صحافة دولية

كيف يرى كيسنجر علاقة أمريكا بروسيا بعد لقائه بوتين؟

كيسنجر: يجب النظر لروسيا على أنها عنصر مهم في التوازن الجديد وليس كونها تهديدا- أرشيفية
ألقى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر محاضرة في ذكرى وفاة السياسي الروسي يفغيني بريماكوف، حدد فيها رؤيته لطبيعة العلاقات الأمريكية الروسية.  

ونشرت مجلة "ناشونال إنترست" على موقعها الإلكتروني نص محاضرة كيسنجر، التي تأتي مباشرة بعد لقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو قبل أيام، وحدد فيها معالم العلاقة الأمريكية-الروسية، مشيرة إلى أن أهمية محاضرة السياسي الأمريكي "الثعلب"، الذي ترأس الخارجية في عهد ريتشارد نيكسون، تنبع من أنها تأتي في ظل علاقة متردية بين البلدين وفي ملفات مهمة، مثل سوريا وأوكرانيا والعلاقات مع الصين ومصالح الناتو في القطب الشمالي.

وتشير المجلة إلى أن كيسنجر ذكر في محاضرة بريماكوف، التي نظمتها مؤسسة غورغاتشوف في موسكو، إلى علاقته مع السياسي الروسي المخضرم يفغيني بريماكوف، الذي توفي العام الماضي، وقال إنه ترأس معه في الفترة ما بين 2007 و2009 جماعة من الوزراء المتقاعدين والمسؤولين البارزين والقادة العسكريين من روسيا، وبعضهم كان حاضرا أثناء المحاضرة، لافتة إلى أن هدف هذه المجموعة كان التخفيف من مظاهر العداء بين البلدين، واقتناص فرص التعاون. وتوصف المجموعة في أمريكا بـ"تراك2"، وهذا يعني أنها مؤسسة مدعومة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ولقيت تشجيعا من البيت الأبيض؛ لاستكشاف سبل التعاون ولكن ليس للتفاوض نيابة عن الولايات المتحدة.

ويقول كيسنجر في محاضرته إن المجموعة كانت تتداول على عقد اجتماعاتها بين البلدين، وفي واحدة من المناسبات جمع الرئيس جورج دبليو بوش كامل فريقه من الأمن القومي من أجل التحدث مع الضيوف الروس، مشيرا إلى أن أهمية المجموعة تنبع من أن كل المشاركين فيها تبوأوا مناصب عليا أثناء الحرب الباردة وفي أوقات التوتر بين البلدين، وتصرفوا بناء على ما تمليه المصالح القومية لبلديهما بحسب ما كانوا يرونه مناسبا.

ويستدرك كيسنجر بأنهم "تعلموا أثناء التجربة مخاطر التكنولوجيا التي تهدد الحياة المتحضرة، والتي قد تتطور في الأزمة باتجاه يمكن أن يدمر أي نشاط إنساني منظم. وفي ظل الانقلابات والثورات التي كان يشهدها العالم، كان هدف (تراك2) هو التغلب على الأزمات والبحث عن مبادئ مشتركة للنظام الدولي".

رجل لا يعوض

ويصف كيسنجر بريماكوف بـ"الرجل الذي لا يعوض في عمل هذه المجموعة، فقد كان لديه تفكير تحليلي حاد وفهم واسع للتوجهات الدولية، اكتسبهما خلال سنوات كان فيها قريبا من مركز السلطة وفي قلبها. ونظرا لتكريسه عمله لوطنه، فقد ساهم في تشذيب أفكار المجموعة والبحث عن رؤية مشتركة". 

ويشير كيسنجر إلى الاحترام المتبادل بينهما، رغم الخلاف في الرؤى. وعن العلاقات بين البلدين يقول: "لا أريد أن أخبركم أن علاقاتنا اليوم هي أسوأ مما كانت عليه قبل عقد من الزمان، وبالتأكيد فهي أسوأ مما كانت عليه قبل الحرب الباردة، فقد تبددت الثقة المتبادلة على الجانبين، وحلت المواجهة بدلا من التعاون. وأعرف أن يفغيني بريماكوف في الشهر الأخير من حياته حاول البحث عن طرق للتغلب على هذا الوضع المقلق، وسنكرم ذكراه إن جعلنا من جهوده جهودا خاصة بنا".

