قضايا وآراء

قراءة في نتائج الدور الأول لانتخابات المجالس المحلّية بتونس

يثبت للنظام في تونس أنه غير معني بالشرعية أو بالدعم الشعبي إلا صوريا- جيتي
في عالم نثري بائس يكاد يخلو من أية شعرية أو جمالية، يبدو أن الحاجة إلى الأغراض الشعرية ما زالت قائمة سواء عند أولئك الذين يمسكون بمقاليد السلطة أو عند خصومهم ومعارضيهم. ولكنّ الشعرية في الخطابات العامة تكاد تقترب من الصفر بحكم أسلوبها المباشر الذي لم يستبق من الشعر إلا "روح" أغراضه التقليدية، خاصةً منها الفخر والمدح والهجاء. فالجملة السياسية للسلطة التونسية هي جملة "بيانيّة" تكاد تخلو من أي ملمح برهاني أو حتى من التنسيب والشك المعرفي والتواضع الأخلاقي.

وليس حال المعارضة التونسية بأفضل من حال السلطة التي تكتسب هويتها السياسية من معارضتها. ورغم أنّ حكم "العامّة" أو إقناعهم (سياسيا ودينيا) يرتبط منذ القِدم بالبيان باعتباره أداة للهيمنة الأيديولوجية، فإنّ العقل السياسي الحديث المؤسس للدولة-الأمة يقوم أساسا على التخفف من البيان وعلى حمل الفاعلين الجماعيين على التنافس في إدارة الشأن العام؛ بخطابات/ مشاريع قابلة للضبط الإحصائي والمراقبة الجماعية والتمحيص العقلاني المؤدي للتبني أو للرفض الجماعيّيَن.

لقد اخترنا في هذا المقال أن ننطلق من المقدمة النظرية الواردة أعلاه لبيان "الهُوّة" بين الزمن السياسي "المعياري" الحديث (سواء أكان زمن الديمقراطية التمثيلية أم زمن الديمقراطية المباشرة)، وبين الزمن الواقعي الذي يتحرك فيه العقل السلطوي والعقل المعارض على حد سواء.

وليس يعنينا هنا تفكيك خطابات المعارضة الجذرية أو "المساندة النقدية"، وإنما يعنينا تفكيك منطق السلطة وبيان تناقضاته الداخلية ورهاناته الكبرى (استشرافه لمستقبله، نظرته للمعارضة وللموالاة، تحالفاته الاستراتيجية) انطلاقا من الاستحقاق الأخير في خارطة "التأسيس الثوري الجديد"، أي نتائج الدور الأول من انتخابات المجالس المحلية الممهّدة لإرساء "المجلس الوطني للأقاليم والجهات" (الغرفة الثانية لمجلس نواب الشعب).

لقد أصبح إجراء الانتخابات في حد ذاته مكسبا يستحق التباهي، وقيام أعضاء الهيئة بواجبهم (وهو واجب يتحمل كلفته المالية المواطنون الذين يدفعون الضرائب) أصبح ضربا من "التضحية". ولذلك فإن تدنّي نسبة المشاركة لا يعكس تقصيرا في عمل الهيئة ولا رفضا شعبيا للمشروع السياسي للرئيس، كما أن تراجع نسبة الحضور الأنثوي في الانتخابات (مقارنة بما يسميه النظام بـ"العشرية السوداء") لا يعكس تراجعا لدور المرأة في إدارة الشأن العام ولا يمثّل تهديدا لمكاسبها

يوم 26 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، وخلال مؤتمر صحفي أعلن السيد فاروق بوجعفر، رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات (وهي هيئة مثيرة للجدل من جهة استقلاليتها وحياديتها بحكم تدخل السلطة التنفيذية في تحديد تركيبتها) النتائج الأولية لانتخابات المجالس المحلية، وهي نتائج لم تختلف من جهة نسبة المشاركة عمّا سبقها من الاستحقاقات التي عادت فيها السلطة للشعب (الاستشارة الوطنية الإلكترونية، الاستفتاء، انتخابات مجلس نواب الشعب). فالنسبة الرسمية في هذه الانتخابات لم تتجاوز 84.11 في المائة من عدد الناخبين المسجلين، ولكنّ تلك النسبة لم تمنع رئيس هيئة الانتخابات من تحويل المؤتمر الصحفي إلى "قصيدة فخرية".

