كتاب عربي 21

كرة القدم: كَانَ الكأس مجْراهَا اليمينا

تستحوذ كرة القدم على اهتمام العالم- CC0
المقدّس صناعة إلهية المنشأ، ويقرّ الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس في رواية "المسيح يصلب من جديد" بتلك الصناعة لكنه يقول بالتوزيع البشري لتلك الصناعة، إنَّ رجلا ادّعى أنه عثر على نطاق المسيح، فسارع الناس إلى لمسه والتبرك به، حتى غدا مقدساً من كثرة المتبركين به بأكفّ الضراعة وقلوب الرجاء.

كأس العالم لكرة القدم أكبر جائزة صنعها الغرب، شربَ منها -والعين تشرب بالنظر- هذه الدورة خمسة مليارات من البشر العطاش طلبا للمتعة والبركة والرواء، وهي أشهر من نوبل بفروعها العلمية والأدبية، وأجلُّ من صنم الأوسكار السينمائي الذهبي، وهي تعويض عن كأس المسيح المقدسة في العشاء الأخير، وهي كأس تنسب لها قدرات إعجازية في العقائد المسيحية. وقد ذُكرت أسطورة الكأس في رواية روبرت دي بورون "يوسف الرامي"، ظهرت  في أواخر القرن الثاني عشر عقب الحروب الصليبية، وربما ارتبطت بالسيف المقدس، الذي زعم الصليبيون أنهم عثروا عليه تحت أسوار أنطاكية، واتخذوه علامة من السماء لغزو العالم الإسلامي والعالم المسيحي الأرثوذكسي، وربما صارت الكأس لوحاً أو طبقاً أو كوباً في بعض القصص والأساطير. أسطورة الكأس هي موالفة بين العقائد المسيحية والأساطير الكلتية. والكلت هم أقدم عرق سكن الجزيرة الإنجليزية.
الثاني عشر عقب الحروب الصليبية، وربما ارتبطت بالسيف المقدس، الذي زعم الصليبيون أنهم عثروا عليه تحت أسوار أنطاكية، واتخذوه علامة من السماء لغزو العالم الإسلامي والعالم المسيحي الأرثوذكسي

كان البحث عن الكأس المقدسة أهم مغامرات فرسان الملك آرثر، وهو ملك أسطوري جمع بين العدل والفروسية، وكان هناك مقعد مخصص على طاولته لمن يعثر على الكأس، اسمه سيج بيريلوس (Siege Perilous)، أو المقعد الخطير، وكان من إمارات نهاية مملكة آرثر أن يتم شغل هذا المقعد حتى تكتمل الدائرة. كثرت القصص عن الكأس، والاقتباسات الروائية والسينمائية حتى أنّ بعضها يتناقض مع الآخر. من القصص التي تروى حولها أنَّ الفارس غاوين أخفق في مسعاه للحصول على الكأس التي يزعم أن بها ماء الشباب، وفيها جُمع دم المسيح على زعم الرواة.

أخفق الفارس الذي لا يهزم لانسلوت، وهو أحد فرسان المستديرة الآرثرية بسبب علاقته المحرمة مع جينفير زوجة آرثر. ويظهر أن القصص الأولى قد جعلت غاوين بطل الكأس. ولعل فيلم "الفارس الأول" الذي مثّل فيه شون كونري دور الملك آرثر، وريتشارد غير دور لانسلوت، أحد أهم الأفلام عن الكأس المقدسة، وإن لم تذكر فيه، وهي قصة حب وخيانات زوجية تُكسى بغشاوة من الفضائل، فالمرأة هي جائزة كل سباق غربي، وهي ضحيتها أيضاً. الظنُّ كل الظنِّ أن كأس العالم بها قبس من الكأس المقدسة، بل هي وريثتها. يجب أن نذكر أن كرة القدم بدعة إنجليزية.

كرة القدم لعبة غرامها غرم، وهي الأولى في العالم، لتمثيلها الحرب على ملعب أخضر من غير دماء ظاهرة للعيان، بينما تقول الأرقام إن الأموال التي تصرف عليها فرع من العرق والدماء، وهي أموال كثيرة، قد تعيش بها شعوب، وتحيا بها أمم، يستحوذ عليها نادٍ رياضي وحفنة من تجار الحروب الصامتة. ومن جاذبيتها أن دعاةً مسلمين وفقهاء وأئمة شرعوا يبحثون عن فتاوى تبرر حبها، وتبشر بها على طريقة الكنائس الغربية، اقترابا من الشباب المتيم بالكرة ونجومها، بل إنَّ قارئاً من بلاد الحرمين غرّد بالأمس في حبِّ القائد الكرّار الذي طارت بذكره الأخبار، الفارس ميسي المغوار، الذي يمثل دور لانسلوت في كأس العالم، بينما يلعب جياني إنفانتينو دور الملك آرثر. وسوّغ القارئ الشهير، الذي يأخذ كثيراً من شهرته من قربه من الحرم المكي، موالاة ميسي في أن الدعوة لانتصار الأرجنتين يفضي إلى نصر السعودية التي غلبت الأرجنتين ذات مرة (Once Upon a Time) في الدوحة! لقد أصيب الجميع بخوارزمية كرة القدم الآسرة الساحرة، ومن نجا منهم أصابه غبارها.

