أخبار ثقافية

عن الشعر والسّرد.. قصيدةُ "الحِكَاية" لنزار قباني نموذجا

أحمد البزور: قصائد الشّاعرِ نزار قبّاني إحدى التّجارب الّتي شاعَ فيها توظيف السّردِ في الشعر- (عربي21)

يُحاول هذا المقال الإشارة إلى عنصري الأنا والآخر على مستوى القصيدة بوصفها بنية حكائيّة، تقوم على شخصيّتين وحدث وموقف وعلاقة.

ومن نافلةِ القولِ أنّ علاقةَ الشّعرِ بالسّردِ قديمةٌ قِدم الشّعرِ نفسِهِ، والقصيدة العربيّة لم تكن بمنأى عن هذا التّداخلِ والتَقاطعِ مع الأنواعٍ الأدبيّة، من خُطبةٍ ورسالةٍ وقصّةٍ وحكاية، بل أكادُ أزعم أنّ تداخل الأنواعِ الأدبيّة ليس جديدًا على المستويينِ الإبداعيّ والنّقديّ.

ويعدّ حضورُ السّردِ سِمةً من سِماتِ الشّعرِ لا سيّما الحديث، ولعلّ تجربةَ الشّاعرِ نزار قبّاني إحدى التّجارب الّتي شاعَ فيها توظيف السّردِ، وقد لجأ إلى السّردِ في قصائدَ كثيرة، من خلالِ الاستعانة بالمكوّناتِ السّرديّة، وقد تفاعلتْ نصوصه الشّعريّة مع الخصائص الفنيّة للقصّةِ، من مكانٍ وزمانٍ وحوارٍ وحبكة.

وغنيٌّ عن البيانِ أنْ أقول إنّ البِنيةَ السّردية تتكون من زمانٍ ومكانٍ وشخصيّات وحوار، وتتم من خلالِ راوٍ أو سارد، وعلى ضوءِ ذلك انفتح شعر نزار قباني على هذه البنية، إذ إنّ الصيغَ الّتي أطّرت قصائده تنتمي إلى البنيةِ السّرديّة، وأنّ المُتأمل لهذا الشّعرِ ليلمح قصصًا وحكايات تنتمي إلى ما يُمكن أنْ أسمّيه بالقصيدةِ الحِكاية وبعبارةٍ جامعة القصيدة القصّة.

 

عدّ حضورُ السّردِ سِمةً من سِماتِ الشّعرِ لا سيّما الحديث، ولعلّ تجربةَ الشّاعرِ نزار قبّاني إحدى التّجارب الّتي شاعَ فيها توظيف السّردِ، وقد لجأ إلى السّردِ في قصائدَ كثيرة، من خلالِ الاستعانة بالمكوّناتِ السّرديّة، وقد تفاعلتْ نصوصه الشّعريّة مع الخصائص الفنيّة للقصّةِ، من مكانٍ وزمانٍ وحوارٍ وحبكة.

 



إنّ النّتيجة التي تقودنا إليها هذه المُلاحظة هي أنّ هذه القصص تتحدث ضمن سياقها الشّعريّ عن الأنثى على علاقةٍ من نوعٍ ما بالواقعِ الثقافي خاصّة الاجتماعيّ، كما يستطيع القارئ أن يُطالع نماذج عديدة للشخصيّات الّتي يجهد الشّاعرُ في رسمها وترسيخ ملامحها كنموذج الأنثى الحبيبة والأمّ والأخت والأب والأخ والصّديق والحبيب.

انطلاقًا من هذه المُلاحظة، سنتّخذ في هذا المقال المُوجز قصيدة "حكاية" من ديوانِ "أنتِ لي"، الصّادر عام 1950م، مدارًا للتّحليلِ، وسنعتمد عليها لسبرِ الأداءِ الوظيفيّ لتقنية القصّ، بوصفها مُكوّنًا رئيسًا من مُكوّناتِ تشكيلِ البِنيةِ الشّعريّة عند نزار قباني، والقصيدة كما أسمها دلّ عليها معنية بالحكي والقصّ. 

