كتاب عربي 21

دولة الكراهية

1300x600
تعاقبت النظم الحاكمة للمجتمع المصري على مدار عقود تاريخه الحديث، واشتركت في التضييق على الأقوات والحريات بنسب متفاوتة، وصاحب كل نظام أنصار وأتباع وأيضا معارضون، إلا أن ذلك الاختلاف في التأييد أو الرفض لم يكن سببا في الاقتتال ولا نتج عنه شيوع الكراهية بمثل هذا الاتساع الحاصل الآن.

تفجرت ثورة يناير وسيطرت على المشهد العام للشارع الجماهير الرافضة لمبارك، وبالمقابل خرج الداعمون بأعداد أقل بدرجة ملحوظة، وتحرك قائد الاستخبارات العسكرية -حينها- لصرف المحتشدين فتبدو أمارات عدائه للثورة مبكرا، والمفارقة أنه توجه لمن جعلوه وزيرا بعد ذلك رغم دوره وقتها، وسرعان ما دفعت الدولة أنصارها للاقتتال مع مخالفيها، الأمر الذي سبّب جرحا غائرا في وجدان المجتمع، فامتلأت الميادين مطالبة بإسقاط من يبغي التفرقة بين المجتمع وتغذية الاقتتال الأهلي، وتم تجاوز تلك العقبة بوعي وإرادة شعبية لم يملك أمامها المجلس العسكري إلا الانحناء لتلك الموجة الهادرة، ولكنه كذلك استوعب الدرس.

أولى خطوات شبكة النظام الساقط لإعادة ترتيب المشهد كانت تفرقة من خرجوا عليه، فكان العبث الذي صاحب استفتاء مارس، والحق أن مجرد فكرة الذهاب للصناديق لا تستدعي إحداث فرقة بين الساسة حتى، لكن أحلام العصافير وجهل الطامعين حوّل "ترتيب" الإجراءات لصراع عنيف أحدث فِرْقا بين ما يسمى بالنخبة، عانت منه الثورة حتى آخر رمق لها، وكان المحمود للمجتمع أنه نأى بنفسه عن المخاصمة بين أفراده، فكانوا أكثر وعيا وإدراكا من ساستهم بطبيعة الصراع، وأن الخلاف في وجهات النظر بين الأفراد وبعضهم محمول على حسن الإرادة وقصد الخير للوطن، فلا حاجة لجعله سببا للنزاع والفرقة بين أبناء وطن واحد، أما أصحاب المصالح والأوصياء على المجتمع فجعلوها حربا وغزوة.

اتسع نطاق الخلاف بين الساسة وبعضهم حتى بلغ حد الاشتباكات في عدة أماكن، ولم يتم مراعاة رمزية الميدان ولا الدماء التي سالت لأجله فاشتبكوا فيه، كل ذلك والمجتمع غير عابئ بما يدور بين مشاغبي الشاشات، فكان ينتظر الاستحقاق الانتخابي ليذهب بهدوء معبرا عما يريد بطريقة أكثر تحضرا من "النخبة" إلى أن بدأت الدعوات للثلاثين من يونيو 2013.

سبقت فترة يونيو أحداث اقتتال بدا فيها تورط الأهالي بدرجات محدودة، ولم يغبْ دور الجهات السيادية في التحريض، ومع الثالث من يوليو بدا المجتمع المصري وكأنه مجتمع آخرلم يحظَ يوما بقدر عال من التسامح والتراحم، فانتقلت الخلافات لا لتصيب المختلفين مع بعضهم سياسيا فقط، بل بلغت قطع الأرحام والانتقام والتشفي في القتل، وهو هو نفس المجتمع الذي كان قد انتفض لقتل فرد بمطلع الثورة وبكاء شاب لم يعرفه قبلها، فما الذي تغير وأوصل المجتمع لتلك الحالة؟ وبقدر ما هو مهم معرفة أسباب ذلك التدهور، إلا أن الأهم إدراك آثاره وبحث كيفية التخلص مما أصاب المجتمع.

في التاريخ الإنساني قبل كونه من الإرث النبوي، أن النبي لما أراد أن يؤسس دولة فإنه بدأ ببناء المسجد، للعبادة وتسيير الشؤون، ثم ثنّى بالإخاء بين المهاجرين والأنصار، حتى إن الإخاء بلغ درجة التوارث، فكأن الحاكم يقول: المجتمع لن تقوم له قائمة حتى يكون التراحم بين أفراده كالتراحم بين بني الأب والأم الواحدة، والفعل ههنا لا ينحصر في أمر شرعي وتعبدي، بل هو تأسيس اجتماعي لكيفية بناء الأمم والدول، الذي لا يكون إلا بالتكافل والتراحم، والتاريخ والواقع يزخران بوقائع التماسك المجتمعي وآثاره، وبالمقابل يزخران بوقائع الانقسام وأثره على أي أمة، الذي يبلغ حد الانفصال.

أزمة المجتمع -بعد انسياقه لحالة الكراهية- في عدم وجود نظام رشيد يخفف من الاحتقان بين أفراده، لا من باب دور النظم الرشيدة المؤدية لوظيفتها بالحرص على مجتمعها، بل من باب الاستقرار الأهلي له هو، وأزمته أيضا في عدم وجود معارضة رشيدة، تقوم بدور معاكس لما تقوم به الدولة الغاشمة المستبدة الهادمة لقواعد السلم الأهلي، بل إن كليهما يقوم بدور فعال في تغذية الكراهية لا للفاعلين في المشهد، بل للأنصار على جميع المستويات بما فيها البسيطة التي تدعم دون وعي، فبلغنا درجة إبلاغ الأم عن ابنها، والتشفي في الموت وزيادة المعاناة الاقتصادية لأي طرف مختلف، فصار شعار الكل "إحنا شعب وانتوا شعب".

أصعب ما سيواجه النظام الديموقراطي الذي سينشأ بعد سقوط النظام الحالي، هو إحداث حالة الوئام بالمجتمع، فلا عمران ولا نهضة لمجتمع سمته الكراهية، والخشونة مع المخالف بقصد الإيذاء لا ابتغاء النصح والتقويم، وبضد ذلك يقوم العمران.