مقالات مختارة

رئاسات عربية لما قبل الدولة والمجتمع

1300x600
كتب مطاع الصفدي: في دولة الاستقلال الوطني العربي ليست مسألة القيادة مطروحة في ذاتها، وإن كانت متضمنة في سياق أوسع منها وهو المتعلق بأنظمة الحكم، كأن النظام هو المنتج لرجاله. فالصفات والخصائص التي تنطبق على نظام حاكم هي التي تميزه، كما تميز رجاله هؤلاء.

 من هنا كانت المسلمة الأولى في لائحة هذه الخصائص، والمعبر عنها بنوع من الحكم القاطع، هي القائلة بأن تطور بنية النظام، طيلة تجارب المرحلة الاستقلالية للدولة العربية الناشئة، لم تبرح صيغتها الأولية وهي كون النظام سلطوياً فوقياً، مكرساً لتأدية وظيفة واحدة، هي دوام الهيمنة لصاحب الأمر والسلطان. ما يعني أنه قبل أن يوصف أي نظام، بكونه جمهورياً أو ملكياً أو قبلياً، فإنه في ماهيته هو جهاز شمولي كبير، له مهمة طاغية على سواها، محددة بتوفير الأمن والأمان لرأس السلطة؛ أولاً ولأهله وأتباعه ثانياً.

غير أنه إذا كان النظام مسؤولاً عن شكل الحكم، فمن هو المسؤول عن هذا النظام بعينه؟
رغم أنه تراتبي كطبقة عليا من هرم الدولة، وأن فوقيته هذه تؤهله لأن يكون انفصالياً ومتعالياً ما فوق هذه التراتبية؛ إلا أنه مضطر إلى أن يستمد شرعية وجوده من مدى قدرته على تحويل مجتمع الدولة من حال الخضوع بالقهر والعنف إلى حال القبول بالتبعية شبه التلقائية لضوابط أوامره ـ النظام ـ وقد جرت عادة الخلط في مؤسسة الحكم بين النظام والدولة في غياب عن مفهوم المجتمع، أو في تهميشه. وفي حقبة العهد القديم السابق على الثورة الفرنسية كانت الملكية هي مصدر السلطات جميعها.

كانت ‘الدولة’ عبارة عن أجهزة إدارية، ووسائطَ لتنفيذ مفاعيل هذه السلطات الملكية. كان الملك لويس الرابع عشر الملقب بالشمس لا يكفّ في كل مناسبة عن ترداد حكمته الأثيرة: أنا الدولة! جاءت الثورة كيما تلغي دولة الملك، وتبني دولة الشعب. وما زالت فرنسا تتابع إشادة جمهورياتها، وصولاً إلى نسختها الخامسة الحالية، دون أن تفوز من طلائعها المفكرة بالموافقة التامة على كونها متطابقة تماماً مع مثل الثورة الرائدة، والمتمثلة في شرعة حقوق الإنسان للذات وللآخر.

خلال قرنين ونيف بنت وهدّمت فرنسا مختلفَ نماذج الدول ومعها أنظمتها الحاكمة. فكانت بذلك، تنتج، تدوّن، كلَّ التجارب الممكنة لنشأة وتطورات الحداثة السياسية في تاريخ التقدم الإنساني، وبما تكبدتها مكاسبها العظيمة من تكاليف هائلة، تدفعها بعض الشعوب الواعية راضية مرضية، أو مُكرهةً وإنْ إلى حين متغير.

نخلص إلى القول، إنه من الصعب وغير المقبول غالباً، التفريق في حركات التغيير الكلية ما بين التصويب على النظام من دون الدولة، أو العكس، وإن كان هذا الأمر يبدو مختلفاً بالنسبة للتقدم الغربي في مرحلته الأخيرة. ذلك أن التغيير في الغرب بات منحصراً في فعالية مبدأ تداول السلطة.

ههنا الدولة والنظام ثابتان نسبياً، والفارق هو في اختلاف أسماء الحكام ووجوههم فحسب. هؤلاء يأتون ويذهبون. يملأون مناصب، وظائف قائمة في ذاتها، ولا يمكن تطويبها لشخص أو منظمة، مهما كانت رِفْعة الأول وأهمية الثانية. هذا ما يعنيه فعلاً وحقاً مصطلح الاستقرار. 

ليس هو الجمود، ولا هو نتاج علاقة إخضاع/ وخضوع، من أعلى على ما هو أدنى، من سلطة طاغية وعلى مجتمع مقهور. إنه الاستقرار الذي هو ثمرة نضوج، يمكن وصفه بالعضوي، كالجسد الحي الذي تكاملت أعضاؤه في تأدية وظائفه المطلوبة. وقد قلنا إنه استقرار بصيغة نسبية، لأنه استقرار حي، تنتابه مختلف أعراض الطفرات والتحولات التي هي نسبية كذلك من نوعه، ومن بينها أعراض الفشل والتباطؤ، وحتى العجز في ظروف قاهرة، لكنه قابل في الوقت عينه لتدارك الأخطاء والانحرافات حتى لا تتضاعف إلى أخطار، وقد تتخطى الحلول الجاهزة. تلك هي أفضلية المجتمع العارف بإمكانياته والمعترف بنواقصه، لكنه مصمّم في الوقت نفسه على حماية حرياته، بالمزيد من وسائل الدفاع عن حقوقه، تلك الحقوق الغالية التي اكتسبت مجتمعات الحداثة الغربية معاركُها التاريخية من دون بقية الاجتماع العالمي، عبر مراحل تطور عقلانية، انطلاقاً أولاً من إنزال السياسة من علياء اللاهوت الكنسي ومعه اللاهوت الملكي والإقطاعي. وإعادة شرعنة السلطة باعتبارها خياراً واجباً لإرادة أغلبية الناس.

