كتاب عربي 21

سباق الشعوب والرؤساء في المعالي والمكرمات

1300x600
تخاصمنا في أكرم الخلق خلقا، وأكثرهم فضلا، وأوسعهم بذلا، فقال قائل: إنه العربي، وقال ثانٍ: إنه الروسي، وقال ثالث: هم أهل بورما، وأدلى وارد كل فريق دلوه، وأبرز شواهده. ذكر الأول فضائل العرب وأمثالهم في الكرم، وأشعارهم في الفضل والعطاء والبذل والسخاء، فضربوا الأمثال بكرم حاتم الطائي، وجفنة عبد الله بن جدعان، وطلحة بن عبيد الله، وكرامهم كثير. وقلما ساد في العرب بخيل، فالكرم من أشرف خصائل السؤدد والعلا.

وقال الثاني إنَّ الروسي أكرم من مشى على المدحية، يزوره الضيف، فيذبح له خنزيرا، ويرويه من الفودكا، ويدفع بابنته لتروي له حكاية النوم، فأي كريم أكرم من الروسي.

وقال الثالث: إنَّ الفرنجة أرحم الناس على ضعيف ومسكين ويتيم، بدليل قول عمرو بن العاص في حديث شهير عن المستورد القرشي.

اخترع الغرب موازين للمعاني وقياسات للفضائل، مثل مؤشر السعادة، ومؤشر الكرم، ومكاييل للذكاء، وجعلوا لها مراكز بحث وأندية تفتيش، ومنها مؤشر يخصُّ قضيتنا، اسمه "مؤشر العطاء العالمي"، وجعلوا للعطاء العالمي ثلاث علامات هي؛ التبرع والبذل، والعمل التطوعي، وإغاثة المحتاجين. ووجدوا أنَّ زعماء أمريكا هم أكرم الزعماء قاطبة، وبلغ من كرمهم وفضلهم أنهم تبرعوا بقنبلتين نوويتين للشعب الياباني، وقنابل يورانيوم مخصّب للعراق، وأنشأوا من أصل مالهم ما ينوف على 800 قاعدة عسكرية في بلدان الأرض، تقتل وتغتصب ثم تتأسف على القتل والاغتصاب أحيانا. وورد في إحدى القوائم السنوية أنَّ البلدان الفقيرة هي من أكرم الدول وأرحمها، وأبرّها بالناس!

فهم في أمر مريج.

واجتمع الرأي على أنَّ العرب قديما وحديثا، ورئيسا وأميرا أيضا، هم أكرم الخلق طُرّا، ولهم في ذلك مصنفات قديمة وأسفار ملأت المكتبات، ولونّت الأنهار بحبرها، وقصائد بعشرات الألوف من الأبيات دُبّجت فيها فضائلهم، حتى أنهم جعلوا اسم الكرمة -حبلة العنب- اسما للندى، فأكرم العرب من جاد بعقله على الخمرة، وليس أغلى من العقل.

وهم أشفق الناس على الضعفاء والمتروكين وذوي العاهة والعاقة، بل إن العرب المعاصرين أمّروا عليهم أقلهم عقلا، وأوهنهم رأيا، وأضلهم سعيا، مثل عبد الفتاح السيسي، وقيس سعيد، وعبد المجيد تبون، وبشار الأسد، ومن كرم زعمائهم وملوكهم أنّ ولي العهد السعودي تبرع بالأمس بنحو نصف مليار دولار لأوكرانيا البعيدة، التي لا تمت إلى العرب بصلة سوى صلة الإنسانية، ولا تصل المسلمين برباط سوى الآدمية، فأنعم به وأكرم.

وكانت سوريا الجريحة المنكوبة، بالتبرعات أولى، وكذلك باكستان التي شردت الفيضانات من شعبها ما يعدل شعب العربية السعودية عددا، في العراء، وهما دولتان مسلمتان، وإحداهما عربية شقيقة. وبيان ذلك أن السعودية تؤثر على نفسها أو على أخواتها الأباعد، ولو كان بها خصاصة، وكانت قد تبرعت لإيفانكا بمائة مليون دولار، عملا بالمأثور النبوي؛ رفقا بالقوارير، وقوله "ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم".

أما الخصاصة فهي في شكاوى أهل الحرمين، فلا يمضي يوم إلا ونرى أحد رعاياها يتذمر من ارتفاع أجور الكهرباء، أو ضابطا يشكو تأخر راتبه بالشهور، وهي بلاد غنية.

