كتاب عربي 21

الصفاقة في الحديث عن حرية الصحافة

1300x600
في الثالث من أيار/ مايو الجاري، أقام الصحفيون في مختلف أركان الدنيا سرادقات العزاء على روح حرية الصحافة، وأرواح الصحفيين الذين يروحون كل عام ضحية العنف الأهوج هنا وهناك، وكان الصحفيون العرب طرشان تلك الزفة، فقد سودوا الصفحات عن أهمية الحرية الإعلامية، وضرورة أن ندع ألف زهرة تتفتح، وقرأت ما كتبه بعضهم و"قرفت".

منتهى الصفاقة أن يؤَمِّن على ضرورة توفير الحريات الصحفية، من يطبلون ويزمرون بحمد من ينتهكون كافة أشكال الحريات، طالما هم ينعمون بالحصانة من الملاحقة والمساءلة، عندما ينثرون بذاءاتهم في كل الاتجاهات، ما عدا في اتجاه أهل الجاه والسلطان، فليس من حق من جعل الصحافة مهنة مكاسب، أن يتحدث عن أن الحرية ضرورية لصحافة يفترض أنها السلطة الرابعة، وليس من حق أراجوز مهرج يلتقط مفرداته وبلاغياته من البواليع ومقالب القمامة، أن يزعم أنه يدافع عن أي شكل من أشكال الحرية.

ومن البدهيات، أنه لا يمكن أن تتوفر في بلد ما حرية الصحافة بأي قدر، طالما الحريات المدنية الأخرى غير مكفولة فيه. وكيف يريد الصحفيون للصحافة أن تكون حرة، والمواطن العادي لا يملك حرية التعبير؟ وكيف تبلغ البجاحة والوقاحة ببعض الصحفيين أن يهللوا لحكومات تخنق الجماهير ولا تكفل لهم من الحريات حتى حرية تنفس هواء نقي، ثم يحتفوا باليوم العالمي لحرية الصحافة؟

في ظل الأنظمة القمعية التي تسيطر على مقاليد الأمور في معظم الدول العربية، تصبح حرية الصحافة أقل الحريات شأنا، فهي ليست أهم من حرية الفكر والمعتقد والرأي، والحرية في نيل ما يليق بالإنسان من تعليم وصحة ومسكن ومأكل ومشرب، وبكفالة هذه الحريات تصبح حرية الصحافة ممكنة ومجدية، وبغيابها تصبح حرية الإعلام صنو حرية التضليل والتجهيل، وبالتالي مكفولة فقط لمن يبيعون "أعمدتهم" مفروشة بالكلام المطرز على مقاس الحاكم بأمره.

كان مقالي الأخير هنا، عن التقرير الأخير لمنظمة الشفافية العالمية والذي أفاد بأن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (وهي عبارة مهذبة لـ"جميع الدول العربية") أكبر منتج ومصدر ومستورد للفساد في العالم، وبعد قراءة التقرير قرأت نحو 20 صحيفة عربية، ولم يتعرض معظمها للتقرير من قريب أو بعيد، والبقية التي تناولته أوردت فحواه مبتورا، و"يكاد المريب يقول خذوني".

وكان بإمكان كل صحيفة عربية، أن تدرأ عن نفسها شبهة الطعن في ذمة حكومة البلد الذي تصدر فيه، بأن تورد موجزا لما جاء في التقرير عن منشأ ومصدر العطن والعفن الذي فاحت رائحته من ثناياه، مستعصمة بمقولة "ناقل الكفر ليس بكافر"، ولكنها اختارت الاستعصام بـ"ابعد  عن الشر وغني له" على ما في هذه العبارة من سقوط أخلاقي، فلماذا "يغني" شخص عاقل وراشد للشر ما لم يكن هو شريرا أو محبا للشرور طالما تقع على آخرين؟

نقول في السودان "اللي ماسك القلم ما يكتب نفسه شقي"، والقلم هنا يرمز لمن بيده سلطة إصدار القرارات، وبالتالي فهو لا يصدر قرارا يتسبب في شقائه وتعاسته، والصحفيون العرب يمسكون بالأقلام، وكثير منهم يعتبر نفسه وصيا على "الرأي العام"، ويستخدمون تلك الأقلام لإضفاء "قدسية" على "رسالتهم"، ومن ثم كان الضجيج حول حرية الصحافة خلال الأسبوع الأول من شهر الناس هذا، دون التطرق على مدى العام كله لحرمان الناس كافة من أبسط حقوق المواطنة.

لماذا لا يتحدث الصحفيون عن ضرورة منح المدرس حق المشاركة في المناهج المدرسية وإبداء الرأي حولها؟ لماذا لا تكون للصيدلي في بلداننا حرية رفض تسويق وصرف دواء مشكوك في صلاحيته تستورده جهة "مسنودة"؟ لماذا لا يكون من حق الجندي في القوات المسلحة أن يرفض فتح النار على مواطنين يعارضون سياسات الحكومة، من منطلق أنه مكلف بحماية الوطن والمواطن من العدوان الخارجي؟ من يكفل سلامة طبيب يرفض أن يترك طوابير المرضى في العيادة لإجراء الكشف الطبي على صاحب هيلمان وطيلسان يعاني من إسهال طارئ؟

قضيت في الصحافة المكتوبة والمرئية أكثر من نصف سنوات عمري، وأتقنت لغة الحصافة عوضا عن لغة الصحافة، طلبا للسلامة أحيانا، وخضوعا لـ"السياسة التحريرية" في أحيان أكثر، وأتمنى لنفسي ولغيري من أبناء وبنات المهنة، مناخ عمل ليس فيه خوف أو توجس، طالما نحن في خدمة الحقيقة والحق العام، ولكن تلك السنوات الطوال في هذا المجال، جعلتني أستسخف التباكي على حرية الصحافة، من نفر ذوي ألسنة شديدة الخشونة بسبب الإفراط في لعق أحذية العسكر ونعال السلاطين.