تقارير

الشاعر منيف الحسيني.. مثقف أخذته السياسة من أجل فلسطين

منيف الحسيني ترعرع ليكون له دور في الحياة السياسية والثقافية الفلسطينية

كانت العائلات السياسية الفلسطينية الكبرى ثلاث عائلات (الحسيني، النشاشيبي، الخالدي)، تميزت بالمستوى الثقافي العالي، غير أنها في أواخر العهد العثماني فضَّلت أن تتّجِه إلى السياسة، فتميّزت كل عائلة في العهد العثماني بصفة معينة جعلتها تتنافس على القيادة السياسية، كالتديّن والإفتاء في آل الحسيني، والقوة المالية في النشاشيبي، والإدارة والتعلم في الخالدي. فاهتموا بالثقافة كغذاء فكري وتراث عربي ومكملات تساعد أفراد الطبقة الأرستقراطية والبرجوازية على تصدّر المجالس. غير أن بعض الفلَتات هنا أو هناك حصلت، فأخرجت منها نوابغ في المجال الثقافي والأدبي، كإسعاف النشاشيبي وإسحاق موسى الحسيني وروحي الخالدي.

المناضل والشاعر منيف الحسيني، لم يكسر ما اعتادته العائلات الكبرى، ورأى أن دوره في النضال السياسي سيخدم القضية والهوية الفلسطينية أكثر من احتراف الشعر، رغم أنه لم يبتعد عنه كثيراً إلا أنه لم يترك ديواناً أو كتاباً أدبياً، واقتصر إنتاجه على المشاركة في الاحتفالات الوطنية والعربية لدعم القضية الفلسطينية.

بداياته

لم تكن بدايات منيف الحسيني بسيطة، بل ترعرع ليكون له دور في الحياة السياسية والثقافية الفلسطينية. كان والده محمد عارف الحسيني مديراً لدائرة التسجيل في يافا، حيث ولد شاعرنا عام 1899، ثم انتقل إلى نابلس وأمضى ست سنوات فيها، وأنهى المرحلة الابتدائية من دراسته فيها. ترعرع في كنف والدٍ أديب وشاعر، فتح دارَه بعد تقاعده في القدس للعلماء والشعراء، فنشأ منيف بينهم، ليشهد حواراتهم ويغوص في مكتبة والده ينهل منها ما يشاء.. وكان في المرحلة الثانوية يجالس في دار والده نخبة المثقفين مثل المفتي محمد كامل الحسيني والشاعر علي الريماوي وعلي جار الله والمعلم اللغوي نخلة زريق (راجع مقالنا عنه)، الذي تعهّده بالتربية والتدريب اللغوي واستظهار بعض القصائد والمقطوعات.

 



في الحرب العالمية الأولى عُيّن مديراً للمدرسة الابتدائية في المكتب السلطاني، ثم دخل المدرسة الزراعية في القدس، لكنها أغلقت بسبب دخول اللنبي والقوات البريطانية. ولم يكن للفلسطينيين في مواجهة الوضع الجديد أي كيان تنظيمي، فتشكلت الأندية والجمعيات والهيئات الإسلامية والمسيحية، وسرعان ما انخرط في العمل السياسي وشارك في عقد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول وأصبح عضواً في لجنته التنفيذية. وشارك في تأسيس "النادي العربي"، وسعى مع إخوانه إلى فتح معهد "روضة المعارف" الذي كان له دور كبير في دعم الحركة الوطنية وتوجيهها.

علّم منيف في "المدرسة الرشيدية" و"المدرسة المأمونية" في القدس، ثم عاد إلى متابعة دراسته الزراعية، ولكن هذه المرة في الغوطة في سورية. وعاد مديراً للمدرسة الزراعية في طولكرم.

بعد سنة من إدارة المدرسة، كان أهم قرارات منيف الحسيني، أنه رأى أن الوضع لا يتحمل أن يبقى في الوظيفة، فآثر العمل الحر، وانصرف للحقل الوطني، والتدريس في معهد "روضة المعارف". وتفرغ هنا للعمل السياسي، وأسس في مطلع عام 1927 جريدة "الجامعة العربية" التي كانت لسان الحركة الوطنية في وجه الاستعمار البريطاني، وكتب فيها كبار الكتّاب العرب مثل أمير البيان شكيب أرسلان وغيره. واستمرت تسع سنوات حتى أغلقتها سلطات الانتداب عند اندلاع الثورة الكبرى عام 1936، واعتقلته مع عدد من السياسيين.