هذه الأفضليات سيطلق عليها تسمية الحقوق المدنية. وهي التي ما إن تتأصل معانيها وإجراءاتها في المسيرة المجتمعية العامة حتى تفتح الطريق أمام الفصيلة الثانية من حقوق الإنسان، تحت مصطلح الحقوق السياسية. إنها تؤذن بميلاد السياسة العامة؛ معها لن تكون السلطة هبة علوية، ولا هي سليلة فروسية قروسطية. فالناس لن يظلوا محكومين دون أن يكونوا حاكمين أبداً. ومن ثم، وفي جولة ثالثة من التقدم’العقلاني’ سينخرط المجتمع التقدمي في عاصفة من التساؤل الجماهيري عما تعنيه الدولة، ولماذا هي الدولة، أي ما طبيعة هذه المؤسسة، ولماذا هي ما هي عليه. فبعد شرعنة المواطنة المدنية، وبعدها المواطنة السياسية، كيف لا يمكنها أن تبني عليهما طابقها الثالث الذي ستسكنه المواطنة الاجتماعية. فالدولة التي لم تعد ملكية خاصة للكاهن والسلطان وحراسهما من سلالات الفروسية البائدة والمرتزقة العسكريين، ثم أمست دولة المواطنة مع انتصار التحولات المدنية فالسياسية، لكنها توقفت طويلاً جداً أمام التحول نحو الثمرة العليا، قبل أن تعترف، وتقرّ بالجواب الأنطولوجي على السؤال الأزلي عن ماهيتها، بحيث تعيد تنظيم أجهزتها كلها على أساس أنها هي السلطة المتكفلة بالرعاية الكاملة لحاجات الناس الفردية والاجتماعية.

فإن مجتمع المواطنين الأحرار لن يكون مطابقاً لمصطلحه ذاك، إن لم يعش هؤلاء المواطنون الحياة الكريمة اللائقة بإنسانيتهم.

الحداثة السياسية هي الثورة العظمى التي تختصر أنبل ثورات التاريخ البشري. وإذا ما تبقى للغرب ما يمكن أن يُدرج في خانة تفوقه الحقيقي، رغماً عن كوارثه لذاته ولأكثرية حضارات الشرق، فهو أنه قدم البراهين الأصعب على واقع وإمكان أن تفوز إنسانيةٌ ما بثقافة الحرية لفكر وتاريخ معاً، وتحولها من معجزة شبه مستحيلة الإجراء بتحديها لمعظم مدنيات البشرية، من دون نجاحات حاسمة، إلى جملة مناهج واقعية عملية بفضل مؤونتها التراكمية من حصائل الحقوق الثلاثية المدنية فالسياسية فالاجتماعية. مع العلم أن هذه المؤونة لا تغلق حولها كل دارات المحاولة والخطأ. فهي التي لا تزال تطرح على أصحابها تحديات ما يُدعى بالواقع الناقص، الذي ليس له من مغانم ماضيه وحاضره إلا كل ما يدعوه إلى تجاوز ذاته نحو مستقبل لا ضمانة له إلا في المزيد من إبداع حقوق المواطنة غير القابلة للاستنفاد أبداً. 

نحن نأتي على هذه الأمثولات في ظرف عربي من صخب الرئاسيات المتصاعد في العديد من الأقطار التي بعضها غارق في دماء شعوبه كسوريا والعراق، وإلى حد ما في مصر، وبعضها الآخر موشك على السقوط في مهاويها كالجزائر. فالمحزن حقاً في هذه الواقعات وأشباهها هو أن الصراع العام الذي ساد النهضة الاستقلالية منذ سبعة عقود، كانت أفكاره وأحزابه وحركاته مشدودة دائماً نحو السلطة، ولم تكن لها ثمة نظرة موضوعية نحو الدولة، وبالتالي كانت قضايا الإنسان ومجتمعه غائبة أو عائمة في الكليشات الأيديولوجية، حتى وصلنا إلى عصر ثورات ‘الربيع′ المداهمة للجميع، بدرجات متفاوتة. 

أية رئاسيات في هذه الظروف لن تحدث فارقاً في ملامح الواقع القاهر. كذلك ستكون إجراءاتها ونتائجها تكراراً عقيماً لسابقاتها.

إن معظم هذه الألاعيب الفوقية تجري بمنأى عن المجتمعات التي لن تشارك مهازلها إلا بأقليات مهما تكاذبت أرقامها المزيفة مقدماً. هذا ما يفعله ويؤكده رؤساء قدامى أو جدد آتون، وهم أقل من القليل. فالثورات، أو مقدماتها، أو نتائجها الآنية، قائمة وضاجة.. وهناك أساطير عجيبة حول النيابات والرئاسيات. كأنما كل شيء ما زال هادئاً وطبيعياً، وإن كانت الزلازل لا ضابط لها، حرة ومندسّة تحت أقدام الجميع..

(القدس العربي)