أفكَار

تصوير الصدقات.. تحريض على الإنفاق أم إذلال للفقراء؟

إخراج الصدقات الواجبة والمستحبة باب من أبواب الخير العظيم (أنترنت)

لم تفلح جهود البشرية في القضاء على آفة الفقر والخصاصة، على الرغم من كل مظاهر التقدم والغنى التي تميز عالم القرن الحادي والعشرين. وتزيد الأزمات السياسية والاقتصادية والحروب والأوبئة من أعداد الفقراء بحكم التداعيات الاجتماعية المباشرة لهذه التطورات على حياة الناس.

ولأن الحاجة أم الاختراع، فقد أوجدت المجتمعات منظمات مدنية تعمل لمواجهة هذه التداعيات على حياة الناس، ووضعوا لها قوانين عمل واضحة تضمن شفافيتها ووصولها إلى محتاجيها.

والحقيقة أن الأديان كانت سباقة إلى التأسيس لصيغ التعايش بين مختلف الطبقات الاجتماعية، وهي التي أقامت بنيانها على قيمة العدل باعتباره أساس العران، حتى أن كثيرا من الدارسين رأوا بأن تطبيق فرض الزكاة وحده من شأنه أن يعالج ظاهرة الفقر.

ظاهرة التآزر أو نجدة الملهوف في العالمين العربي والإسلامي، تجد لها إرثا عريقا في كتب التاريخ، وهي ظاهرة تنمو وتزدهر في أوقات الشدة، وأيضا في المناسبات الدينية، مثل شهر رمضان كل عام، حيث يتنافس الخيرون في خدمة الناس وتقديم يد المعونة لمن يحتاجونها.

وعلى الرغم من أن الأديان كما منظمات المجتمع المدني، حرصت على أن تكون المساعدات ضامنة لكرامة ابن آدم، حيث لا تكون هذه المساعدات مدخلا للحط من القيمة البشرية والآدمية لمستحقيها، إلا أن ذلك لم يمنع بعض الأطراف من أصحاب المبادرات الخيرية من الاستثمار في هذه الأعمال الخيرية، وتحويلها إلى علامة سياسية، وإن كان ذلك لا يزال عملا شاذا. 

الإعلامي بسام ناصر، يناقش في هذا التقرير الخاص بـ "عربي21"، ظاهرة تصوير الصدقات.. هل هي تحريض على فعل الخير أم لتكريس إذلال وإهانة متلقيها؟ ويطرح السؤال على عدد من المختصين بالشؤون الفكرية والدينية والاجتماعية والخيرية.

"قلبي اطمئن" جدد النقاش

تنشر بعض المؤسسات الخيرية عبر وسائل الإعلام المختلفة، وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة، أو صورا توثق توزيعها للصدقات على الفقراء والمحتاجين، مع إظهار وجوه المُتصدَّق عليهم بشكل واضح وكامل، وهو ما يُواجه عادة بانتقادات واسعة، لما يلحقه بالفقراء من إذلال ومهانة بحسب المنتقدين. 

وكان لافتا في رمضان هذا العام مدى تباين ردود الأفعال حيال برنامج "قلبي اطمأن" الذي يجوب مقدمه الشاب الإماراتي غيث دولا عديدة باحثا عن حالات إنسانية فقيرة، أقعدها الفقر عن تحقيق الحد الأدنى من مواصفات الحياة الكريمة، ثم فجأة يفتح غيث لها باب السعد، بما يقدمه من دعم مادي سخي، يساعدها على بدء حياة جديدة ملؤها التفاؤل والأمل بحياة أفضل. 

 



ومع أن البرنامج حظي بنسب مشاهدات عالية، ولاقى تفاعلا إيجابيا على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أشاد بعض رواد التواصل الاجتماعي به، وأبدوا إعجابهم برسالته المتمثلة بجبر خواطر المحتاجين، ومساعدتهم بمبالغ مجزية تكفل إخراجهم من حالة الفقر والحرمان التي عاشوها طوال حياتهم الماضية، إلا أن آخرين أبدوا اعتراضاتهم على طريقة إخراجه التي تُظهر الفقراء بحالة مزرية ذليلة، تنتقص من كرامتهم، وتريق ماء وجوههم في حلقات مصورة يشاهدها ملايين الناس. 

