كتاب عربي 21

خراب مصر... مية فل!

1300x600
تطفأ الأنوار لعرض فيلم دعائي في اجتماع عالي المستوى يحضره أجانب..

دلال موظفة عادية قُدر لها أن تحضر الاجتماع..

حسين أفندي: مطلوب دراسة اقتصادية عن مجمع التحرير لصندوق النقد الدولي لأن الخبراء ايلي في الصندوق بقولوا أن الحكومة لو فرضت رسوم على المرور في الميدان تقدر تجيب 100 مليون دولار في السنة.

دلال: ازاي يعني؟ يعني أنا كل ما احب أدخل ميدان التحرير ادفع فلوس؟ اروح علشان أطلع بطاقة من المجمع أدفع فلوس؟ أحب أركب اتوبيس برضه أدفع فلوس؟

حسين أفندي: جاست وان دولار.

دلال: مش ح ادفع.. مش ح ادفع ولا مليم.

حسين أفندي: كده الشغل حيبوظ.. ده مش قليلة بس ده شحاته كمان. المفروض تختار موظفين محترمين مش شحاتين.

دلال: احترم نفسك.

حسين أفندي: حاضر (يستدرك من وقع المفاجأة) يعني أنا مش محترم؟

مدير دلال: لأ لأ... هي متقصدش سعادتك إطلاقا، هي تقصدني أنا.. أنا.

موظفو مصر على أبواب الشحاتة وهم في ذلك على دين مسؤوليهم الذين لم يتركوا بابا للشحاته إلا ودقوه، ولم يتركوا مجالا للتضييق على لقمة عيش المصريين إلا وطرقوه. ميدان التحرير صار مجالا مخوصصا وصار الدخول إليه بثمن الدم، وليس مجرد دولار واحد، بعد أن أغلقه العسكر المرتجفين من أي تجمع جماهيري قد يؤدي إلى إسقاط ورقة التوت عنهم أمام العالم بما سيعجل بنهايتهم.

لا مكان للمعارضة والاقتراب من ميدان التحرير خط أحمر. ويمكن للعسكر بيعه هو وعبد المنعم رياض وغيره من ميادين مصر، كما قال حسين أفندي في مشهد آخر، بعد أن غيروا ملامح رابعة والنهضة إخفاء لمعالم جرائمهم.

من هنا بدأت الحكاية قبل أن تنتهي داخل قسم شرطة للفصل في نزاع عائلي.

مية فل، إخراج رأفت الميهي، 1996..

داخل قسم شرطة يجلس حسين أفندي وصديقين له بمكتب الضابط. يدخل أعوان الضابط ومعهما دلال وكمال المتهمين بالهروب من بيت "والدهما" حسين أفندي وسرقة مجوهرات منه.

الضابط: يظهر أنك أسأت تربيتهم يا حسين بيه. حد يسخف أبوه بالشكل ده؟

دلال: أولا ده مش أبونا.

الصديق الأول: عيب يا بنت.

الصديق الثاني: اخص.. اخص.

كمال: ثانيا ده مجنون، وانت كمان مجنون وانت كمان وانت... (موجها كلامه للسائق العبيط)

دلال: لأ سيب لي ده يا كمال. انت بقا عبيط ابن عبيط..

حسين افندي: أنا لا أسمح.

ثم بدأ كمال ودلال يقدمان للضابط أسماءهما الحقيقية للتبرؤ من نسبهما لحسين أفندي.

حسين أفندي: لأ مش ممكن.. احنا اتفقنا ومعايا مستنداتي.

كمال: شوف حضرتك، أنا ايلي يتبلى عليا ومراتي..

الضابط: انتم اتجوزتم؟

كمال: من زمان.

الضابط: انت ولد قليل الأدب.

كمال: متقلش ولد. أنا...

يدخل والدا كمال ودلال الحقيقيان وينفيان صلة القرابة بهما.

دلال: ليه كده يا بابا.

الأب: مش انتم ليكم حق الاختيار، احنا كمان لينا حق الاختيار. ولا حلال عليكم وحرام علينا؟

والمقابل كان ظرفا مليئا بالأوراق المالية لكل منهما من يد السائق على باب مكتب الساهر على تطبيق القانون.