بعد الحرب الباردة

ويعود كيسنجر إلى فترة ما بعد نهاية الحرب الباردة التي تطلعت فيها روسيا وأمريكا إلى بناء رؤية تقوم على الشراكة الاستراتيجية وتتشكل من التجارب الماضية، وكان الأمريكيون يتوقعون تخفيفا في حدة التوتر وتعاونا في القضايا الدولية، أما الروس، فشعورهم بالفخر مما أنجزوه من تحديث لمجتمعهم أثر عليهم من خلال عدم الارتياح من التحولات التي تمت على حدودهم، والاعتراف بها. مع أن هناك من اعترف عن الجانبين بأن مصير روسيا والولايات المتحدة متداخلان. وأصبح الحفاظ على الاستقرار ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل ضرورة، وكذلك بناء نظام أمني للدول اليوروآسيوية على أطراف روسيا. وأصبح التعاون في الاستثمار التجاري والطاقة على رأس القائمة.

ويعلق كيسنجر على قرار بريماكوف عندما كان رئيسا للوزراء بتحويل خط طائرته المتجهة إلى واشنطن، والعودة إلى موسكو احتجاجا على ضرب الناتو ليوغسلافيا، بأنه رمزي ومثال على الطريقة التي تغلبت فيها الأزمات الدولية على قدرات رجال الدولة.

ويقول كيسنجر إن "الآمال الأولية بتعاون وثيق، سادت المراحل الأولى من الحملة ضد تنظيم القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان، وهي قد تقود إلى شراكة في قضايا أوسع، ضعفت في دوامة نزاعات الشرق الأوسط، وانهارت في الحملات العسكرية الروسية في القوقاز عام 2008 وأوكرانيا  عام 2014. ولم تؤد الجهود الأخيرة للبحث عن أرضية مشتركة في النزاع السوري، ونزع فتيل التوتر في أوكرانيا لتغيير حس القطيعة". 

تبادل الاتهامات

ويلفت كيسنجر في محاضرته، التي ترجمتها "عربي21"، إلى لعبة تبادل الاتهامات وتحميل كل طرف مسؤولية القطيعة و"الشيطنة"، فإن لم تكن للشعب فللقيادة.

ويقول كيسنجر: "نتيجة للتركيز على موضوعات الأمن القومي، فقد ظهرت مشاعر من عدم الثقة، كتلك التي سادت في فترة الحرب الباردة، وفاقمت هذه المشاعر ذاكرة روسيا في العقد الأول من مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي، حيث عانت من مرحلة أزمة اقتصادية اجتماعية، في ما تمتعت فيه الولايات المتحدة بأطول فترة من التوسع الاقتصادي. وأدى هذا إلى خلاف في المواقف في البلقان وأراضي الاتحاد السوفييتي السابق والشرق الأوسط، وتوسيع عضوية الناتو ونظام الصواريخ وبيع السلاح، الذي تفوق على التعاون".

وينوه كيسنجر إلى ما يراها "الفجوة التاريخية الأساسية بين البلدين، فقد تعاملت الولايات المتحدة مع نهاية الحرب الباردة كونها تأكيدا لإيمانها التقليدي بانتصار ثورتها الديمقراطية، ولهذا أخذت تفكر في توسيع نظامها دوليا. أما روسيا فقد كانت التجربة أكثر تعقيدا، فالبلد يقع على مفترق طرق، فزحفت إليه الجيوش وعبر القرون من الشرق والغرب، فالأمن يظل مسألة جيوسياسية، وكذلك الأساس القانوني. فعندما تتحرك حدودها الأمنية من نهر إيلب، الذي يبعد ألف ميل عنها، إلى موسكو، فمفهوم روسيا للنظام العالمي سيحتوي بالضرورة على محتويات استراتيجية. وعليه، فإن التحدي المفروض علينا في هذه الفترة هو دمج المنظورين معا -القانوني والجيوسياسي- بطريقة متماسكة".

كيف نتعاون؟

ويبين كيسنجر أنه "من هنا نواجه مشكلة من نوع آخر، وهي كيف يمكن للولايات المتحدة التعاون مع روسيا، التي لا تتفق معها في القيم، ولكنها مكون مهم، ولا يستغنى عنه في النظام الدولي؟ وكيف يمكن لروسيا الحفاظ على مصالحها الأمنية دون إثارة القلق على أطرافها وزيادة أعدائها؟ وهل يمكن لروسيا الحصول على مكان دولي محترم ويثير ارتياح الولايات المتحدة؟".

ولم يحاول كيسنجر الإجابة عن هذه التساؤلات كلها، خاصة أن العديد من المعلقين قالوا إن البلدين دخلا في مرحلة حرب باردة جديدة، ولكنه حدد بعض الملامح للعلاقة بين البلدين.

ويعتقد كيسنجر أن "المخاطر اليوم ليست في العودة إلى المواجهة أكثر من تعزيز نبوءات يمكن أن تتحقق، فالمصالح طويلة الأمد لكلا البلدين تقوم على عالم يحول الخلافات والنزاعات اليوم إلى توازن جديد ومتعدد الأقطاب ودولي".

