قضايا وآراء

الزعيم الخالد.. لماذا حرمنا من الاستقلال الاستراتيجي؟

هشام الحمامي
يتساءل الكاتب عن الاستقلال الذي جلبه عبد الناصر لمصر
يتساءل الكاتب عن الاستقلال الذي جلبه عبد الناصر لمصر
كل مصيبة تتضاءل مع الزمن.. لكن مصيبة غياب عبد الناصر تزداد مع الزمن.. لا أدرى حقيقة لمن تنسب هذه العبارة الأريبة المريبة.. وأتصور أن من قالها لم يكن يقصد الإساءة إلى "الزعيم الخالد"، لكنه أشار من طرف خفي قاصدا كان أم غير قاصد؛ إلى كم المصائب التي تركها الزعيم الخالد وغاب، ثم ازدادت وتضخمت مع الزمن.. بدءا من إسرائيل وانتهاء بفكرة الكرامة والاستقلال.. مرورا بفكرة الإنسان والوطن.. فماذا حدث بكل ذلك؟

تعملقت إسرائيل، واندحرت الكرامة، وتعمقت التبعية، وانهزم الإنسان وغاب الوطن..

وبالفعل وبلا أي تجاوز أنا في حيرة ودهشة من أمرين، وأتصور أني سأغادر الحياة بهما..!! لا يجمعهما في الحقيقة إلا هذا القدر الرهيب من التناقض البالغ في موضوعهما.

الأمر الأول: أن اثنين من أعظم رؤساء المعجم اللغوي في القاهرة (معجم الخالدين) كانا يدعوان الى التحول الى الكتابة باللغة العامية بدلا من الفصحى، وهما لطفي باشا السيد وعبد العزيز باشا فهمي.. وعلى عظم وأهمية أدوارهما التاريخية والعلمية، إلا أنك لا تستطيع أن تكتم أنفاسك متسائلا في خجل شديد عن سبب وجودهما في هذا المكان الذي أنشئ أصلا لحماية وصون اللغة العربية..

إنهما باشوات أولاد باشوات، وإنهما لمن الوجاهة الاجتماعية والسياسية بما يغنيهما عن المجمع وعضويته بل ورئاسته.. أبسط ما تتوقعه منهما بحسب تلك الدعوة التي دعيا إليها؛ هو أن يرفضا وجود المجمع أساسا وقيامه بأي دور في المشهد الفكري والحضاري العام..

ما كل هذا التناقض الصارخ المجهول العجيب؟ الأكثر مجهولا وعجبا أن أحدا لم يطلب منهما مغادرة المجمع وهما يدعوان ويصرّان على هذه الدعوة..!

فهل لتجربة الشاعر الطَموح أبي الطيب المتنبي (ت: 965م) في الحياة بين المصريين وقت الحاكم كافور الإخشيدي (ت: 968م)، وما أطلقه على هذا البلد الحبيب في بيته الشهير عن العلاقة بين الضحك والبكا في هذا البلد.. هل في هذا الوصف ما ينطبق على هذا التناقض؟

* * *
أضاع الرجل أشياء كثيرة للغاية من حياة المصريين أدناهما "الضمير والحنان".. والأخيران بالذات أشياء لا تأتي فجأة ولا تختفي فجأة.. تحتاج عشرات السنين في الحالين.. وقد عاش المصريون حياة ملؤها المعنى والقيمة والغاية
وأعتذر عن الخروج عن الموضوع، لكن ما فيه من التناقض لا يساويه ولا يصاحبه إلا إصرار القوميين العرب والناصريين على ربط فكرة "الاستقلال القومي" و"الكرامة الوطنية" للإنسان والأرض، باسم وزمن "الزعيم الخالد".

إن الاثنين لهما أبشع وأسوأ ما ضاعا وغابا واختفيا على يديه.. وعلى يديه هو بالذات.. واستمرا كثيرا كثيرا يتدحرجان من بعده، حتى وصلا إلى ما يشهده "الزمن العربي" في القرن الواحد والعشرين في خط متسلسل متصل موصول أوله بآخره..

لقد أضاع الرجل أشياء كثيرة للغاية من حياة المصريين أدناهما "الضمير والحنان".. والأخيران بالذات أشياء لا تأتي فجأة ولا تختفي فجأة.. تحتاج عشرات السنين في الحالين.. وقد عاش المصريون حياة ملؤها المعنى والقيمة والغاية.. من زمن الزعيم مصطفى كامل (ت: 1908م) والحركة الوطنية المصرية وحتى قيام الجمهورية في 1952م.. تكونت فيها الشخصية المصرية الأصيلة على واختزنت في أعماقها أكرم المعاني وأعز الأماني.. حتى دوت في أفق الوادي صيحات منكرة بمن يقول لهم: "لقد علمتكم العزة والكرامة"..!!