خرج من السجن عام 1937، وقصد القاهرة في مهمة وطنية تهدف إلى تحشيد الدعم العربي والإسلامي لدعم القضية الفلسطينية، من خلال التواصل مع السياسيين والكتّاب والصحفيين والناشطين. وتبنّت "جمعية الشبّان المسلمين" في القاهرة عمله وأصدرت النشرات والمطبوعات لتوزيعها في أنحاء العالم.

انتقل إلى لبنان ليلتحق بالحاج أمين الحسيني عام 1939، بعد مضايقات البريطانيين لهم، لكن القوات الفرنسية بدأت باعتقالهم، فغادروا إلى العراق، وشاركوا في ثورة رشيد عالي الكيلاني، ثم تشتّتوا عندما انهارت حكومة الكيلاني بين سورية وإيران وتركيا، وحطّت بمنيف الأقدار إلى التيه مع الحجاج العراقيين في الصحراء حيث خرج معهم متخفياً، فكادوا يموتون من العطش هناك، وأنقذتهم قوات الحدود السعودية، واستقر في السعودية حيث استبقاه الملك عبد العزيز فيها عام 1942.. وبات سفير الثورة الفلسطينية هناك يطوف بين مكة والمدينة والطائف، ويستثمر موسم الحج لذلك.

وبعد الحرب العالمية الثانية، وافاه إلى السعودية الشهيد عبد القادر الحسيني قادماً من العراق، خارجاً من السجن للعلاج في مصر، وبقي عنده نحو سنة، عملا معاً في الحشد لدعم القضية الفلسطينية، ثم غادر إلى مصر، ولحق به منيف سنة 1946. وتبيّن أنه كان ينسق مع الحاج أمين الحسيني الذي كان معتقلاً في فرنسا منذ هزيمة الألمان، وكان محكوماً بالإعدام. لكنه تمكن من مغادرة باريس متخفياً إلى مصر في منتصف حزيران (يونيو) 1946. ومن هناك لازمه منيف ولم يفارقه أبداً.

أسس الحاج أمين "الهيئة العربية العليا" لتخلف "اللجنة العربية العليا" في عملها، وبدأت من جديد مرحلة الكفاح المرير ضد الاحتلال والتهويد، وصدر قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، واشتعلت الثورة من جديد، وتعرضوا للبطش البريطاني وقاتلوا العصابات الصهيونية حتى وقعت الكارثة.

 



انتقل منيف مع أجهزة "الهيئة العربية العليا" إلى بيروت وواكب عمل الهيئة في أدق تفاصيلها، مرافقاً الحاج أمين الحسيني فيها، إلى أن وافاه الأجل عام 1989 عن عمر 90 عاماً.

لم يؤلف منيف الكتب، إلا أن مقالاته في الجريدة التي أسسها، يمكن أن تؤلف أكثر من كتاب. بالإضافة إلى البيان المطوّل للدفاع عن الحاج أمين، الذي كتبه وطُبع في كتاب بعنوان "بيان للأمة بشأن الحملات الأثيمة التي تُشنّ على سماحة المفتي الأكبر وعلى المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى".

من شعره

في ذكرى الشهيد عبد القادر الحسيني، أقامت جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة احتفالاً، ألقى فيه منيف الحسيني قصيدة عن مأساة فلسطين. فقال فيها:

يا فلسطينُ قد رمتكِ الليالي           ..               بسهامٍ منَ الرزايا قواصمْ
فاسألِ القسطلَ الذي ضرّسته         ..                بضعةٌ من نيوبِ تلكَ الضَّراغمْ
والحسينيُّ مُقبلٌ وقد بسطَ المو       ..                تُ جناحَيهِ والخطبُ داهمْ
يا أبا فيصلٍ وموسى وغازي            ..                وسليلَ الكُماةِ من فرعِ هاشمْ
قد لقيتَ الرَّدى ببأسٍ شديدٍ           ..                 وبثغرٍ يومَ الكريهةِ باسمْ
ومشت حولَكَ الميامينُ تَترى          ..                  في حنينٍ إلى الشهادةِ دائم
وبريقُ الحديدِ يلمعُ حيناً              ..                  ثم يخفى في عثيرٍ متراكمْ
نَعِمَتْ عينُ من رأى الأروعَ القسـ       ..                  امَ فخرَ بيضِ العمائم

قصيدة كنا وكان

كنا وكان العيشُ رغداً                   ..                والعُربُ يستبقون مجداً
كنا أشدَّ لدى النوائب                     ..                قوةً وأعزَّ جنداً
ذهبَ الذينَ بنوا لنا                       ..                 مجداً، فليتَ لهم مردّاً
تبّاً لِدهرٍ قُلَّبٍ                             ..                 يمشي بنا عكساً وطرداً
يدعُ الذليل مسوّداً                        ..                 ويصير فيه الحرّ عبداً