لقد أصبح إجراء الانتخابات في حد ذاته مكسبا يستحق التباهي، وقيام أعضاء الهيئة بواجبهم (وهو واجب يتحمل كلفته المالية المواطنون الذين يدفعون الضرائب) أصبح ضربا من "التضحية". ولذلك فإن تدنّي نسبة المشاركة لا يعكس تقصيرا في عمل الهيئة ولا رفضا شعبيا للمشروع السياسي للرئيس، كما أن تراجع نسبة الحضور الأنثوي في الانتخابات (مقارنة بما يسميه النظام بـ"العشرية السوداء") لا يعكس تراجعا لدور المرأة في إدارة الشأن العام ولا يمثّل تهديدا لمكاسبها. أما غياب الهايكا (الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري) وغياب المراقبين الأجانب فإنه لا يُمثّل أيضا أي مطعن في نزاهة الانتخابات أو في حيادية الهيئة المشرفة عليها، فمن اعتمدتهم الهيئة لمراقبة الانتخابات (أكثر من 5757 مراقبا) يكفون لإثبات شفافية النتائج وصدقها. وإذا ما علمنا بأن هؤلاء المراقبين هم جميعا من الحزام السياسي أو المدني أو الإعلامي لـ"تصحيح المسار"، فإننا نفهم علّة شكر رئيس الهيئة لشركائها الذين لا علاقة لأغلبهم بالانتخابات إلا زمن المخلوع (أي التحول إلى غرض "مدح" الكشّافة واتحاد الأعراف واتحاد الفلاحين واتحاد المرأة و"المنظمات الشبابية" باعتبارهم من "الصادقين" و"الوطنيين").

إذا كان خطاب رئيس الهيئة مفهوما، بل قابلا للتبرير باعتباره صادرا عن جسم وظيفي في خدمة السلطة التنفيذية، فإن صمت سدنة "النمط المجتمعي التونسي" ومن يسمون أنفسهم بـ"القوى الحداثية" يبدو غير قابل للتبرير، على الأقل من جهة ادعاءاتهم الذاتية قبل الثورة وبعدها. فأغلب الفاعلين المدنيين والنقابيين قد ارتبطت علة وجودهم بالدفاع عن حقوق المرأة والتشاركية وعدم التمييز على أساس "النوع الاجتماعي"، وغير ذلك من الشعارات التي حكمت الانتقال الديمقراطي ولكنها جعلته قابلا للتداعي بعد 25 تموز/ يوليو 2021.

لقد أثبتت نتائج هذه الانتخابات أن فرض التمييز الإيجابي للمرأة باعتباره مطلبا لكل القوى "التقدمية" ليس مطلبا شعبيا، ولا يعكس الواقع، ولذلك فإننا لا نرى في تدني نسبة الإناث ضمن عدد الفائزين بالمقاعد في الدور الأول من الانتخابات المحلية (فوز 128 أنثى مقابل فوز 1220 ذكرا) تهديدا لمكاسب المرأة، بل هو تعبير عن بنية اجتماعية حاولت أغلب القوى "الحداثية" القفز فوقها من باب إحراج "حركة النهضة"؛ ولكنها اصطدمت بقوة تجذرها  في كل الاستحقاقات الانتخابية التي احتكمت لمبدأ الواقع لا لمبدأ الرغبة (حتى في "القُرعة" التي أُجريت بين ذوي الهمم أو الاحتياجات الخصوصية الذين ما زالت السلطات الرسمية التونسية تسمّيهم "ذوي الإعاقة").

رغم نسبة المشاركة الضعيفة وطنيا في الانتخابات المحلية، فإنّ النتائج قد أظهرت تفاوتا كبيرا في نسبة المشاركة بين "مناطق الثروة" و"مناطق الفقر"، وهو معطى يجب عدم التسرع في تأويله لأنه يقبل التلاعب السياسي. فقد جاء في المؤتمر الصحفي للسيد فاروق بوجعفر أن أكبر نسبة للمشاركة كانت في ولاية سليانة ثم في ولايات زغوان والقصرين وسيدي بوزيد وتوزر، وهي ولايات داخلية مهمشة في سياسات التنمية وبرامج التحديث التي أشرفت عليها منظومة الاستعمار الداخلي منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. كما أن أعلى نسبة مشاركة في العمادات (العمادة هي أصغر قسم إداري في تونس) سُجّلت في ولاية باجة التي لا يختلف وضعها التنموي البائس (قبل الثورة وبعدها) عن وضع الولايات التي سبق ذكرها.