متعدد الأقطاب

ويرى كيسنجر أن "طبيعة الاضطرابات اليوم غير مسبوقة، فحتى وقت ليس بالبعيد، كانت التهديدات الدولية العالمية تأتي من مراكمة السلطات من دولة مسيطرة، لكن التهديدات اليوم تنبع وبشكل متزايد من تفكك الدول وتزايد المناطق الخارجة عن السيطرة، فالفراغ في السلطة الذي يتسع لا يمكن لأي دولة، مهما كانت قوية معالجته وبناء قاعدة وطنية خالصة، فهو بحاجة إلى تعاون مستمر بين الولايات المتحدة وروسيا، وعليه يجب ضبط عناصر التنافس في طريقة معالجة النزاعات التقليدية في داخل نظام الدولة، بحيث يصبح التنافس داخل أطر، ويخلق ظروفا تمنع حدوثه".

ويذكر كيسنجر أن هناك العديد من الموضوعات الحاسمة التي تحتاج إلى حل، وأهمها أوكرانيا وسوريا، مستدركا بأنه رغم النقاش المستمر بين البلدين حول هذين الموضوعين، إلا أن تقدما لم يتحقق، والسبب كما يقول كيسنجر هو أن "النقاش دار خارج إطار استراتيجي متفق عليه". ويضيف: "كلا الموضوعين هما تعبير عن إطار استراتيجي أكبر، فهناك حاجة إلى دمج أوكرانيا في البناء الأوروبي والأمن الدولي، حتى تكون جسرا بين الغرب وروسيا، وليس منطقة سيادة لأي منهما".

سوريا

ويقول كيسنجر إنه في ما يتعلق بسوريا، فإنه "من الواضح أن الفصائل المحلية والإقليمية لا تستطيع العثور على حل بنفسها، ويمكن لجهود أمريكية روسية متوافقة يتم تنسيقها من القوى الرئيسة الأخرى، خلق شكل من أشكال الحلول السلمية في الشرق الأوسط، وربما في مكان آخر".

ويدعو كيسنجر إلى أن تشمل أي جهود لتحسين العلاقات بين البلدين حوارا حول النظام الدولي الصاعد، والبحث عن التوجهات التي تقوم بإضعاف النظام القديم، وتشكل النظام الجديد.. وما هي التحديات التي تفرضها هذه التغيرات على الروس والأمريكيين ومصالحهم القومية، وما هو الدور الذي ترغب كل دولة بأدائه من أجل تشكيل النظام، وما هو المكان الذي تأمل فيه وتريد في النهاية احتلاله في النظام الجديد، وكيف نوافق المفاهيم المختلفة للنظام الدولي، التي تطورت في روسيا والولايات المتحدة والدول الكبرى الأخرى بناء على التجربة التاريخية. وهذا كله من أجل تطوير مفهوم استراتيجي للعلاقات الأمريكية-الروسية، يمكن من خلاله إدارة نقاط الخلاف.

ويفيد كيسنجر بأنه كان ينظر للعلاقات الدولية في حقبتي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي على أنها قائمة على العداء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ومع تطور التكنولوجيا تطور مفهوم للاستقرار الاستراتيجي يمكن تطبيقه حتى في ظل التنافس بينهما في مجالات أخرى.

العالم تغير

ويستدرك كيسنجر بأن "العالم تغير منذئذ، خاصة مع ظهور النظام المتعدد الأقطاب، ويجب أن ينظر لروسيا على أنها عنصر مهم في هذا التوازن الجديد، وليس كونها تهديدا للولايات المتحدة".

ويقول كيسنجر: "لقد قضيت جزءا كبيرا من السنوات السبعين السابقة، وبطريقة أو بأخرى، مكرسا وقتي للعلاقات الأمريكية-الروسية، وكنت في مركز السلطة عندما ارتفعت مستويات التأهب، وفي الاحتفالات المشتركة بالإنجازات الدبلوماسية، وبلدان وشعوب العالم يحتاجون إلى آفاق دائمة".

ويخلص كيسنجر إلى القول: "أنا هنا للجدال من أجل الحوار، الذي يبحث عن دمج مستقبلنا لا يوسع خلافاتنا، وهذا يقتضي احتراما من الطرفين للقيم الرئيسة ومصالح الطرف الآخر، ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف فيما تبقى من مدة للإدارة الحالية، ولكن يجب علينا أن نعلق المحاولة من أجل ما يجري في السياسة الأمريكية الداخلية، ولن تتحقق إلا باستعداد ورغبة من واشنطن وموسكو، في البيت الأبيض والكرملين، وتجاوز المظالم وحس الضحية، ومواجهة التحديات الأكبر التي تواجه البلدين في السنوات المقبلة".