ملفات وتقارير

مخيم جنين يواصل استنزاف الاحتلال.. "لا يعرف الراية البيضاء"

صورة لتشييع شهداء المجزرة الأخيرة بمخيم جنين- تويتر
مع كل جولة تصعيد بين الفلسطينيين والاحتلال في الضفة الغربية، تحتل جنين ومخيمها بالتحديد مكانا بارزا في مقاومة الاحتلال، والرد على اعتداءاته، سواء كان في التصدي للاجتياحات والاقتحامات، أو في خروج عدد من أبناء المخيم لتنفيذ عمليات بالداخل الفلسطيني المحتل.

وللمخيم تاريخ طويل في مقاومة الاحتلال، استمده من أهمية المدينة التي يقع فيها، وتعود إلى حقبة وصول الشيخ عز الدين القسام إلى فلسطين، ودعوته للثورة على الاحتلال البريطاني، ووقف مخططاته في تهجير اليهود إلى فلسطين من أوروبا ولذلك اختار جبال جنين، للتحصن فيها في ثلاثينيات القرن الماضي.


وسجلت جنين استشهاد القسام في أحراش يعبد التي دفن فيها، بعد ثورة دامت نحو 4 أعوام، ضد العصابات الصهيونية قبل إقامة دولة الاحتلال، وخسر في معاركها البريطانيون عددا من ضباطهم الكبار، أبرزهم الحاكم العسكري البريطاني للمنطقة آنذاك. 

كما لعبت دورا في وقف زحف الاحتلال الإسرائيلي بعد خروج البريطانيين، وكانت موقعا مهما لقوات الجهاد المقدس بقيادة الشهيد عبد القادر الحسيني، الذين تمكنوا من قتل المئات من جنود العصابات الصهيونية، خلال نكبة عام 1948، وتأسيس المخيم من قبل الثوار الذين قاتلوا في النكبة مع عائلاتهم وسكان المدن المحتلة، ولم تسقط المدينة إلا بعد 19 عاما في نكسة عام 1967.


الشهيد عبد القادر الحسيني مع عدد من قادة قوات الجهاد المقدس

إنشاء المخيم

سجل عام 1953 نصب أول خيمة في مخيم جنين، ضمن حدود المدينة، على مساحة تبلغ 372 دونماً، قبل أن يتسع إلى 473 دونما، وينحدر معظم سكانه من شمال فلسطين المحتلة، من الكرمل وجبالها، ومدينة حيفا، وقراها الأصلية، ولا يزال سكانه على صلة بأقاربهم داخل الأراضي المحتلة عام 1948.

ويلتصق المخيم بأكبر السهول الفلسطينية منطقة مرج ابن عامر، ويعمل الكثير من سكانه بالزراعة، وتأسس على قطعة أرض من قبل الأونروا استأجرتها من الحكومة الأردنية، إبان وحدة الضفتين عام 1952.




وبقي المخيم خاضعا لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي، منذ عام 1967، وحتى تسعينيات القرن الماضي، حين أنشئت السلطة الفلسطينية، وكان له دور بارز في مقاومة الاحتلال، خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، وقدم العديد من الشهداء والجرحى، وأعلن مرارا منطقة عسكرية مغلقة، وفرض الحصار على سكانه كإجراء عقابي اعتاد الاحتلال عليه.


لكن الحادث الفارق في مخيم جنين، كان عام 2002، خلال الانتفاضة الثانية، حين حاصره الاحتلال الإسرائيلي، من أجل إخراج المقاتلين منه، لكن الاشتباكات العنيفة سرعان ما اندلعت، بعد استعدادات كبيرة بداخله لصد هجوم الاحتلال.

واستمر القتال في المخيم لمدة 10 أيام متواصلة، منعت فيها سيارات الإسعاف والأطقم الطبية والإنسانية، والأغذية من دخول المخيم، وانتهت المعركة بداخله باستشهاد 58 مقاوما من كافة الفصائل الفلسطينية، واستشهاد 47 مدنيا، إضافة إلى 300 جريح، مع دمار لأبنية المخيم وتسوية العشرات منها بالأرض، في مقابل مقتل 50 جنديا وجرح 142، وإعطاء العشرات من الآليات والمجنزرات الإسرائيلية خلال المعركة.



وخلال السنوات الأخيرة، شهد مخيم جنين، مشاركة في أعمال مقاومة الاحتلال، ورغم الدمار الذي تعرض له خلال الانتفاضة الثانية، إلا أنه استعاد جزءا من قوته وتسليحه الخفيف عبر الفصائل فيه، على مدار سنوات، ونفذ عدد من أبنائه عمليات ضد الاحتلال، داخل الخط الأخضر مستفيدين من اتصال المنطقة بالأراضي المحتلة عام 1948.

