الفردي في أقصى درجاته، يمسك بتلابيب الإنسان العادي، غير العنيف بطبعه، الملتزم بالقوانين والأخلاقيات العامة، لكنه يجد نفسه، نتيجة ظروف خاصة، منجرفاً نحو السلوك العنيف، مثل سدّ ينهار، في لحظة فارقة، من تحت بحيرة عظيمة هادئة. 

اعتمد الفيلم على وحدة الثيمة الدرامية ليجمع ست قصص قصيرة لا يمكن الجمع بينها لولا إصرار المخرج على وحدة الشعور والسلوك وردة الفعل، لتكون بديلاً عن وحدة الحدث الدرامي.

استفاد الفيلم من أهم خصائص القصة القصيرة في بناء كل فيلم من أفلامه الستة على أرضية حدث واحد، وشخصية رئيسة واحدة أو شخصيتين، لكن الحدث احتوى على طاقة درامية هائلة، وضعت الشخصية الرئيسة في حالة من الغضب المتصاعد، لا ينفع معها الصبر ولا التعقل، وولدت لديها رغبة بالانتقام المباشر العنيف من دون حساب للعواقب.

سمح قِصَرُ الأفلام الستة، التي لا يتجاوز أطولها الثلاثين دقيقة، للمخرج بالدخول في الحدث الدرامي مباشرة، من دون الحاجة إلى تمهيد طويل، الأمر الذي جعل المَشاهد القليلة في كل فيلم مكثفة ومشحونة بالدلالات النفسية والاجتماعية والسياسية.

ومثل مَن يقرأ مجموعة قصصية متقنة التأليف، لكاتب كبير، كإدغار آلان بو، أو كافكا، أو إرنست همنجوي، أو يوسف إدريس، يشعر المُشاهد للفيلم، ببراعة الأسلوب، وعمق المعالجة، وقوة التعبير عن المشاعر.


اقرأ أيضا: "ترجمان الأوجاع"... وجع المهاجرين الحالمين بحياة أفضل


انبنت الأفلام الستة على سيناريوهات متقنة، سهّلت عمل المخرج في العبور من اللغة الأدبية إلى اللغة السينمائية، محافظة على سعة الخيال المتولد من الاستعارة، وتعدد طبقات المعنى، والإمكانيات المدهشة للسلوك الإنساني، وردود الفعل غير المتوقعة تجاه حوادث الحياة المباغتة. 

وعلى الرغم من أنّ ثيمة الغضب ضبطت أيقاع المعالجة السينمائية في قصص الفيلم جميعها، إلا أن سياقات الغضب جاءت متنوعة، بين غضب لأسباب فردية نفسية في القصة الأولى (الطائرة)، وغضب لأسباب يختلط فيها الشخصي بالسياسي، في القصة الثانية (المطعم). وغضب لأسباب طبقية، في القصة الثالثة (رحلة السيارة)، انطلقت شرارته من حادثة تافهة في طريق خارجي، بين سائق سيارة فاخرة، وسائق سيارة متهالكة، فأودى الغضب المنفلت من عقاله بحياة السائقين، جثتين متفحمتين متشابكتين داخل السيارة الفاخرة.

وينجلي الغضب في القصة الرابعة (خبير المتفجرات) عن دواعٍ سياسية محضة، تتصل بفساد المنظومة الإدارية العامة، الأمر الذي يحوّل فعل الانتقام العنيف، من وجهته الفردية إلى استهداف المؤسسات العامة المسؤولة عن قهر المواطنين، ومعه يتحول بطل القصة إلى إرهابي من وجهة نظر القانون، ومنقذ من وجهة نظر الشعب.

وتتميز القصة الخامسة (حادثة الدهس)، بأن الغضب فيها ليس ناجماً عن ظلم وقع على الشخصية الرئيسة فيها، فهو رجل ثري يسعى للتستر على جريمة دهس ارتكبها ابنه المدلل.

 

ويجد نفسه عرضة لابتزاز مالي بشع من ممثلي جهازي الشرطة والقضاء، فيثور عليهم، وتكون ثورته تعبيراً عن اتساع مستنقع الفساد إلى حدّ أنه لا يلتهم الأبرياء والضعفاء فحسب، بل ويلتهم الأثرياء الفاسدين أيضاً.