* * *
لكن "الاستقلال الاستراتيجي" لهو أفدح ما أضاع.. ولا يتصور أحد أن حركة الضباط هي التي أنهت الاحتلال الإنجليزي.. الصحيح أن حركة الضباط أنهت الحركة الوطنية.. ليس هذا فقط بل وتسببت في احتلالين (إسرائيلي وروسي).. الإسرائيلي أشهر من أن يُعرّف.. والروسي كان بطلب مباشر من الزعيم الخالد في الكرملين 22 كانون الثاني/ يناير 1970م، طالبا منه "قوات" تتواجد على الأرض المصرية تحت مسمى "الخبراء". وكانت قوات كاملة، ووحدات نظامية وتشكيلات من الجيش والبحرية السوفيتية، عددهم عشرين ألف شخص وتم تأسيس وحدة استشارات عسكرية داخل القوات المسلحة المصرية.. وللمزيد في هذه النقطة يُرجع إلى مذكرات المشير عبد الغني الجمسي حرب أكتوبر 1973م والفريق محمد فوزي حرب السنوات الثلاث (1967-1970).
حركة الضباط أنهت الحركة الوطنية.. ليس هذا فقط بل وتسببت في احتلالين (إسرائيلي وروسي).. الإسرائيلي أشهر من أن يُعرّف.. والروسي كان بطلب مباشر من الزعيم الخالد في الكرملين 22 كانون الثاني/ يناير 1970م، طالبا منه "قوات" تتواجد على الأرض المصرية تحت مسمى "الخبراء"

اقرأ معي وصف أحد الناصريين مادحا بطله المذهل في ذكرى ميلاده 15 كانون الثاني/ يناير: فهو روح المحروسة، وقطع ذيل الأسد البريطاني، وأنهى عصر "الطنجرة الاستعمارية"، وقاد العالم الثالث، وأرسى دعائم الأمن القومي، وأدرك أنه لا نجاة لوطنه إلا باقتصاد قوي، ولا سيادة إلا بالتنمية المستقلة، وآمن بأن الأبطال أدوات صنع التاريخ!!

ما الذي يمكن أن تصف به هكذا كلام وأنت تضعه بكل حياد على محك التاريخ.. وحاول معي أن تمسك في يديك شيء حقيقي واحد.. مادي وملموس وثبت له وجود طبيعي على الأرض من كل هذه الإنشاء المدرسي الهزيل..

* * *
لكننا سنقرأ مثلا للدكتور جويل بينين (75 سنة)، أستاذ التاريخ وتاريخ الشرق الأوسط في جامعة ستانفورد، كلاما متماسكا واضحا متحققا، فيقول كما ترجم لنا موقع "جدلية": كان تحول مصر السياسي من نظام ملكي دستوري أرستقراطي إلى "جمهورية ضباط" هو إرث ناصر الأكثر استمرارية.. وما يزال شكل هذا النظام مستمرا رغم إعادة ترتيب سياسة مصر الداخلية والخارجية، والتغير في موازين القوة بين عناصر تكتلها الحاكم، والذي يتألف من الجيش وجهاز الأمن الداخلي وبرجوازية الدولة، وانضمت إليه منذ السبعينيات رأسمالية المحاسيب في القطاع الخاص.

ومنذ منتصف الخمسينيات وحتى بعد وفاته ما يزال ناصر وشخصيته يحدثان للقوميين العرب تأثيرهما العميق في السياسة العربية، ذلك أن مصر أنشأت نموذج الجمهوريات العسكرية التي نصّبت نفسها كمناهضة للإمبريالية أو اشتراكية في سوريا والعراق والجزائر واليمن الشمالي وليبيا والسودان.

وكانت كلها دولا استبدادية بأجهزة أمن داخلية قمعية، سيطرت على المجتمع والثقافة والحياة الفكرية، وسحقت حركات المعارضة. ويستطرد قائلا: كان إنهاء الاستعمار الدينامية التاريخية الرئيسية في تلك الفترة، وكانت المؤسسات العسكرية في كثير من بلدان الجنوب العالمي هي المؤسسات ذات الوزن القومي الأكبر والأكثر تنظيما والأحدث، وغالبا ما تحالفت مع القوى المناهضة للاستعمار، وكانت في موقع جيد للاستيلاء على السلطة بأسمائها وكي تقمع المعارضة باسم الوحدة ضد العدو الإمبريالي (انتهى كلام البروفيسور الذي شغل سنة 2007م منصب مدیر مركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة الأمريكية في القاهرة).