الجدير بالذكر أن الانتحار أخذ طريقا في البلاد الإسلامية بسبب الجوع والظلم، وانتشار اليأس وانغلاق سبل الحياة، مما جعل دعاةً مسلمين وفقهاء يبحثون في إصدار فتاوى تخفف من التخويف الشديد الذي ينتظر المنتحر في الآخرة، فهذا من ذاك.

ومن طرائف الملاعب الخضراء الظاهر، الحمراء الباطن، أنَّ سدنة الكرة وخدامها يحرّمون على اللاعب خلع قميصه في الملعب، ويعاقبونه بالطرد، بينما يدعون إلى المثلية الجنسية. غالباً ما تحفّ المباراة إعلانات تجارية باهظة التكاليف عن المشروبات والأحذية والأمتعة الأخرى الكثيرة. فهي سوق عكاظ الغرب، أما الخيمة التي تنصب للنابغة السويسري جياني إنفانتينو فهي من ذهب!

ذكرت الأخبار أنَّ الكرة، وهي رقعة من جلد محقونة بالهواء تحت الشرطيين النظاميين، قد طعمت بلقاح وشحنت بتعويذة إلكترونية خفيفة الوزن، تجسساً عليها، وتربصاً بأحوالها، وهواجسها ووساوسها! وهي كرة تركل بالأقدام، لكنها مقدّسة، ففيها أثر من الأسطورة القديمة. كرة عوراء ليس بها سوى عين وحيدة، تتزود منها بالنَفَس، لكنها تحبس الأنفاس. وهي كرة إفرنجية المهد، فلن يفوز بها قط عرب أو مسلمون، أمّا في بلادنا، الشمّاء طبعاً، فيلحق بالكرة فهود يوصفون بأشجع الأوصاف وأكرمها مثل أسود الأطلس ونسور قرطاج وشبيحة الأسد (هذا تزيّدٌ من لدنّا)، وقد يضطرون الكرة إلى شباك مرمى العدو، أما من يفترسها، فهو السيد الرئيس الهدّاف، السيد الضبع، أقوى الحيوانات فكّاً في الغابة العربية.

كرة القدم لعبة غرامها غرم، وهي الأولى في العالم، لتمثيلها الحرب على ملعب أخضر من غير دماء ظاهرة للعيان، بينما تقول الأرقام إن الأموال التي تصرف عليها فرع من العرق والدماء، وهي أموال كثيرة، قد تعيش بها شعوب، وتحيا بها أمم، يستحوذ عليها نادٍ رياضي وحفنة من تجار الحروب الصامتة. ومن جاذبيتها أن دعاةً مسلمين وفقهاء وأئمة شرعوا يبحثون عن فتاوى تبرر حبها

قد يبرز في فروسية الكرة، كرّاً وفرّاً، إقبالاً وإدباراً، فرسان أمثال المصري محمد صلاح، الذي صار اسمه "مو"، وينطق باللغة الإنجليزية وهو يتحدث مع مذيعة تحاوره بالعربية، أو الكاميروني في الفريق السويسري أمبولو الذي سجل هدفاً على فريق بلده، فأحسَّ بالخزي، أو اللاعبين السمر الأفارقة الذي يلعبون في الفريق الفرنسي لصالح المستعمر الذي يستعمر بلادهم ويسرق ثرواته.

يقول المؤرخون إنَّ الغزاة الهولنديين اشتروا جزيرة مانهاتن مقابل حفنة من الخرز والكلل الزجاجية، تعادل 24 دولارا، لكن آخرين يصوبون الصفقة ويقولون إنها كانت تعادل 700 دولار! مهما يكن فقد كانوا يلعبون وهم يغزون، لقد أبادوا ملايين من رؤوس البيسو وهم يطلقون عليها النار، أما الهنود فقد انقرضوا لأنهم غشّوا الهولنديين وباعوهم جزيرة بثمن أعلى من سعرها الحقيقي!

نظنًّ أنها لعبة، وهي كذلك إن فزنا، أما إن خسرنا، ونحن خاسرون لا محالة بكرة ليست كرتنا، فهي ليست حرباً حقيقية وحسب، وإنما استبدال للعقائد والأديان، ولكن لا تبصرون.

قد يقول قائل متفائل: انظر إلى الصلوات الجماعية في المساجد حول الملعب، وسيأتيك من لم تزود بالأخبار فيقول: صلاتكم خمس دقائق، ومصلوكم لا يجاوزون المائة، أما صلاتنا الجماعية في الملعب فمدتها ساعة ونصف ويبلغون مئات الألوف، مفتي الديار الكروية هو جياني إنفانتينو، والمؤذّن هو رونالدو، والإمام هو ميسي.

twitter.com/OmarImaromar