كتاب عربي 21

في نقد مسار الثورة التونسية بعد خمس سنوات

1300x600
فجأة عادت إلى السطح كل اللَّعنات المركَّزة والسِّباب المرذول على الدكتور المنصف المرزوقي بعد إعلان ميلاد حزبه الجديد يوم 20 ديسمبر. كانت الأصوات اللاعنة له قد سكتت نسبيا طيلة سنة 2015 إلا من بعض السخرية من محاولته كسر حصار غزة أو تجواله لإلقاء محاضرات أمام جامعات أميركية.

وعندما يحوصل المرء بعض الانتقادات فإنه يجد بعضها يحسد الرجل في كم الأكسجين الذي يتنفسه كأن لا حق له في الحياة العادية. هذا المقال ليس دفاعا عن الرجل ولكنه محاولة لتوجيه النقد لمسار الثورة التونسية منذ اعتصامي القصبة الأولى والثانية. 

القبول بالمسار السلمي ينهي المزايدة بالثورية

بعض النقد الموجه الآن للمرزوقي وحزبه الجديد استعاد المزايدة الثورية على المسار السياسي الذي انطلق خاصة بعد القصبة الثانية. لقد التحقت كل مكونات الطيف السياسي بهيئة بن عاشور (الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي) بل تنافسوا عليها. وهي الهيئة التي أمر بتأسيسها بن علي نفسه ووضع عليها عياض بن عاشور أحد مشرعيه الدستوريين. ويشكل ذلك في تقديري قبولا عاما بمسار سياسي سلمي يفضل العمل عبر المؤسسات القائمة دون كسرها وإعادة بنائها بطريقة الثورات الحاسمة (الهدم الجذري وإعادة البناء من الأساس). وكل ما ترتب عن تلك الهيئة يعتبر مسؤولية جماعية للنخبة السياسية المتحزبة خاصة. لذلك أعتبر أن تقييم المواقف السياسية من مسألة تحقيق أهداف الثورة الذي تأخر يجب أن ينطلق من ذلك القبول الجماعي بالتغيير السلمي المتدرج لا الثوري.

وأرى أن العودة الآن إلى الحديث باسم ثورية منقوصة يجب أن يشمل الجميع أو أن يعفى منه الجميع.

وينظر إلى العمل الجاري بما فيه حساب ما تحقق مما طلبت الثورة على أنه مسار طويل يتحقق بهدوء وليس ضربة سيف ثورية لا أحد في ما يبدو راغب فيها أو قادر عليها إلا أمانيّ. إنه تخوين ومزايدة أن يعاد الآن لاتهام المرزوقي بعدم الثورية وهو يعلن العمل تحت سقف الدستور وطبقا لنتائج انتخابات 2014 التي لم تنصفه وقبل بها ككل ديمقراطي يؤمن بالصندوق.

نقد أداء الترويكا؟

يحمل المرزوقي الآن كمية من الفشل الفعلي والافتراضي لأداء حكومة الترويكا. بين نهاية سنة 2011 وبداية سنة 2014 تاريخ التسليم للمهدي جمعة (حكومة تكنوقراط). وهو نقد متحيِّز ضد المرزوقي خاصة بعد إعفاء النهضة من اللّعن اليومي. والأقرب إلى الواقع في تقديري أن أداء الترويكا والمرزوقي يمكن أن يكون من وجهتين مختلفتين. 

الأولى هي من زاوية الثورة. فيطرح السؤال كم حققت الحكومات والرئيس مما كان مطلوبا ثوريا؟ وهنا يجب الأخذ بعين الاعتبار حكومات سنة 2011 (محمد الغنوشي 1 و2 والباجي) وجمع كل العمل المنجز والحكم عليه ثوريا. لا شد أن النتيجة ضعيفة جدا فالتغيير المطلوب لم يحصل بل أنقذ النظام القديم نفسه عبر ثقوب الغربال الانتقالي. ولكن في هذا الموضع بالذات يجب النظر إلى أداء كل الأطراف السياسية وخاصة الاجتماعية وما إذا كانت تضامنت مع المطلب الثوري في التغيير أو عملت ضده. لأن التقييم المنهجي يجب أن يشمل الجميع. فالحكومات لم تكن وحدها بل كانت لها معارضة. يحكم عليها أيضا من وجهة نظر الثورة من كان الأقرب في الأداء وفي النتائج لتحقيق أهداف الثورة ومطالبها. إن هذا السؤال مطروح بقوة على من يأنس في نفسه القدرة على التقييم الموضوعي للمرحلة.