وبحسب مراقبين وناشطين فإن ذلك البرنامج الذي ظاهره فعل الخير وإيصاله لمستحقيه، لا يخلو باطنه من أجندة خفية تخدم مموليه، وتبيض صفحتهم، وهو ما دفع مدير قناة الجزيرة السابق، ياسر أبو هلالة إلى وصفه بأنه "برنامج (خيري) من أبو ظبي يجسد الغسيل السياسي". 

 

1-الخلاف على سياسة #الإمارات العدوانية وليس مع بلد أحب وأحترم، أشجع مشاهدة البرامج التي تنمي قيم الخير والعطاء سواء #قلبي_اطمأن أم غيره، وأحسن الظن بغيث وكل عامل للخير، وأسيئ الظن بدولة تسببت بكوارث إنسانية في #اليمن و #ليبيا و غيرها وتغسل ذلك بأعمال " خيرية" https://t.co/RlY1cIFTPQ



وأضاف أبو هلالة في تغريدة عبر حسابه على تويتر "شخصية البرنامج شاب اسمه غيث، والبرنامج يسوق لمشاريع الهلال الأحمر الإماراتي من خلال هذه الشخصية، واختاروا للتسويق شخص لا يظهر وجهه، كل ذلك لا يغطي الوجه المكشوف لمجرمي الإمارات في اليمن وليبيا" على حد قوله. 
 
ووفقا لعلماء ودعاة فإن إخراج الصدقات الواجبة والمستحبة باب من أبواب الخير العظيم، يعود بالنماء والأجر على المتصدق من جهة، والنفع والخير على المُتصدَّق عليهم من جهة أخرى، لكن حتى يسلم المتصدقون من حظوظ النفس، والانسياق مع تطلع النفس إلى مدح الناس، فيجدر بهم التخلق بآداب الإنقاق، وأخلاقيات المنفقين حتى لا تبطل صدقاتهم، أو تنقص أجورها. 

من جهته أوضح الأكاديمي المغربي، الباحث في العلوم الإسلامية، عبد الله الجباري أن "الأصل في الصدقة أنها قربة إلى الله، والقربات درجات، فالصدقة إلى القريب أفضل منها على البعيد، وصدقة السر تفضل صدقة العلن، وكلما كانت القربة سرية كانت أسلم من الرياء وأقرب إلى الإخلاس". 

 



وتابع حديثه لـ"عربي21" بالقول: "أما من جهة المتصدَّق عليهم، فلا أرى مصلحة في تصويرهم ونشرها، لأن للفقير حرمة وكرامة، وكثير من الفقراء يؤثرون كرامتهم على التسول، فيحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، وإظهار صورهم قد يكون من الأذى الذي يبطل الصدقات من الأصل، "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ".

وتعليقا على ما يستدل به بعض الناس بالآية الكريمة (إن تبدوا الصدقات فنعما هي) على جواز تصوير الفقراء حال استلامهم للصدقات، ثم نشره، تحفيزا لغيرهم من الموسرين حتى يقتدوا بهم ويتبعوا خطاهم، لفت الباحث الشرعي الأردني، المتخصص في الحديث النبوي وعلومه، أنس المصري إلى أن "الله مدح إبداء الصدقات، لا إبداء المتصدق عليهم". 

وأضاف: "فيمكن للمتصدق أن يُظهر صدقته ويعلن زكاته في بعض الأحيان، وهذا ما مدحه الرسول عليه الصلاة والسلام من فعل الصحابة رضوان الله عليهم في مواقف عدة؛ كيوم العسرة وغيرها، ولم يعهد عن أحدهم أن أعلن عن الفقير الذي تصدق عليه". 

 



وشدد المصري في تصريحاته لـ"عربي21" على أن تصوير الفقراء حال استلامهم للمساعدات "فيه ضرر نفسي على الفقير، لا يقتصر على إذلاله وامتهان كرامته فحسب، بل فيه جرح لمشاعره وتهديد لمستقبله بطريقة تجر عليه حزنا يُذهب فرحته بما جاءه من الصدقات، كما أن فيه ضررا اجتماعيا لمستقبل فتاة صغيرة تكبر على ما عُرف عنها من أخذ الصدقات في صغرها، فكيف ستتعامل مع المجتمع، وبماذا سينظر الناس إليها؟". 

