كتاب عربي 21

شعب المعارك الخاطئة

1300x600
التوانسة يتكاذبون ويكذبون على العالم، توجد لديهم مشكلة حقيقية هي وهم توليد ديمقراطية كسيحة طبقا لتقنية ترحيل المشكلات إذا تعذر حلها، والعيش بوهم أن ستحل نفسها بنفسها لتفسح الطريق للسعادة والمجد. 

التوانسة يبيعون للعالم صورة مزيفة عن أنفسهم وعن تجربتهم، وفيهم من سيعتبر هذا المقال خيانة وطنية. لذلك ستكتبه لنقول للمتكاذبين: انظروا فقط في نتائج مدرستكم العبقرية، لتقفوا على الكذب البورقيبي الذي تتماهون فيه باسم الإجماع الوطني الكاسح.

كذبة التجانس والتعايش 

يقدمون للعالم صورة بلد يدير حوارا ناجحا بين مكوناته، ويزعمون الفلاح في النجاة من الحروب الأهلية، ويستحضرون أسوأ الأمثلة المحيطية ليمجدوا نجاحهم. لكن جوهر مناوراتهم منذ النشأة واحدة لا تتغير. كيف نقضي على الإسلام السياسي باعتباره جسما هجينا لا يحق له الحياة. 

تتغير المسميات، ولكن الفعل جوهره واحد. معركة نخبة بمعزل عن معركة شعب مع الجهل والفقر والمرض. النخبة العبقرية تخلق صراعاتها، وتتمتع بها، وتقبض منها، وتزعم الحوار السياسي. وفي الأصل البلد يخسر كل يوم لأن الصراع الجاري بين النخب ينعكس على حياته اليومية والمستفيد يقبع خارج الحدود والجمهور خاسر وحيد في اللعبة النخبوية. 

لقد أسقطت هذه الصراعات الأزلية الثورة في مستنقع الاستئصال السياسي، وميّعت كل مطالبها المادية منها (كالتنمية العادلة) والثقافية ( كإعادة التفكير في الهوية من منطلق وطني).

لم يكن الخروج من الأزمة البنيوية التي خلفها النظام المخلوع عسيرا. كانت الموارد متاحة وتحتاج إلى تنظيم في التوزيع. ولكن ذلك النجاح كان سيعني نجاح حكومة الترويكا التي شكلها حزب النهضة، وهو حزب الإسلام السياسي، وسيحسب له النجاح بما يمكن له في ديمقراطية تداولية من البقاء والسيطرة على غرار الحالة التركية التي يقتدي بها. 

لذلك يجب أن يفشل، وقد أُفشل وأُسقط.(طبعا هذا لا يعني أن هذا الحزب كان يعمل بخبرة ونجاعة وأنه خال من العيوب الفردية وأنه كان يملك برنامجا معجزة منقذة)، ولكن السؤال الذي كان يجب أن يطرح كيف نحقق أهداف الثورة بقطع النظر عمن سيفعل ذلك في المقدمة. 

هذا السؤال الوطني بامتياز لم يطرح؛ لأن النخبة لم ترتق إلى مستواه، بل هي تخشاه وتقطع الطريق عليه. لأنه سؤال الوعي والمسؤولية. الوعي بالوطن هو علامة القوة والتقدم والحداثة. وهو السؤال الأبعد عن النخبة التونسية المتكاذبة والعميلة. 

واليوم يتواصل نفس العمل كيف نسقط حكومة يشارك فيها حزب الإسلام السياسي. طبعا هذه الحكومة فاشلة على كل الصعد. وليس لها من الخبرات إلا الأكاذيب الكبيرة التي بنى الزعيم السابق دولته وهو الزعيم المرجع عند الحزب الحاكم الذي يحاول أن يجعل من ترهاته إيديولوجيا يتعيش منها. 

لكن العمل على إسقاطها لا يتم لهذا السبب بل لإعادة تشكيلها من نفس الحزب ونفس النخبة المتواطئة ضد شعبها لكن دون حزب الإسلام السياسي. وهو ما يؤدي إلى وضع النهضة في المعارضة وتحميلها الفشل ثم تصفيتها. 

ونعود بالتالي إلى حيث كنا سنة 1991. وهكذا يتبين أن ليس من هدف وشاغل غير محاربة النهضة، أما مطالب الثورة فلا تعني أحدا. والحقيقة أن هذا ليس شاغل البلد، وإنما شاغل النخبة، خاصة نخبة تتمول من أجل مواصلة هذه المعركة التي يخسر فيها البلد ولا يموت الإسلاميون.