 

قوانين الأدب القصصي

نستطيعُ أنْ نُقررَ نظريًا وعلى ضوءِ المنظورِ النّقديّ الحديث أنّ السّردَ هو "العلمُ الّذي يتناول قوانين الأدب القصصي"(1)، وهذا التّعريفُ الّذي ذكرناهُ لا يختلف عمّا ذكرهُ مؤلفا كتاب دليل النّاقد الأدبيّ، ميجان الرّويلي وسعد البازعي، حيثُ يقولان بأنّ علمَ السّردِ يسعى إلى "استخراجِ القوانين الّتي تمنح النّصّ ما يجدهُ المُفسّر من دلالات"(2)، وبالنّتيجةِ فإنّ السّردَ مُصطلحٌ نقديٌّ، يُشير إلى البناءِ الأساسيّ في العملِ الأدبيّ، إذ يعتمد عليه الأديب في وصفِ تجربته الشعوريّة.

إنّ المتتبع لسيرِ الحكايةِ والقصّة في شعرِ نزار قبّاني يلمسُ جنوحًا نحو التّنويع في تقديمِ أشكالها، ومن يقرأ قصيدة "حكاية" بالذّاتِ يُلاحظ بيسرٍ امتزاج النّظم الشّعريّ بالأداءِ السّرديّ، إذ يسعى فيها إلى تكوينِ قصصي سردي، بحيث يبدأ قصيدته من لحظةٍ زمنيّة تستدعي على الفورِ لحظة أخرى، لهذا فإنّ فعلَ السّرد غالبًا ما يكون آنية كتابيّة، بمعنى أنّهُ لحظةٌ مُمتدة من البدايةِ إلى النّهايةِ، تمامًا كما هو الحال بالنّسبةِ للقصيدةِ التي نحن بصددها، إذ تنهض منذُ استهلالها على فعلِ السّردِ بضميرِ المُتكلم، ودونكم نصّ القصيدة:

"كنتُ أعْــــــــدو في غابـــــــــــةِ اللوزِ.. لمّا
قـــــــــــالَ عنَّي، أمّـــــــــــــاهُ، إنّــــــيَ حُلْوَهْ
وَعَلى سالفــــــــــي.. غَفَــــــــــــــــا زرُّ وردٍ
وَقَمِيصي تَفلّتَتْ مِنْـــــــــــــــهُ عُـــــــــــــرْوَهْ
قَــــــــــالَ مَـاْ قَــــــالَ.. فَالقميصُ جَحِيــــــــمٌ
فَـــــــوقَ صَــدْرِي، وَالثــــــــوبُ يقطرُ نشوَهْ
قَـــالَ لِــي: مبسمِـــــي وُرَيْقَـــــــــةُ تُــــــوتٍ
وَلَـقَدْ قَـــــــــــــالَ إنّ صَـــــــــــــدرِيَ ثَـــروَهْ
وَروى لِــــي عَــــن نَــــــــاهـديَّ حَـــكَايــــا..
فهما جَـــــــــــــــدولا نَبِيـــــــــذٍ وَقَـهــــــــوهْ
وهُما دَوْرَقَـــــــــــــــــا رَحِــيــــقٍ وَنــــــــورٍ
وهُما رَبـــــــــــــــوةٌ تُـعَانِــــــــــــقُ رَبْــــــوهْ
أأنا حُــلْـــــــــوةٌ؟ وأيـــــــــــقــظَ أُنــثـــــــــى
فِي عــروقـــــــــــــي، وَشَـــقّ للنّـورِ كُـــــوّهْ
إنّ فِي صـــــوتِــــــــه قَـــــــــرارًا رَخِيـــــــمًا
وبأحْدَاقِـــــــــــــــــــــه.. بَـــرِيـــقُ النُبُــــــوّهْ
جَبهـــــــــةٌ حُــــــــــــرّةٌ.. كَــما انْسَرَحَ النورُ
وَثغـــــــــرٌ فِــــيْـهِ اعْـــتـــدِادٌ وَقَــســــــــــوَهْ
يغصـــــــبُ القُبْـلَـــــةَ اغْتصـــابًا.. وَأرْضَـــى
وجميلٌ أنْ يُـــــــــــؤخــــذَ الثغـرُ عُـنْـــــــــوَهْ
وَرَدَدْتُ الجفُــــــــــونَ عَـنْـــــهُ.. حَــيَــــــــاءً
وَحَـــــــــــياءُ النّســــــــــاءِ للحُبِّ دَعْــــــــوهْ
تَسْتَحِــــي مُقْلَـتِـــي.. وَيَسْـــــــــــألُ طُهْـــرِي
عَنْ شَـــــــــــــــــذاهُ.. كَــأنّ للطُهْرِ شَهْـــــوَهْ
أنْـــــتِ.. لَنْ تُنْكرِي عَليّ احْــتِـرافِــــــــــــــي
كُــلّنا.. فِــــيْ مَجامــــــــرِ النّارِ نِــــسْـوَهْ"(3)