وعاش مخيم جنين الأسبوع الماضي، على وقع مجزرة ارتكبها الاحتلال بحق أبنائه، بعد هجوم كبير أدى إلى استشهاد 10 فلسطينيين، خلال اشتباكات عنيفة دارت فيه.

إرث الأجداد

الباحث الفلسطيني فؤاد الخفش قال إن الإرث التاريخي للمكان والسكان ينعكس على الأجيال الجديدة، ومخيم جنين، حالة تغرس التاريخ النضالي للفلسطينيين، بشكل متواصل، في ظل أن الاحتلال لا يزال يمارس نفس الجرائم والانتهاكات القديمة.

وأوضح الخفش لـ"عربي21" أن "بطولات الأجداد، التي يرويها أبناؤهم لسكان المخيم، تشكل حكاية فلسطينية، ومن يخالط سكان جنين، يعلم أن حكايتهم اليومية الشهداء والأسرى والانتهاكات واعتداءات الاحتلال، بعكس بعض المناطق في فلسطين البعيدة نسبيا عن التماس المباشر مع الاحتلال".

ولفت إلى أن "وجود شخصيات تاريخية مرتبطة بجنين والمخيم، تغذي هذه الروح والحالة المعنوية تجاه مواصلة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، مثل الشيخ عز الدين القسام والثوار الذين كانوا معه، ومكان استشهاده، هذا إضافة إلى المعاناة اليومية نتيجة الحواجز وتنغيص حياة الفلسطينيين من قبل الاحتلال".

وقال إن بعض العائلات في المخيم "لها تاريخ نضالي منذ الثورة الأولى، واستمر هذا مع أبنائهم، وأصبح الأمر علامة بارزة لهم، وكأنها وظيفتهم مقاومة الاحتلال، لذلك يبرز هذا الطابع النضالي في مخيم جنين بصورة واضحة"، مضيفا "المكان بحد ذاته كمخيم وشكل أزقته، له طبيعة خاصة تسهل على أبنائه الاحتماء من هجمات الاحتلال، وتكاتف سكانه، في حماية الفصائل والمقاومين بشكل عام، بصورة مميزة عن باقي الضفة الغربية".

وشدد على أنه "لنجاح مقاومة الاحتلال، أنت بحاجة لعاملين، الحاضنة الشعبية، والمكان الجغرافي، وهذان متوفران في مخيم جنين ونابلس والجميع شاهد محاولات التصدي للاحتلال خلال السنوات الأخيرة".

تجاوز خلافات الفصائل

الصحفي الفلسطيني وأحد أبناء مخيم جنين علي السمودي، قال إن استمرار مخيم جنين في مقاومة الاحتلال، يرجع إلى محاولات الاحتلال قتل طموح أبنائه في العيش بكرامة والتخلص من عمليات القتل والاعتقال اليومية والتهميش ومعانات السكان كلاجئين.

وأوضح السمودي لـ"عربي21"، أن مخيم جنين، على الرغم من كافة الأحداث والاعتداءات الفظيعة التي ارتكبها الاحتلال بحق سكانه، إلا أنه "لا يعرف رفع الراية البيضاء، لأن حلم السكان بحق العودة والتخلص من الاحتلال والمستوطنين، أكبر من كل ما يواجهونه من عمليات عسكرية ربما لو واجهها شعب آخر لاستسلم منذ زمن بعيد".

وأضاف: "الضغوط الرهيبة من طرف الاحتلال، اقتحامات الأقصى، والاعتداءات المتواصلة على غزة، تدفع الشباب للبحث عن سبل للتخلص من هذا الواقع الرهيب الذي يتسبب به الاحتلال، رفع الفاتورة الكبيرة التي تدفع".

وتابع: "الجميع يعلم ما حدث في جنين عام 2002، وكيف أن المخيم تعرض للدمار، وحتى جرى تجريف مساحة كبيرة بداخله تعادل ملعب كرة قدم بجرافات شارون، لكن رغم ذلك استعاد عافيته بأبسط وسائل مقاومة الاحتلال، وتحدى الظروف، لمنع التغول على الفلسطينيين، وعدم السماح للاحتلال بالتمادي في جرائمه".

وشدد على أن سكان المخيم "تجاوزوا الخلافات الفصائلية، والجميع لديه قاعدة أن مصلحة الجميع وسكان المخيم أولا في مقاومة الاحتلال، لذلك الخلافات شكلية أمام هجمات الاحتلال، والخاضنة الشعبية تقدم الدعم للمقاومين فيه بغض النظر عن الانتماءات الفصائلية".