* * *
الاستقلال الاستراتيجي لا يكون حقيقة متحققة في أركان الوطن إلا بالكفاية الذاتية التامة (غذاء وتعليما وسلاحا)، وأخطرها على الإطلاق الغذاء.. وحين تتحدث عن الغذاء ستتحدث فورا عن الخبز (رغيف العيش كما يسميه المصريون). واقرأ للدكتور عبد السلام جمعة (أبو القمح/ ت: 2016م)، والذي كان مشرفا على برنامج بحوث القمح بمركز البحوث الزراعية يقول في حديثه لإحدى الصحف المصرية: مشكلة القمح ليست وليدة اليوم، ولكنها مشكلة نشأت منذ بدايات عهد الرئيس عبد الناصر الذي أصدر قرارا بصناعة رغيف الخبز من القمح، ليزداد الطلب على القمح بشكل بات من الضروري استيراده من الخارج!! ويضيف متعجبا: رغم أن رغيف الخبز المصنوع من الذرة أفضل في قيمته الغذائية والصحية للإنسان..

هكذا تُفهم الأمور كما هي، وكما ينبغي لها أن تُفهم وتكون.. لكنك في التجربة الناصرية لن تعرف استقلالا استراتيجيا حقيقيا.. ستعرف استقلالا فقط في خطابات الزعيم وأغاني المطربين
انتهى كلام الرجل الخبير بالدنيا والناس.. وترك لنا تلك العلامة الضخمة من الاستفهام على صفحة وجه الوطن.. لماذا تدخل الزعيم الخالد في هذا الموضوع وألحق بالاستقلال الاستراتيجي أسوأ ثغراته؟

ألم يقرأ الرجل ما قاله الفيلسوف الفرنسي المعروف جان جاك روسو (ت: 1778م): الفلاحة هي الوسيلة الوحيدة التي تضمن بِها الدول استقلالها الخارجي.. فلو كان لك ثَروات العالم كله، بينما ينقصك الطعام، فإنك ستكون تحت رحمة الآخرين.. وتذكر أن التجارة تنتج لك الثروة، لكن الفلاحة تمنحك الحرية..

هكذا تُفهم الأمور كما هي، وكما ينبغي لها أن تُفهم وتكون.. لكنك في التجربة الناصرية لن تعرف استقلالا استراتيجيا حقيقيا.. ستعرف استقلالا فقط في خطابات الزعيم وأغاني المطربين.. واستحق وصف "الويل" الذي توعد به الشاعر الغريب جبران خليل جبران (ت: 1931م) عن كل من يأكل مما لا يزرع..! كما قال في تعبيره الشهير.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (1)
أبو فهمي
الإثنين، 23-01-2023 06:25 ص
أما عن البطل الخالد أو الرئيس الخالد ............ الخ فهي كلمات شاعت كثيرا وكنت نعتقد انها صحيحة الى أن كبرنا ووعينا ئان الاستعمار لم يتركنا الا وزرع بيننا """" كلابه """" لتسير أموره كما يريده بكلمات فارغة على شعوب ثبت أنها """" غثاء سيل """" كما قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين. وأول عمل فعله البطل القومي هو طبعا ادخال كلمة """ القومية """ والتي لعب بها على الشعوب """" المسلمة """" لتفريقها عن بعضها البعض وهي مستوحاة من القومية الألمانية التي أثبتت فشلها من قرون. ثم فعل أفعاله الشنيعة في البلاد العربية وخاصة فصل """" السودان """" عن مصر فقد كان الملك فاروق ملك مصر والسودان ثم أرسل قواته الى اليمن للقضاء عليها وتقسيمها وقتل فيها 80 ألف جندي مصري أو أكثر ورجع """""" مهزوما """""" ولا ننسى الفرقة بين الشعب الواحد الذي دفع ثمنه غاليا جدا وهو العالمل والفرح ضد الاقطاع والرجعية ودمر بهما مصر وسوريا وأثاره ظاهرة الى العيان الى الآن. فتاريخ البطل الخالد في تدمير العرب والمسلمون نرى نتائجه على الأرض الآن فقد بذر بذرة نجسة لم يستطع فعلها المستعمر مباشرة وتاريخ غبد الناصر الأسود مكتوب ومعروف لمن يريد المعرفة.