الضابط: تعال يا ولد، تعالي يا بنت. بقا حد يسيب أب زي ده ويتمحك في جرابيع زي دول؟ والله لو يرضى يخليني ابقى ابنه لأقدم استقالتي من بكره واتفرغ له. ده أحسن من مية شركة أمن ولا مكتب استيراد وتصدير. يالله بوسوا على راسه وروحوا معاه. يالله.. إلا والله أطبق عليكم القانون. أخ وأخته سرقوا وبيعملوا العيب مع بعض.. اختاروا..

خيبتك يا (السائق): لأ.. لو اختاروا حيختاروا غلط. هما دايما بيختاروا غلط. علشان كده باباهم قرر يعلمهم من أول وجديد.

كمال: (للضابط) انت ساكت؟ يعلمنا يعني ايه؟

حسين أفندي: التعليم ايلي تعلمتوه غلط. لا بيخليكم تعرفوا تختاروا ولا بيخليكم تتحملوا المسؤولية. علشان كده أنا لازم أعلمكم من أول وجديد. عربية المدرسة جاية امتا يا خيبتك يا؟

خيبتك يا : بعد خمس دقايق.

حسين أفندي: حصلهم بالشنط.

في فيلم (مية فل) قصة فنتازية لعلاقة صندوق النقد الدولي بدول العالم الثالث. وفي مصر هذه الأيام سجال بين سلطة لم تجد غير توسل قروض البنك لستر عورتها المالية، وطبقة سياسية ترى أن لا دولة في العالم يمكنها أن تقوم على الهبات والقروض. مشكلة العسكر أنهم مدعي علم وهم بذلك غير قابلين للتعلم كما قد ينتهي بهم المطاف في تجربة الاستدانة من صندوق النقد خصوصا إذا كان زعيمهم يعتبر نفسه "طبيب الفلاسفة" الذي لن يعدم بيانا ولا حجة أما كريستين لاغارد.

لنعد إلى الفيلم وإلى "خيبتك يا.." السائق الخائب الذي اكتشفت دلال وكمال أنه لم يكن مجرد سائق بل إبنا شرعيا لحسين أفندي/ صندوق النقد الدولي.

عندما اكتشفت دلال وكمال كيف أن حسين أفندي يسعى بكل ما أوتي إلى ممارسة حقوق "الأبوة" عليهم بالتدخل في كل كبيرة وصغيرة في حياتهم بل بالسعي إلى تمثل ممارسات عقابية على جنوح طفولي بأثر رجعي، يقرر الاثنان "الثورة" على الوضع ورفض الخنوع.

مية فل..

خيبتك يا: لمصلحتك ولمصلحتها تنفذوا كل طلباته وإلا حيحرمكم من كل حاجة ويمكن يموت فيها وانا مش عاوزه يموت.

كمال: بقولك ايه؟ انت ايه بالضبط؟ ما هو مش ممكن تكون سواق.

خيبتك يا: متقولش سواق.

دلال: ومال يقول ايه؟

خيبتك يا: أنا ابنه.

كمال: ابن حسين أفندي؟

خيبتك يا: آه، بس طلعت خايب في المدرسة. كانوا العيال بيقولو لي يا عبيط يا عبيط..

دلال: وبعدين؟

خيبتك يا: وبعدين في يوم لقيتو صاحي بيقول أنه مفيش قوة على الأرض تخلي أب يقبل ابن طلع عبيط لخاله، وأن ده ظلم وضد حقوق الإنسان وأن من حق الأب ينقي ابنه.

دلال: نفس مدرستنا الفكرية يا كمال.

خيبتك يا: راح مغير اسمي ومبقيتش ابنه.

دلال: كان مسميك ايه؟

خيبتك يا: خيبتك يا..

كمال: ايه؟

خيبتك يا: أصل أمي الله يرحمها كانت بتكرهه علشان كده سميتني خيبتك يا... الناس ينادوني خيبتك يا حسين أفندي.. خيبتك يا حسين أفندي..

دلال: وهو مشغلك سواق عنده؟

خيبتك يا: أصله حنين.. يعني ح يرميني في الشارع؟ شغلني سواق وسابني أنام في قوضة الجنايني.