من غير أن نبرهنَ على التّداخلِ والتّقاطع في هذه القصيدة ونُدلل على ذلك، يجدرُ بالقارئ أن يُلاحظ اشتمالها على مفهومِ السّرد الحكائيّ، إذ تبتدئ القصيدة بالشخصيّة المتكلّمة في ارتباطها بالزّمن والمكان، والتّركيز ينصبّ بالأساسِ عليها بصفتها المحرّك الرئيس لعجلة الحكي والقصّ في القصيدةِ.

 

إنّ علاقة الأنثى بالرجلِ في القصيدة تقوم على المماثلة العاطفيّة، وتتصفّ الأنثى في علاقتها بالرّجلِ بالثّقةِ العمياء إلى حدّ السّذاجةِ والغباءِ، بحيث إنّها صدّقت كلامه عندما قال لها بأنّها حلوة.

 



ومن الجدير بالذكرِ أنّ السّردَ يعني فعل الحكي والقص، وغالبًا ما تكون الحكاية مُتضمنة قصّة، وبديهي والحالة هذه وجود طرفين: طرف يَحكي، وآخر يُحكى لهُ، فالأوّل يُسمّى ساردًا والثّاني مسرودًا لهُ، وهو ما يُمكن تمثيله على النّحو الآتي:

ـ السّارد
ـ القصة
ـ المسرود لهُ.

ومن خلال تضافر هذه المكوّنات الثّلاث تتشكّل البِنيةُ السّردية في قصيدةِ حكاية، الّتي تتوفر فيها العناصر التّالية:

ـ السّارد: الشّاعر والأنثى
ـ الحدث: الموقف واللقاء
ـ الزمان: الماضي
ـ الفضاء: المكانيّ 

يُمكننا إجرائيًا تقسيم المكانِ إلى بنيتينِ افتراضيتينِ، يتشكّل به ومن خلالهِ مُنطلقاته الجماليّة والبنائيّة، وهو ما يُمكن تمثيلهُ بالشّكلِ الآتي:

أ‌ ـ بنية كبرى: غابة اللوز
ب‌ ـ بنية صغرى: السّالف، الصّدر، جدول، ربوة.

ومن هذا المُعطى اللغويّ نستنتجُ مدى الرّابطة الّتي تجمع الأنثى والرّجل بالمكانِ، ومن هذا المُنطلق فإنّ غابةَ اللوزِ بوصفها بنية كبرى في القصيدةِ أنتجت أماكن ذات دوال رومانسيّة، واهبة للحياة، ومانحة للدفءِ والأمان.