لو أردنا اختزال العقل السياسي التونسي إلى ملمحيه الجوهريين في الحكم والمعارضة، فإننا سنقول إن العقل السلطوي هو عقل "الغلبة" وسياسة الهروب إلى الأمام بادعاء التمثيل المطلق والنهائي للإرادة الشعبية. فنتائج الانتخابات لا تعني شيئا بالنسبة للنظام، الأمر الذي يُثبت أنه غير معني بالشرعية أو بالدعم الشعبي إلا صوريا، أما واقعيا فإنه ماض في خياراته مهما كان مقدار الرفض الشعبي لها

إن قراءة المعطيات السابقة هو أمر لا يمكن أن يكون موضوعيا بصورة مطلقة، فهي معطيات قابلة للتأويل بصور متناقضة؛ ذلك أن خصوم الرئيس قد يوظفونها لبيان ضعف شعبيته في الولايات الأهم في تونس (مثل إقليم تونس والساحل وصفاقس) وهي الولايات التي تحتكر أغلب الثروات المادية وتنتج أغلب الثروات الرمزية. ولكنّ أنصار الرئيس يستطيعون توظيف تلك المعطيات لبيان "ثورية" مشروعهم الإصلاحي الهادف إلى إعادة توزيع أكثر عدلا للسلطة والثورة، ولذلك فإن "أنصار" هذا المشروع سيكونون بالضرورة من المناطق المهمشة والمقموعة. ولكنّ كلا الموقفين يذهلان عن حقيقة أن الأرقام تتعلق بعدد الناخبين لا بعدد المواطنين، ومثلما ترفض السلطة مراجعة مشروعها السياسي على ضوء نسب المشاركة الشعبية، فإن المعارضة تذهل عن حقيقة أنّ العزوف الشعبي عن الانتخابات ليس "تفويضا" لها ولا تزكية لعودتها إلى مركز السلطة، بعد أن ثبت فشلها الذريع في إدارة المرحلة التأسيسية ومرحلة الانتقال الديمقراطي سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا.

لو أردنا اختزال العقل السياسي التونسي إلى ملمحيه الجوهريين في الحكم والمعارضة، فإننا سنقول إن العقل السلطوي هو عقل "الغلبة" وسياسة الهروب إلى الأمام بادعاء التمثيل المطلق والنهائي للإرادة الشعبية. فنتائج الانتخابات لا تعني شيئا بالنسبة للنظام، الأمر الذي يُثبت أنه غير معني بالشرعية أو بالدعم الشعبي إلا صوريا، أما واقعيا فإنه ماض في خياراته مهما كان مقدار الرفض الشعبي لها.

وفيما يخص العقل المعارض فإنه ما زال محكوما بالانتظارية ومنطق الإنكار (سواء في ذلك إنكار المسؤولية عما حصل قبل 25 تموز/ يوليو 2021 أو بعده)، وهو ما يجعله في حِل من البحث عن مكامن الضعف والعطالة في مكوّنات جملته السياسية ذاتها، أي في خياراته الكبرى سواء من جهة العلاقات البينية داخل مكونات المعارضة أو من جهة علاقته بالشعب وانتظاراته المشروعة بعيدا عن إملاءات اللّوبيات المالية والجهوية والأيديولوجية. وهو ما يرجّح بقاء منظومة الحكم الحالية (أي خيار التعامد الوظيفي بين المشروع الرئاسي والنواة الصلبة للحكم) بعد الانتخابات الرئاسية القادمة، ولكنه لا ينفي إمكانية تصدع ذلك التحالف الاستراتيجي بعد اكتمال المشروع السياسي للرئيس، وتغير موازين القوة بينه وبين حلفائه في النواة الصلبة للحكم ورُعاتها الإقليميين والدوليين.

twitter.com/adel_arabi21