دلال: يا ابن الكلب..

خيبتك يا (منتفضا في وجهها): متقوليش كده على ابوكي..

تجارب صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية مع كثير من دول العالم الثالث لم تنتج غير أولاد من طينة (خيبتك يا...) كالأرجنتين واليونان وقبرص التي أعلنت إفلاسها أو تكاد، وكثير من الدول العربية الأخرى التي لم تخرج بعد من تداعيات سياسات التقويم الهيكلي التي خضعت لها لسنوات على يد خبراء البنك ومن والاهم من داخل الحكومات والأنظمة.

لمؤسسة صندوق النقد الدولية شروطه في منح القروض حد فقدان البلدان المقترضة للسيادة الوطنية حيث أن الصندوق يتولى دور ممارسة الرقابة المباشرة على أداء اقتصاداتها. تستهدف شروط الصندوق التقليص من النفقات العامة تسييرا واستثمارا، وهو ما يفتح المجال لخصخصة القطاع العام وتقليص الوظائف وتجميد الأجور. كما ترتفع قيمة الضرائب أو توسع حظيرتها ويقلص الدعم أو يلغى بموازاة تخلي الدولة عن حزمة من الخدمات الاجتماعية مع انحسار للاستثمار العمومي. ومن نتائج ذلك رهن لحاضر ومستقبل أجيال تجد نفسها محرومة من نتائج "إقلاع اقتصادي" وهمي ومحاصرة بفوائد وأصول ديون بالملايير.

يحاول كثير من أبواق الدعاية الانقلابية الإيهام أن القرض تم دون شروط بل باختيار مصري. وهي نفس حكاية حسين أفندي/ الصندوق و ابنه السائق/خيبتك يا وأولاده الجدد الذين يطمح في أن يلمعوا صورته وينتشلوا سمعته من وحل الخيبات. 

كان حسين أفندي يبحث عن طي صفحة خيبات الأمس التي سارت بها الركبان. يحاول تلميع صورته بعد أن منحه القدر وصمة عار تجري وراءه في كل مكان تذكره بها والاسم "خيبتك يا حسين أفندي" . انه السائق العبيط الذي كان ابنه قبل أن يتبرأ منه وينسب غباءه لأخواله. فأتاه القدر بكمال ودلال.

مية فل..

يصل حسين أفندي ودلال داخل الفيلا  حيث ستقيم الأخيرة باعتبارها بنت العائلة الجديدة.

حسين أفندي: اسمعي يا دلال! اسمك مش عاجبني.

دلال: نغيرو نغيرو.. عاوز تسميني ايه؟

حسين أفندي: أسميكي.. ممم... سٌرّ مر رأى.

دلال: مين؟

حسين أفندي: سٌرّ مر رأى حسين أفندي.. حلو حلو يا حسين..

بعدها ينضم كمال للعائلة ويختار له الأب اسما جديدا: مية فل حسين أفندي.

كانت دلال وكمال يبحثان عن أب يقيهما شر الفاقة فوجدوا في حسين أفندي ما بحثا عنه. وكان حسين أفندي يبحث عن ترقيع بكارة اسمه التي تلوثت ب(خيبتك يا..) فعقد الأمل على سٌرّ مر رأى و مية فل آملا في مستقبل أفضل.

في مصر، فشلت المؤتمرات الاقتصادية في تأمين المدد المادي، واستنزف النظام الإنقلابي حلق المصريات ومدخرات المصريين و أكياس "الرز" الخليجي في مشاريع "فنكوشية" بلا مردود اقتصادي.

وعندما انحسر المدد "الأبوي" الطبيعي لم يجد غير البحث عن "والد" جديد لإنقاذه من الركود الاقتصادي والإفلاس المالي اللذان أوصل إليهما البلاد، فكان قرض صندوق النقد الدولي ملجأه الأخير.

