أفكَار

ليلة القدر بين منازل العارفين وأوهام الساهرين.. مفاهيم

رمضان مختلف في زمن كورونا.. أعداد قليلة تشهد ليلة القدر في رحاب مكة المكرمة (رئاسة خدمة شؤون الحرمين)

أمضى المسلمون في كل بقاع العالم شهرا رمضانيا غير مسبوق في تاريخ عباداتهم، لجهة لزومهم بيوتهم وإغلاق مساجدهم بسبب وباء كورونا المستجد، الذي لا يزال يتمدد شرقا وغربا.. غابت المظاهر الرمضانية التقليدية المتصلة بمآدب الإفطار الجماعي، وصلاة التراويح والاعتكاف في المساجد، حتى الكعبة المشرفة والمسجد النبوي الشريف والمسجد الأقصى، بدت حزينة بسبب تعليق صلاة التراويح والقيام فيها، إلا لأعداد قليلة..

وهكذا عاد المسلمون لأداء صلواتهم المفروضة وسنة التراويح في بيوتهم مع عائلاتهم الصغرى، ونشأ نقاش فقهي وفكري طويل حول حجية إغلاق المساجد في شهر القرآن، وهو نقاش ثري أضاء كثيرا من الجوانب المظلمة في تاريخنا الفقهي والديني..

في هذا المقال الخاص بـ "عربي21"، يناقش الكاتب والشاعر التونسي بحري العرفاوي، مفهوم "ليلة القدر"، ومعناها الديني.. 

 

بلوغ ليلة القدر
  
هل هي ليلة قَدْر واحدة؟ هل هي ليلة بمفهوم زمني أي ليلة من بين ليالي شهر رمضان؟ لماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم التمسوها في العشْر الأواخر من شهر رمضان؟

أعتقد أن ليلة القدْرِ هي ليلةٌ لـ "مَرْقَى روحى" وليست لموعد زمني..."مَرْقى روحي" بمعنى بلوغ أرقى درجات الصفاء الروحي والسمو النفسي والإعتدال الإيماني بفعل دُرْبة استثنائية في شهر رمضان على مغالبة الشهوة وتهذيب النفس ومغالبة الغريزة وملازمة الذكر والاستغفار وتلاوة القرآن... 

بلوغ "ليلة القَدْر" هي "حالةٌ" من "التّماسّ" تحدث بين عالم النفس أو الروح وعالم الغيب بما هو عالم الكمال والجمال والحقيقة، وهذا معنى قوله تعالى في القرآن "لا يَمَسّه إلا المطهرون" و"المسّ" هنا لا بمعنى اللمس، و"الطهارة" ليست نظافة الجسم، فـ"المسّ" هو "مسّ" المعنى وإدارك الأسرار وتحصيل اللذة المعرفية والجمالية والقيمية وهي "حالة" لا تحصل إلا لمن بلغ درجة من "التطهر" الروحي أي الصفاء والنقاوة بفعل مكابدة النفس ومجاهدة الغريزة وتليين لواعج الجسد واهتياجاته الشهوانية بما يحقق اعتدالا بين الأبعاد التكوينية الثلاثة للإنسان: الروح، العقل والجسد.

ليلة القدر إذن هي "حالة" يُنتظر تحصيلها بعد عشرين يوم على الأقل من "المكابدة" الروحية وهي "حالة" ليست متاحة للجميع وليست موعدا يُدركه كل من انتظره ساهرا ذاكرا متعبدا كل العشر الأواخر فكم ساهرا قلبه نائم وكم ذاكرا بلسانه قلبه غافل وكم حاضرا بجسده وروحه باردة باهتة فأنَّى له بليلة القدر بما هي "حالة" اختراق لحُجب الغيب وانزياح في عوالم الجمال والكمال والحقيقة؟

أعتقد بهذا التعريف أن ثمة ليال لـ "القَدْرِ" يدركها صفوة الصفوة من تلاميذ "المدرسة" الرمضانية، إنهم "النجباء" يتفاوتون في مراقي الروح ومدارج الغيب فُيدركونها كل في "ميقاته" الروحي على امتداد "العشر الأواخر"، وثمة من لن يُدركها العُمرَ كله ولو ظل يحرس ليالي الشهر كاملة.

 

حالة انقداح روحي

كثير من محدودي الفهم الديني يتعاملون مع ليلة "القَدْرِ" بما هي "فُرْصةٌ" لا بما هي "حالة" انقداحٍ روحي و"تحصيلٌ" ولذلك نراهم "يتكاسلون" في العشرين يوم الأولى ويُقلّون من التعبّد ثم في العشر الأواخر يتزاحمون على المساجد أو يحاولون "اقتناص" الليلة تلك حتى من بيوتهم وهم يقيمون حتى مطلع الفجر...هؤلاء أشبه ما يكونون بتلاميذ كسلاء لا يبذلون جهدا في التحصيل المعرفي ثم في آخر السنة يتقدمون للإمتحان مراهنين على "ضرْبة حظ".

"ليلة القَدر" ما كانت لتكون "خيرا من ألف شهر" لو لم تكن ليلة التقاء الإنسان بعالم "الكمال" في لحظة صفاء تتخطّف فيها الروح مشاهد من "الغيب" و"الحقيقة" و"الجمال".

وهي ليلة لاستنزال معانٍ قرآنية كل بحسب جاذبيته الروحية، فقوله تعالى "أنزلناه في ليلة القدر" لا تعني الوحي الذي استمر 22 عاما و22 شهرا و22 يوما إنما المقصود إنزال الأسرار القرآنية كقوله "وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجا" فهو أشبه ما يكون بإنزال الماء حين تتوفر شروط نزوله من سُحب مثقلة ومن رياح وجاذبية، كل "إنزال" يحتاج "مَنزلا" أو "وعاء" أو "مجالا" هذه "المنازل" هي الأرواح المنجذبة شوقا وصفاء إلى عوالم الحقيقة والمعنى والجمال وتلك هي "أسرار" القرآن التي لا "يَمسّها" إلا من ترقى مراقيَ من مراقي الغيب عاليةً.