وفي القصة السادسة (حفلة الزفاف) يتكشف الغضب عن أسباب جندرية، ذات أبعاد اجتماعية ثقافية، وتجري أحداثها في قاعة أفراح كبيرة في فندق فخم.

والقاعة أشبه ما تكون بالمسرح. ويدور الصراع بين العروسين على الملأ، في مشهد واحد طويل، كأنه مسرحية من فصل واحد.

 

والجمهور هو عشرات المدعوين من عائلتي العروسين وأصدقائهم، يتابعون بدهشة ورعب ومتعة، الأفعال الجنونية التي يقدم عليها العروسان خلال سورة الغضب التي تنتابهما بسبب الغيرة وانعدام الثقة بينهما.

ويتفاعل جمهور المدعوين مع العروسين، مظهرين التعاطف معهما في كل فعل فضائحي يقدمان عليه، ويبدل المدعوون مواقفهم بحسب ميزان العدالة الجندرية المتأرجح بين العروسين.

وتنتهي القصة بانسحاب الجمهور والخدم من المشهد، وانطفاء الأضواء في القاعة، تاركين العروسين في حالة عناق عاطفي، بعد أن توصّلا إلى تفاهم على مستقبل حياتهما الزوجية، وبعد أن رسم كل منهما للآخر الحدود التي يجب ألا يتخطاها، والقائمة على الثقة والاحترام المتبادل.

ولا يمكن القول أن الأفلام الستة كانت على نفس المستوى من الاتقان، مثلها مثل أي مجموعة قصصية متفاوتة المستوى بين قصة وأخرى. ولكنها في مجموعها تصنع فيلماً فريداً، فيه ثراء ومتعة وجماليات.

القصة الأولى كانت الأقل إقناعاً وطغت المفارقة فيها على العمق، وربما كانت مجرد مفتتح للفيلم، بدليل أنها كانت سريعة، وسبقت تتر الفيلم الذي يحمل أسماء الممثلين والفنيين إضافة إلى اسم المخرج.

القصة الثانية بدت حبكتها كلاسيكية، وشخصياتها الثلاثة نمطية، ونهايتها مألوفة تتجسد في فعل انتقام نموذجي. ولم يكن فعل الانتقام مبنياً على شعور بالغضب حادث في لحظته، بل مبيتاً نتيجة حدث سابق على زمن الفيلم، الأمر الذي جعل القصة تفتقر إلى حيوية قصص الفيلم الأخرى.

القصة الخامسة، برغم نمطيتها، إلا أنها نجحت في أحداث تحول درامي مثير، حين تمرد الرجل الثري على محاولات الابتزاز من المنظومة القضائية لإعفاء ابنه من السجن.

 

ففي لحظة مفاجئة، تحول الثري من طرف ضعيف في المساومة المالية، إلى طرف قوي، وبعد أن كان يرجو ممثلي القضاء كي يقبلوا بالصفقة الفاسدة، أخذوا يرجونه كي يستمر فيها، متنازلين عن جزء من الثمن الذي عرضه عليهم في البداية.

لكن هذه القصة خلت من ذلك الجنون العبقري في قصص (رحلة السيارة) و (خبير المتفجرات) و ( حفلة الزفاف).

 

جنون الغضب الذي يفوق كل التوقعات، ويتصادم في عنفه مع رتابة الحياة، ويحرر الإنسان في لحظة واحدة شاعرية من كل القيود والاعتبارات التي كان يظن أنها الأهم في حياته.

جمع الفيلم بين تقنيات القصة القصيرة والسينما، فاعتمد على التكثيف الدرامي، وسرعة تنامي الحدث، والحساب الدقيق لكل لقطة، وتسريع الإيقاع الزمني للفيلم بحيث لا يتجاوز سحابة يوم أو ليلة أو بضع ساعات، وأبقت النهايات الحادة لكل قصة الباب مفتوحاً لتأملات مستفيضة حول السلوك الإنساني، والحدود الفاصلة بين العقلانية والجنون.