لمصر تجارب مع البنك امتدت منذ فترة عبد الناصر إلى اليوم. وكثيرا ما تعثر التوقيع على اتفاقيات سابقة لما حملته من إجهاز على الطبقات المسحوقة وحقوقها. لكن زعيم الانقلاب أعلنها واضحة لا لبس فيها أنه مستعد لاتخاذ قرارات "مؤلمة" في انبطاح، لا سابق له، لشروط الصندوق. يد السيسي ألفت البطش بالأرواح فكيف الحال بالأرزاق، وما استحضار أحداث  يناير 1977 كمثال على تجربة إصلاحية وُئدت في المهد بسبب يد مرتعشة من رئيس جاءه في الحلم ذات كابوس يبشره بحكم مصر، إلا تحذيرا مما هو آت.

مية فل..

داخل عربة أتوبيس..

كمال: من حق البني آدم أنه يختار أبوه، وده حق من حقوق الإنسان. ليه الواحد يطلع يلاقي أبوه غبي مثلا ولا مناخيره كبيرة؟

دلال: يا ريت يا كمال. أصلي أنا بصراحة بحبك أوي ومقدرش أستغني عنك بس أبوك ده مقرف أوي.

كمال: وانت بصراحة أبوك ميشرفش.

دلال: يعني الواحدة يا كمال تلاقي لها أب كويس ازاي؟

كمال: بصي الناس ده كلها.. بصي (ينظرون للعمارات والمساكن الفاخرة على جنبات الطريق). معقولة كل الناس الغنايا والمحترمين دول مفيهمش اثنين متفتحين ذهنيا ينفعوا أبهات لينا؟

لم يعد هناك مجال للتردد. انتهى زمن الأيادي المرتعشة وانطلقت رحلة البحث عن الأب الغني الحنون. 

أعلن صندوق النقد الدولي عن توصله لاتفاقية قرض ب12 مليار دولار مع مصر، وأشار أن البرنامج التمويلي يهدف إلى تحسين أسواق العملة وتقليص عجز الموازنة وخفض الدين الحكومي. وأضاف أن الاقتصاد المصري سيستعيد كامل قدرته. وسيساعد ذلك في تحقيق نمو مصحوب بفرص العمل الوفيرة تعود ثماره على الجميع، ويرفع مستوى معيشة الشعب المصري.

كانت تلك وعود البنك لكل البلدان التي سبق لها أن دقت بابه متسولة فَرَاقها معسول الكلام. وكلما أحست ب"الخديعة" وقررت الهرب تجد نفسها مكبلة بالشروط القاسية وبالخوف من خسارة "النعيم".

في فيلم رأفت الميهي، وبعد أن وجد مية فل وسُرّ من رأى نفسيهما مخدوعين قررا الافلات بجلديهما. لكن الطمع أعمى بصيرتهما.

مية فل: دلال احنا وقعنا في مستشفى المجانين.

سُرّ من رأى: تفتكر. خلاص احنا نسيب كل حاجة ونمشي.

ينظر كمال حواليه ويستعرض الفيلا.

مية فل: ندرس الحكاية شوية.

اعتاد السيسي على مشاريع ل"رفع معنويات الشعب المصري"، وإذا كان الغرض واحدا من تلك المسكنات فلن تكون مصر مجرد (خيبتك يا صندوق النقد الدولي) يشتغل سائقا و"جنايني" عند الوالد الحنون، بل سينتهي المطاف بالبلد رهينة لدى الصندوق ولن تعدم من أبنائها من يسوغ لذلك التبريرات.

فعندما وصلت سيارة الحضانة لتقل مية فل وسُرّ من رأى إلى المدرسة. لم يجد الاثنان غير هذا الحوار ليدور بينهما.

مية فل: يعني لسه فاضلنا سنتين حضانة وخمسة ابتدائي وثلاثة اعدادي وثلاثة ثانوي؟

سُرّ من رأى: ولسه حنذاكر من جديد ثانوية عامة؟

مية فل: ده تبقى مصيبة لو جبنا مجموع ودخلنا طب.

سُرّ من رأى: ماهو انت السبب. مش ده نظريتك؟

مية فل: الخطأ مش في النظرية، الخطأ في التطبيق؟

ابراهيم عيسى يقول أن مصر في عهد زعيمه السيسي تُسَير بنظرية خلينا نشوف..

الأكيد أن هناك أناس في مصر سمعوا أن الوطن غال فباعوه.

طب خلينا نشوف..