إن المرء يطرح السؤال عن قدرة عن هذه النخبة المتعالمة عن طرح الأسئلة الخاطئة والقضايا المغلوطة والسير فيها رغم ما تتركه من خراب على المجموعة المسماة وطن. قدرة هذا النخبة على الدوران في فراغها والزعم بتقدمها هو الذي يكشف الأكاذيب التونسية التي تروج للعالم على أنها نجاح باهر في تجاوز مطب الحرب الأهلية وهل حرب الأهلية أشرس من تخريب بلد على رؤوس أهله لأن بعض يرفض النظر إلى شركائه في الوطن وشم رائحتهم. 

كذبة التحديث والعصرنة

من أجل إسقاط الإسلام السياسي سقط البلد هذه حقيقة ماثلة منذ عام 1980. لكن لتغطيتها بغربال الثقافة العالمة تتبني النخبة الفاشلة منهجية التفوق على العجز العربي. وهي كمن يفخر بالفوز في سباق عدو على كسيح. يتم اختيار خصم أضعف لإبراز الانتصار وهذه آلية تفكير من جنس الدفاع الذاتي أمام وعي العجز لأنها تدل على الخوف من التحدي والمصارعة الحقيقية للمشاكل. 

آليات تفكير عاجزة وخاملة وبليدة، وهي التجسيد الفعلي لثمار نظام التعليم التونسي الفاشل، الذي صنع شخصية مهزوزة عاجزة تقول بالسلم لجبنها أمام الحسم بالحرب. من هنا تعيد إنتاج المحاور المعروفة، خاصة استئصال الإسلاميين؛ لأن ذلك له مردود سهل ومريح. 

وهنا تنكشف كذبة التفوق التونسية قدام المعركة الحقيقية، وهي معركة بناء بلد مستقل قائم بنفسه، ومستغن بقدراته عن كل تبعية. إن ثمن هذه المعركة يبدأ بالتسليم العقلاني ببناء قاعدة للوحدة الوطنية خارج صراعات الاستئصال السياسي والجسدي لأحد المكونات الرئيسية. التحديث الحقيقي هو تحديث المجتمع ماديا بما يثوّر الثقافي ويجعله مفاعلا إضافيا. 

وهو ما طلبته الثورة بعد فشل النموذج المزيف الذي أوهم به الزعيم العالم، وسار على إثره أنصاره من محبي السلامة والغنم الرخيص. معركة بناء الوحدة الوطنية تمر عبر صراعات فكرية (قد يظهر بعضها في برنامج تعليمي جديد للقرن 21 ) لتعيد بناء الهويات الجماعية والفردية. 

لكن هذه المعركة/ الوحدة تعني قطع رزق المتموّل من الاستئصال، بما في ذلك وقوفه عاريا أمام تاريخه الاستئصالي الذي جر البلد إلى معارك خاطئة منذ نصف قرن (كمعركة المساواة في الميراث في زمن المطالبة بالحرية). وتحمل كلفة ذلك أمام شعب بوعي مختلف. 

لقد كلف غياب الإسلاميين تونس 4 عشريات من المعارك الخاطئة، ولم يربح من ذلك إلا من يعيش من تبعية البلد للاقتصاد العالمي، خاصة للاقتصاد الفرنسي، (وهو من يمول هذا الاستئصال منذ ظهور الإسلاميين، ولا يزال يدفع في هذا الاتجاه. ومادامت هذه الحرب قائمة فالمال يتدفق والكسل مريح، والبلد يتراجع على كل المستويات). 

كانت هذه الحقيقة بارزة للعيان، وكنا نود أن تنتهي هذه المعركة بالوكالة بعد الثورة، ولكنها تستمر حتى اللحظة في إنتاج نفس المفاعيل لنفس المعركة إخسار البلد وإغراقه في التبعية والمديونية لصالح من مول دوما المعارك الخاطئة باسم التحديث. هذه المعركة ليست لصالح تونس ولا لصالح المنطقة فقد انتهت بقطع العلاقات الاقتصادية والإنسانية مع الجار الليبي. 

ووترت العلاقات مع الجار الجزائري، وأفشلت كل تعاون بين قطر وتونس وبين تركيا وتونس. ووضعت فرنسا خاصة في موضع من يملي شروطه على كل فعل سياسي واقتصادي على البلد. وما يزيد الأمر بؤسا أن هذا يتم تحت مسميات العبقرية التونسية في التعايش السلمي طبقا لمشروع تحديث سياسي زرعه الزعيم الذي لم يكن إلا كذبة كبيرة بلباس مدني نمارس بها تفوقا أخرق على الأنظمة العربية العسكرية.

نحن ندخل نفقا مظلما آخر قد يدوم دهرا. نودع فيه كل أمل في ثورة أسعدت العالم، ولكنها خدعته عن شعب لا يتقن التعالي عن صغاراته