أما مصر، فهي أكرم وأفضل، فقد موّلت سد النهضة الذي يحجز نيلها، وأكرمت عدوتها إثيوبيا، ودعت رئيس وزرائها إلى قمة المناخ. ولا ننسى أنها ترزح تحت ثقل الديون وتقبع تحت الجسور، كما أنها تبرعت وهي في هذه المحنة، بطائرة شاحنة من الكمامات والأدوات الطبية لإيطاليا، وريثة روما العظيمة، فأي كرم يبلغ هذا الكرم.

بل إنّ سوريا نفسها التي تعاني ما يعجز عن وصفه القلم، تبرعت لأوكرانيا، فمن يسبق سوريا ورئيسها في محاسن الأخلاق وكثرة الإنفاق.

وقد اجتمع الزعماء العرب المصابون بالتوحد في قمة الجزائر، استشفاء لأمراضهم، في الموعد، من غير نسيء أو تأخير، فتعاونوا على البرّ بالعدو، والتقوى من الشعوب، وبرزت منهم فضائل مثل التواضع والزهد في الظهور والاستعراض، فأوفد بعضهم من يمثله من السفراء أو الوزراء، تقليلا لمصاريف السفر، وحرصا على أموال الشعب، ففرشت لهم السجاجيد الحمراء، حرصا منهم على حيوات الدواب الصغيرة مثل النمل والذرِّ من الدوس بالأقدام!

ويزعم خبراء في علوم النفس والأمراض السلوكية، على تشخيص أمراض الرؤساء العرب النفسية، ووجد كاتب السطور أن كثيرا منهم يعاني من مرض التوحد، سوى الهرم والشيخوخة. وكنا رأينا الرئيس الجزائري الراحل يُدفع على كرسي العاجز، وقد أدلع لسانه، وشخص بصره، وبانت عظامه، فتكاد أن تولي منه فرارا، وتمتلئ منه رعبا، فسبقت الجزائر السعودية في الاحتفال بعيد الهالوين! وقيل إن الرئيس المصري سبق الاثنين بنشر مومياوات الفراعنة من قبورها، فهالوين مصر أسبق من هالوين الجزائر وهالوين السعودية.

فهذا مزاح الرؤساء وهذه دعاباتهم!

عدنا إلى التخاصم في أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا، الشعوب المغلوبة على أمرها أم الزعماء المصابون بالعاهات العقلية والآفات الجسدية؟

رأينا الرؤساء يعمرون السجون ذات النجوم والخدمة الحسنة، فهي إصلاح وتهذيب، ويقترون على شعوبهم من أجل ضيوفهم، ويهمّون في أكثر من عاصمة بالدعوة إلى الجهاد والحرب ضد أشقائهم، فما قعد قوم عن الجهاد إلا ذلوا، مثل رئيس الجزائر الذي يناصر الصحراويين ضد المغرب، والسيسي الذي يناصر حفتر ضد الدبيبة، والأسد الذي يناصر نصر الله ضد السنّة، بينما يصرُّ الفريق الثاني أنَّ الشعوب أكرم من رؤسائها، فقد ولت عليها رؤساء وأمراء إما وافدين مستعربين، وإما هجناء أو مذرّعين. والهجين من كان أبوه كريما وأمه خسيسة، والمذرّع من كان أبوه خسيسا والأم كريمة. بل إنَّ صحافيا إسرائيليا يزعم أن رئيسين يحكمان دولا عربية -على الأقل- هم من بني إسرائيل. فأي كرم أكبر من كرم الشعوب العربية التي ولت أبناء أعدائها في ذروة "البيت الشريف المصمّد"؟

ومع كل هذا الظلم والجوع، والعسف والضرّ، تشفق العرب على رؤسائها المساكين وترفق بهم، وتصبر على عيّهم وعجزهم، ونسيانهم وخلطهم، وهذيانهم، وركاكة أحاديثهم، وحنثهم بوعودهم، وحبسهم أبناءهم واستحيائهم نساءهم.

ليس أبرّ من الشعوب العربية وأصبرها على أذى رؤسائها وسفههم. وليس أندى من شيوخها ودعاتها الذين يدعون للرؤساء بطول العمر، وسدادِ الخطا، وأندى من مطربيها الذين ينشدون لهم الأناشيد.

وبلغ من كرم أعلامها ومشاهيرها، دعوتهم الحكام إلى إخراس أصوات المؤذنين الداعين إلى الفلاح حرصا منهم على راحة السيّاح، والسائح أقل من الضيف منزلة وأدنى واجبا. وكان مليونير مصري قد بادر إلى عرض جمال المصريات من أجل السياحة و"الزفر" في الجونة، فخشينا أن يبلغ بهم الكرمُ كرمَ الروس في الدعوة إلى رواية حكاية النوم للسائح المسكين الذي يبغي الراحة والنجعة في بلادنا من أثقال أضواء المدينة!

twitter.com/OmarImaromar