وحذر من الآثار السلبية المترتبة على تصوير الفقراء حال تسلمهم للمساعدات "لا سيما ومقاطع التصوير محفوظة في مواقع النت ولا تمسح، وقد يتمنى الفقير بعد انقضاء السنوات لو لم يحضر ذلك المحسن إلى بيته، لما تسبب له من ضرر مقابل مساعدة آنية". 

وأبدى المصري رأيه "بعدم جواز تصوير الفقير حال استلامه الصدقة، لأن المقصود بالآية الكريمة مقتصر على إظهار الصدقات، ولا يدخل فيه الفقير، والمصلحة المتحققة من إعلان الصدقات متعلقة بعين الصدقة لا شخص المتصدّق عليه، إلا إن كانت صدقة على مؤسسة وقفية عامة أو مستشفى عام، أم مرفق من مرافق الدولة، فلا بأس حينذاك من إعلان الصدقات لتحفيز الناس ودفعهم إلى التعاون على البر والتقوى". 

وحول الآثار النفسية والاجتماعية المترتبة على تصوير الفقراء حال استلامهم للصدقات، قال أخصائي الطب النفسي، الدكتور علاء ضامن الفروخ: "غالبا ما يؤدي هذا العمل إلى حدوث مشاكل نفسية واجتماعية عديدة، حيث يؤدي إلى شعور هؤلاء بالدونية، وما يترتب على ذلك من قلق وتوتر نفسي، ويصبحون أكثر عرضة للاكتئاب والقلق الاجتماعي". 

 



وردا على سؤال "عربي21" حول الطريقة الآمنة لتصوير الصدقات لأغراض التوثيق وما شابه، أشار الفروخ إلى "إمكانية التوثيق من غير إظهار وجوه الفقراء وشخصياتهم، أو يتم إخفاء معالم وجوههم وشخصياتهم، حتى لا يكونوا معروفين، مع أن التوثيق يختلف عن النشر على وسائل التواصل الاجتماعي". 

بدورها قالت الباحثة السورية، المتخصصة في الفقه الإسلامي، عابدة المؤيد "مما لا شك فيه أن إخفاء الصدقات أفضل، كما قال تعالى "إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ"، مضيفة: "لكن الحكم الشرعي يكون حسب نية المصور، وحسب طريقة التصوير، وحسب العرف، وحسب رأي العائلة التي يتم تصويرها، فإن أذنت، ورات الأمر عاديا، وفيه إبراز لمعاناتها المعيشية، فلا ضير ولا بأس بذلك". 

 



ورأت المؤيد أن تصوير الفقراء حال استلامهم للصدقات "قد يظهر بادي الرأي أنه إذلال، لكن ربما يكون فيه منافع، فقد يبرز أخلاق التراحم بين المسلمين عمليا، وقد يكون تحفيزا على الصدقة، ودعوة لفعل الخير والمسارعة للبذل والتضحية، والتفكير بمعاناة الآخرين".

وأردفت لـ"عربي21": "قد يكون تصوير لحظة فرح الفقراء باستلام الصدقات، مما يحرك نفوس المشاهدين والمشاهدات، ويحفزهم لمزيد من التبرع والتصدق، وهو ما يشعر عموم الفقراء بأن هناك من إخوانهم من يمد لهم يد العون، ما يشعرهم أن الدنيا ما زالت بخير".

ولإظهار نموذج عملي لطريقة إخراج الصدقات وتصويرها عرض الناشط في العمل الخيري لـ"عربي21"، نصر القراملة طريقة توزيع الصدقات، وحالات التصوير التي "إما أن تكون بطلب المحسن المتبرع الذي أوكلهم كؤسسات خيرية تطوعية، بتوزيع صدقاته سواء أكانت نقدية أو عينية، ليتأكد من وصولها إلى مستحقيها، وهو خاص بالمحسن، وليس للنشر".

 


 
وختم القراملة، الذي يتولى مهام أمين الصندوق في جمعية أصحاب الهمم للمعوقين بالأردن حديثه بالإشارة إلى "أنهم يوثقون أخبار إخراج وتوزيع الصدقات لحفز الآخرين على فعل الخير، وحثهم على مد يد العون لإخوانهم المحتاجين، من غير إبراز وجوه الفقراء، أو تحديد شخصياتهم، لأن في ذلك إذلالا لهم، وانتقاصا من كرامتهم الإنسانية"، على حد تعبيره.