ومن زاوية نظر ثانية يمكن تقييم أداء الترويكا والرئيس المرزوقي باعتماد ما حصل بعدهم (حكومة جمعة 2014) (وحكومة الصيد والرئيس الباجي 2015). كل ما نراه الآن للأسف هو انهيار على جميع الصّعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخارجية خاصة فضلا عن توسع الضربات الإرهابية فلا نسب النمو ارتفعت ولا التشغيل انطلق ولا تطبيق الدستور تم كما اتفق عليه. ومن هذا المنظور فإن حكومات الترويكا والمرزوقي كانت أفضل بكثير (وفي أسوء الصور هو مشي الأعمش في بيت العميان). 

إن نقد أداء الترويكا والرئيس المرزوقي في ما أرى الآن ليس موضوعيا ولا علميا رغم أنه مطلوب وضروري للتقدم بالتجربة التونسية (بل هو حق يجب أن يقام). لقد كان أغلب النقد (وهو في الحقيقة لعن فاحش لفظا ومعنى) موجه لحزب النهضة فلما أن توافق النظام القديم مع النهضة أخرج النهضويون من مرمى اللعنات وتسابق الجميع للسلام على الغنوشي فيما صار المرزوقي هدفا وحيدا خاصة وهو يعود إلى المشهد السياسي، بما يجعل هذا النقد غير موضوعي بل هو من صميم الفعل السياسي التونسي الرديء، الذي لم يتحرر منه الإعلام الفاسد بعد وتمارسه مجموعات من الشباب في المواقع الافتراضية بدون أدنى شعور بالمسؤولية، بما يبقي مطلب نقد المرحلة بقصد تطوير ما بعدها ضرورة علمية وتاريخية. فلا يكفي توهم النجاح السياسي بمجرد اجتناب الصور السيئة القادمة من ليبيا أو من سوريا ومصر.

نقد المرحلة ضروري.. الآن وهنا

يمكن أن نبدأ بالسؤال من أخطأ أكثر ولكن يمكن أن نبدأ أيضا بالسؤال من خدم الثورة أكثر؟ السؤال الأول سيقودنا إلى كشف عورات الجميع ونظل ندور في سياق سلبي محبط ينتهي غالبا بدفع الناس إلى الإحباط والاستقالة. وهذا يجري كل يوم في المواقع والإعلام الذي لا يزال تحت سيطرة النظام القديم واللوبيات المالية التي ظهرت بعض الثورة. أما السؤال الثاني فسيبدأ بتثمين المكتسب سياسيا خاصة والبناء عليه، بما يعيد للناس الأمل في أن المسار يتقدم نحو وضع أفضل. إنهما منهجيتان مختلفتان. 

هناك إجماع الآن على مسائل جوهرية:

أولا: أن المسار السياسي بكل عوراته قد جنب البلد حالة الاحتراب الأهلي ونشر وعي العمل السياسي المؤسساتي. ورسخ هامش حرية كبير للأقلام الجادة والحرية يترسَّخ ولا يتراجع رغم التهديد الإرهابي والتذرع به للحد منها 

ثانيا: أن الاحتراب الأيديولوجي الذي فرق الشركاء في الوطن إلى زوال وأن الروح الاستئصالية تتراجع وتعزل نفسها لصالح هدنة قد تتحول إلى تعاون أو في الحد الأدنى كف الشغب بين الإسلاميين واليسار وهي معركة أعاقت بناء الديمقراطية لمدة نصف قرن (لقد صارت سلعة الاستئصال سلعة بائرة).

ثالثا: ولادة وعي كامل بأن مسار البناء الاقتصادي والاجتماعي طبقا لمنوال تنمية ليبرالي (جرب ففشل) لا تؤدي إلى تغيير حقيقي في العمق أي أن المطلوب الآن الشروع في وضع منوال تنمية مختلف.

وترجمة ذلك أن الهروب من الاستحقاقات الاجتماعية لم يعد مجديا لأحد وأنه لا بد من الجلوس إلى طاولة التفاوض الاجتماعي من جديد ليس بين النقابات العمالية ونقابات الأعراف فهذا شكل سطحي للتفاوض يعالج المؤقت ولا يعالج العوائق الموضوعية الدائمة، بل على قاعدة التأسيس الفعلي للدولة الاجتماعية.

رابعا: إعادة طرح موضوع الهوية الثقافية للبلد. فقد فرض نفسه بشكل مختلف ليس على قاعدة مواجهة بين إيمان وكفر أو بين حداثة ورجعية ظلامية بل على أساس سؤال النهضة العربية الأولى فلا حداثة بورقيبة أنتجت مخرجاتها الثابتة ولا النكوص إلى إسلام أصولي (نقي) كاف لإقناع الناس بخلاص أزلي. 

خامسا: ترسخ القناعة بأن الديمقراطية قد صارت وعاء مريحا لمواصلة هذه النقاشات وتعميقها وتفعيل مؤسسات إنتاجها على المدى البعيد.  

متى يشرع في هذا النقد الجذري للمسار السياسي التونسي؟ لا شك أن كل تأخير في العلاج يعفن الجراح.