قضايا وآراء

الأقباط والوطن.. للتاريخ كلمة هامة

1300x600
يوم الخميس الماضى 28/7، ذهب غبطة البابا على رأس وفد رفيع المستوى يضم عدد من الأساقفة والأراخنة وعدد من أعضاء المجلس المللي؛ إلى قصر الاتحادية الزيارة كانت لبحث (هموم الأقباط.

هكذا قالت الصحف المصرية التي أوردت أيضا خبرا لا تخطئ العين دلالته، إذ ذكرت أن الزيارة سبقها اتصال هاتفي ممن وصفته وسائل الإعلام بأنه (مسؤول تنفيذى رفيع للغاية) بغبطة البابا الذى بدوره أشار إلى 5 مطالب ينتظر الأقباط تحقيقها، ووعده (المسؤول التنفيذى الرفيع للغاية) بتحقيق 3 منها قريبا جدا، على رأسها تغيير عدد كبير من الشخصيات الأمنية وقيادات عليا في المحليات..

بدا من الأخبار المتتالية أن غبطة البابا غاضب، وأدل موقف يشار به عادة إلى غضب البابا هو إلغاء العظة الأسبوعية، وهو ما حدث الأسبوع الماضي.. غضب البابا أيضا إذن كانت له تفعيلاته الداخلية، فله أيضا تفعيلاته الخارجية، وأهمها على الإطلاق تظاهرات أقباط المهجر في أوروبا وأمريكا، وهي وسيلة الضغط الأثيرة والشهيرة لدى الكنيسة من زمن غبطة البابا الراحل شنودة الثالث، وهو ما أزعج السلطات في مصر كثيرا، وظهر ذلك في المحادثة الهاتفية بين غبطة البابا و(الشخصية التنفيذية الرفيعة للغاية)، كون تلك المظاهرات ستظهر السلطة بمظهر الضعيف غير القادر على ضبط الأمور في الداخل تجاه موضوع له حساسيته الخاصة.. في وضع إقليمي مضطرب للغاية.

حضور الموضوع القبطي في الحالة الإقليمية قديم وممتد وحاضر دائما في الأوقات كلها.. تذكر لنا كتب التاريخ أن قيصر روسيا ألكسندر الأول أرسل مندوبا عام 1805م اإلى الكنيسة القبطية، ليقنع البابا بوضع أقباط مصر تحت حماية الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية، وبالتالي في حماية القيصر الذي ما كان يعنيه الأقباط ولا المسيحية في شيء، ولكنه كان على عداء مفتوح مع الدولة العثمانية وقتها.. وكانت آثار الحملة الفرنسية لا زالت باقية الأثر والتأثير في الإقليم الأخطر في المنطقة.. ثم إن التجربة النكدة للمعلم يعقوب والفيلق القبطي، الذي انسلخ عن جموع المصريين وانضمامه للحملة الفرنسية، كانت قريبة.. الحاصل أن المندوب الروسي قابل غبطة البابا بطرس السابع مبديا له ألمه على حالة الأقباط في مصر، وعرض على البابا أن يتولى قيصر روسيا حماية الأقباط, ولكن البابا الكبير الرصين كان أكثر حكمة، فرفض العرض فورا، بدافع عميق وصادق من الوطنية الحقيقية وانتمائه وكنيسته لمصر الوطن والدولة. المندوب الروسي بعدها قابل محمد علي، الذي سأله عن أكثر شيء أعجبه في مصر، فذكر الرجل أن أكثر شيء أعجبه هو بطريرك الأقباط.. وحكى لمحمد على عن موقف البابا بطرس الجاولي من الحماية القيصرية، فما كان من محمد علي إلا أن يصطحب ابنه إبراهيم باشا ويذهب بنفسه إلى البابا بطرس السابع في مقر إقامته ليقول: (لقد رفعت اليوم من شأني وشأن بلادك.. فليكن لك مقام محمد على في البلاد).

كما أن التطورات التاريخية المتتابعة تشير إلى أن الاتجاه كان دائما إلى الأمام في صالح الجماعة الوطنية الواحدة. ففي عام 1855م، في عهد الخديوى سعيد (ابن محمد علي)، والذي أحدث انقلابا في بنيان المجتمع المصري كله.. صدر قرار بإلغاء الجزية وتجنيد الأقباط في الجيش المصري.. الخديوى سعيد أصدر عام1858 ما عرف بـ(اللائحة السعيدية) التي أباحت حق الملكية الخاصة للأطيان وحرية التصرف فيها، فأقبل المصريون علي حيازة الأطيان لتتشكل منهم طبقة الأعيان فيما بعد، كما توسع في تعيين المصريين في الوظائف الكبرى (حتى يخدم الشعب المصري بلاده خدمة نافعة ويستغني بنفسه عن الأجانب).

وفي رسالة دكتوراه قدمها الباحث أيمن محمد محمود، بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 2008م وتحت إشراف الأستاذ الدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ، أكد الباحث في رسالته على أن (الشريعة الإسلامية تنص على المساواة بين المسلمين وغير المسلمين )، مشيراً إلى أن أسباب فرض الجزية قد زالت بدخول الأقباط للجيش وتساويهم في الواجبات مع المسلمين، واستعان بآراء بعض المفكرين المسلمين، مثل الأستاذ حسن البنا الذي نقل عنه إنه قال إن (الجندية بدلا من الجزية، وبالتالي لا مكان لفكرة فرض الجزية على الأقباط في ظل تغير الأوضاع وظهور مبدأ المواطنة الذي لا يميز بين الأديان، وأن من يناقشها يعود بنا إلى عصور الجهل الذي لا يتناسب مع العصر الحالي)..

أثناء الإعداد لدستور 1923م، ضمت لجنة الثلاثين المشكّلة لوضع دستور 1923 الشهير؛ الأنبا يؤانس مطران الإسكندرية، وقليني فهمي، وإلياس عوض، وتوفيق دوس.. وطلب حينها توفيق دوس وضع نظام للأقليات يضمن تمثيلها النيابي.. وكان بالطبع يشير إلى الأقباط.. بعدها كتب قليني باشا مقالا في الأهرام عارض فيها الفكرة المقترحة في لجنة الدستور، وأكد في المقال أنه من الخير للبلاد أن يظل أبناؤها جميعا خاضعين لقانون واحد وسلطة واحدة حرصا على وحدتها القومية.

ولا يمكن للمصريين أن ينسوا البابا كيرلس السادس (1959-1971م) الذي لا زالت ذكراه عند المصريين معطرة مندّاة بكل ما هو وطني وشريف ونزيه، وتتذكر من فورك قول السيد المسيح: (إن الذين أعطيتني لم أهلك منهم أحدا..).

ثمة صعوبات في الموضوع كله.. هذه حقيقة.. كما أن النشاط التبشيرى للطائفة الإنجيلية (مليون و200 ألف مصري) داخل الأقباط الأرثوذوكس يمثل مشكلة حقيقية لدى الكرازة المرقصية.. أيضا الحالة التنظيمية الصلبة التي صنعها غبطة البابا الراحل وعبؤها الثقيل داخل البدن الضخم للكنيسة؛ تمثل إشكالية، مثل كل التنظيمات الدينية غير المعلنة.

الأطراف الاقليمية الجاهزة للانقضاض دائما سواء بإغراءتها اللعوبة أو بتهديداتها الكذوبة، تمثل أيضا ورقة هامة في ملف التماسك الاجتماعي والسياسي للجماعة الوطنية.. لكن الأمل أكثر في ترجيح المصالح العليا للوطن والبلاد.. وما أصلحة لك اليقين.. لا يفسده عليك الظن.