قضايا وآراء

التباس النخب في معاني الرأي والرأي العام

1300x600
الرأي:

عندما تتحدث وجمع من الناس سيتردد على مسمعك "هذا رأيي، واحترام الرأي واجب، والخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية"، كلام يقارب الترديد بالتقليد، فأكثر الناس تعبر عن رد الفعل وانطباع عن موقف ما بالرأي بينما هذا ليس رأيا، فالرأي يتكون عندما تكون عندك بوابات نقد تحمل صفة تفكير النقد.

والنقد ليس معناه الانتقاد حتما، أي تبيان المساوئ، بل النقد كتبسيط لمعناه هو عرض الإيجابيات والسلبيات لأي فكرة، وحقيقته أنه عرض الإيجابيات والسلبيات ليس من وجهة نظرك وحسب، بل من وجهة نظر من يطرحها كحجج منطقية متشكلة بعد تفكير يظن من فكر أنه تفكير عميق. وهذا يعتمد على آليات التقييم والقيم الحاكمة إن وجدت، عندها سيتحول انطباعك عن الموضوع بما قد يخالف ما تكوّن أول مرة إلى رأي. وهذه النتيجة خالية من الأنا، وإنما هي عملية علمية عقلية بحتة، لهذا فهي لا تفسد الود لأنها لا علاقة لها بالود واحترام الرأي كمخرجات تفكير علمية، ويرد عليها بمخرجات تفكير عقلية وليس بالتسفيه أو التقليل من شأنها، وهذا ما يعنيه احترامها.

والرأي مهم لأنه يعتبر ركيزة تتحول كحقيقة موثوقة علميا ما لم تُدحض بالتجربة والبديل، عندما تدخل التجربة ومعترك الصراع السياسي أو الاقتصادي وتنجح لـ"زمكان" ما. لكن الرأي ليس موقفا عقديا أو قيميا، وإنما هو من مخرجات التفكير بالدليل العلمي، وإن كان يتحد مع البحث العقلي الاستقرائي والاستنباطي، لكنه أساس علمي لا يعتبر ولا يؤدي إلى ثوابت أو مواقف حدية لا تقبل الجدل والتراجع. وإدراك هذه التفاصيل مهم لأن ما يجري في واقعنا من مآس هو الذي يتعلل به الفاشلون بالثبات على الموقف باعتبار رأيهم موقفا، وهذا ليس صحيحا وفق ما ذكرنا.

الرأي العام:

الرأي العام هو انطباع وإيحاء بالرأي وإقناع بالتعامل مع الغرائز والحاجات من أناس يجيدون هذا بأساليب علمية، أو مخاطبة تلك الغرائز مباشرة لاستحصال رأي عام مؤقت لفترة مؤقتة حول قضية أو حزب أو أمر يحتاج إلى دعم للثبات في سوق السياسة والاقتصاد. بالعموم هو رأي يتشكل عند عامة الناس أو رأي شعبي غالب، وفيه عدة أنواع تعتمد على منطق الاستقبال للفكرة والرأي أو ما يمكن أن يكون كرد فعل، وقابلية الناس على رد الفعل أو العمل الإيجابي. وقد يكون رأيا عاما دوليا يستقطب لفكرة يقودها طرف ما دفاعا عن قضية تهم البشرية أو يكون لها زرعا في الاهتمام الدولي وحصادا للنتائج، ويمكن أن يتكون نتيجة التقاء المصالح المتعددة في الانحياز لرأي أو فكرة.

أنواع الرأي العام:

الرأي العام ما بين ظاهر وباطن يعتمد على قوة وفاعلية الحراك الشعبي لإبراز أو إخفاء الرأي خشية إظهاره، وهو غالبا ما يكون عند شعوب العالم المتخلف متدنيا بغياب معنى الدولة، وإن كان فيها تراتيب ومسميات إدارية، وليس من الغرابة أن يصرح اثنان في لقاء واحد برأيين متناقضين وكل يصر على أنه يعبر عن رأي الجمهور بل عموم الشعب.

وهناك الرأي العام السلبي وهو في وجهين؛ إما تلقي الأحداث والمطروح بالانسياق وراءه بحثا عن مصلحة مرتجاة، أو اتخاذ جانب الانتقاد بلا أية دراسة أو أفكار بديلة وإنما رفض كل شيء إما كرها بالمقابل أو عجزا عن تقديم حل، أو الرغبة بالسعي لتحقيق المطلوب، أو قبول كل شيء نتيجة الجهل والأمية أو المعتقدات المتخلفة والتي تخاطب غريزة التدين سواء كانت دينا أم لم تكن، فهي تدخل في باب التقديس وغالبا ما يكون هذا في مجتمع مفكك يغلب عليه قصر النظر وأحادية النظرة والركض وراء متطلبات الغرائز والحاجات. وهذا مجتمع ميت يتنفس ويمكن أن يكون وقودا لأي مغامر أو دجال، أو صراعات عبثية من أجل رفض الآخر.

الرأي العام قد يكون ليس بحثا عن الحقيقة وإنما المصلحة، ومحكوم بالجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والتشابه في النظم بين الدول.

معظم الأمور التي ترتكز إلى غير الفهم هي توافقات مؤقتة ومشاريع بركانية خامدة محتملة الثورة في أي وقت، فرأي الأغلبية تجاه فكرة اقتصادية أيا كان هو تجاهل لحقيقة عند الأقلية قد تكون أنجع فعلا، والتوافقات هي تحييد لمشاكل فاعلة لكن دون إطفائها.

أين النخب؟

إن كنا نعني بالنخب كتلة التأثير فهي حاضرة دائما لأنها من يصنع المشهد، غوغاء أم رعاعا أو نبلاء حملة الفكر والقلم ونظريات الاقتصاد والسياسة.

أما إن كنا نعني النخبة الإيجابية في المجتمع السلبي أو المفكك وفق ما وصف سابقا، فإن هذا لا يعني الطبقة المنتقدة المتذمرة السلبية والتي تلقي عجزها على الجمهور، ولا يعني الإيجابية المتفاعلة مع الواقع لتعضيده، ولا السلبية المتفاعلة مع الواقع في تعطيله بإضرار البلاد والعباد.

ولعل المفكرين هم الأسوأ حظا عندما يظنون بأن النخب يمكن أن تُصنع من خيالهم أو فيه، فيخططون لها أمورا لا يمكن إلا أن تكون جهدا عبثيا يعبر عن هفوة فيلسوف أو مفكر وهذا الأمر يحصل تكرارا.. فلا يمكن أن تكون الأدوات الفاسدة منارات إصلاح وإن تمكنت فهي تتمكن لتفسد، ولا يمكن أن يكون العاجز قائدا لأنه لن يأمل أكثر من كرسي يرضي غروره.

النخب التي نعني تضع الآليات وسبل إدارة الأزمة، ليس تبريرا وإنما وفق تخطيط وتدبير لقيادة الواقع نحو ما يحبه الشعب ويصمت عنه، وللأسف هذه النخب شحت مع الزمن وغلبة المصالح والغرائز على النخب نفسها، فتصطف في الجانب السلبي من مصلحة الجمهور لأنها لم تعد تبني على علم وإنما يغرها أن يتجمع الناس وهي تقرع كالطبول.