ـ الشّخصيّات: الشّاعر، الأنثى
ـ الحوار: الشّاعر والأنثى/ الأنثى ونفسها.
ـ بؤرة الحدث: استطاع الشاعر أن يعبّر عن رغبة الأنثى العاطفيّة بصورةٍ لا تقل رغبة الرّجل، وقد اختار جسدها كتعبيرٍ عن غربتها، لذلك فإنّ القصيدةَ ببنائها اللغويّ والسّرديّ وبدلالاته النّفسيّة تشير بالرّغبة العميقة في الانعتاق والتّحرر.

 

صورة السّارد/ الشاعر

إنّ عناصرَ السّردَ الحكائي نراهُ مُتمثلة في صوتِ السّارد/الشاعر، الذي امتزج صوته بصوت الأنثى السّاردة، من خلال لعبةِ الضّمائرِ، حيثُ تتوزّع بين المُتكلمِ والغائب، وهذا ما جعل من القصيدةِ تقترب من بنيةِ الخطابِ السّرديّ.

ولو نظرنا إلى القصيدةِ نظرة مُتأنّية نكتشف أنّها قائمةٌ على ثنائيّة تقابليّة طرفاها: الأنثى/الرّجل، يعكس بعضهما بعضًا، هذا ويغلب على القصيدةِ الفعل الماضي دون المُضارع، والأفعال المضارعة جاءت ماضويّة المعنى، من مثل: يغصب، يؤخذ، تستحي، يسأل، تنكري، ولعلّ السّببَ في ذلك عائدٌ إلى أنّ الزّمنَ الحاضر بالنّسبةِ للأنثى والرّجل زمن سلبي وحزين، لذلك يحاولان جاهدينِ استرجاع الذّكريات الجميلة والمشاعر المُتبادلة، وفي المحصّلةِ فإنّ علاقة الأنثى بالرجلِ في القصيدة تقوم على المماثلة العاطفيّة، وتتصفّ الأنثى في علاقتها بالرّجلِ بالثّقةِ العمياء إلى حدّ السّذاجةِ والغباءِ، بحيث إنّها صدّقت كلامه عندما قال لها بأنّها حلوة.

وقد اعتمد الشّاعرُ في القصيدة على السّردِ المشهدي، وهو الّذي "يعتمد على التّصويرِ كأساسٍ سردي للنّصِّ، بحيث يستثمر السّاردُ من عناصرِ الرّؤيةِ والتّصوير عناصر اللغة وفنّيتها، كالتّشخيصِ والوصفِ والحوارِ وغير ذلك من مستوياتِ الخطاب"(4)، وتمثّل ذلك في القصيدةِ من خلالِ وصف اللقاء الحميم، عندما كانت الأنثى تعدو وسط طبيعة خلّابة وبالتّحديدِ غابة اللوز، وما أحاط بها من مشاعر وعوطف وملابسات، وقد استطاع الشّاعرُ بما يمتلكهُ من مهارة فنّية رسم المشهد باقتدارٍ، الأمر الّذي جعل القارئ يشاطرهُ الحكاية وحمله على الاستماع. 

والخُلاصة الّتي نودُّ تأكيدها هي أنّ العناصرَ السّرديّة الّتي تتراءى في قصيدةِ الحِكايةِ رافدٌ مُهم من روافد تشكيلِ بنية القصيدة، ممّا يسمحُ لي بأن أقولَ بأنّ الشّاعرَ نزار قباني يُؤسس أرضيّة لشعريّة سرديّة، قوامها القصّة والحكاية.


الهوامش

 

(1) محمد القاضي: معجم السرديات، ط1 ـ 2010، دار محمد علي للنشر، تونس، ص 246.
(2) ميجان الرويلي وسعد البازعي: دليل الناقد الأدبي، ط3 ـ 2002م، المركز الثقافي، الدار البيضاء، ص 174.
(3) الأعمال الشعرية الكاملة، منشورات نزار قباني، بيروت، ص 213.
(4) محمد زيدان: البنية السردية في النص الشعري، 2004، الهيئة العامة لقصور الثقافة، مصر، ص 50.