كتاب عربي 21

وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا

1300x600

المشهد الأول.. 2 أكتوبر 2022

بالعاصمة الفرنسية باريس، وبإحدى غرف الماكياج بقناة (سي نيوز) الفرنسية المملوكة لرجل الأعمال وامبراطور الإعلام فانسان بولوري وابنه يانيك، يجلس فرحات مهني، وهو كما قدمه إعلان القناة لاجئ بفرنسا ورئيس "الحكومة المؤقتة للقبائل". كان كل شيء يسير في اتجاه دخوله استوديو الأخبار لإجراء حوار ينشطه الصحفي ايفان ريوفول كما لم يكف مقدم النشرة عن التنويه إليه. دقيقتان فقط قبل انطلاق الحوار يظهر ريوفول بشكل مفاجئ في ممر يقود لباب استوديو التصوير حيث كان الضيف المفترض ينتظر، ليبدأ الحوار السوريالي التالي بين الرجلين كما وثقه أحد مرافقي مهني خلسة عبر هاتفه النقال:

ريوفول: أنت محقق. هذا أمر غريب!
مهني: (يضحك) ما الذي وقع؟
ريوفول: يحق لي عدم الحديث في الموضوع. هذا جنون!
مهني: إنه الاليزيه. من المؤكد أن الجزائر تدخلت في الموضوع.
ريوفول: لقد أعلنت عن حوارنا منذ أسبوع، والإدارة تعلم منذ أسبوع. والآن أبلغتنا الإدارة هاتفيا أن الحوار لن يجرى. لكنني لا أملك أي تفسير. لا شيء.
مرافق مهني: لقد رفضنا برامج أخرى من أجل هذا.
ريوفول: عليك بالحديث في الموضوع إذن.
مهني: هل سيقترحون علينا برنامجا آخر؟
ريوفول: هذا ما يقولون. يقولون إننا سندعوك يوما آخر. لا أعرف. أنا لم أعد أفهم شيئا. أنا في وضعية غير مريحة تماما ولا أعرف كيف سندبر الأمر. سأخبرك بكل جديد.
مهني: هل تعرضوا لضغوطات؟
ريوفول: لا علم لي. هذا غير معقول. إنها أول مرة أواجه فيها مثل هذه الواقعة. لكن يبقى تفسيرك صحيحا. أعتقد أنهم تعرضوا لضغوطات من الجزائر.
مهني: هذا أكيد. ضغطت الجزائر على الاليزيه الذي ضغط بدوره على القناة.
ريوفول: هكذا إذن..

انتهى المشهد بعودة الصحفي المحاور إلى الاستوديو وكأن شيئا لم يحدث، على وعد اللقاء، دون أن تقدم القناة اعتذارا أو تفسيرا لمشاهديها. وعاد فرحات مهني أدراجه، وعلى وجهه مساحيق تجميل، لا يمكن لها مهما حاولت أن تحفظ ماء وجه دولة لطالما تغنت بكونها منبع الأنوار، وتاجرت بالدفاع عن حرية التعبير واستخدمتها وسيلة للضغط والابتزاز بشكل رسمي حينا، وبشكل غير رسمي أحيان كثيرة، سلاحها في ذلك منظمات من "المجتمع المدني" ووسائل إعلام ووكلاء محليون.

المشهد الثاني.. 5 أكتوبر 2022

بالعاصمة المغربية الرباط، أصدرت السفارة الفرنسية، التي تشتغل دون ربان منذ مغادرة السفيرة السابقة هيلين لوغال لمنصبها، بيان تكذيب أعلنت من خلاله أنها "تلقت تصريحات وتعليقات في الصحافة توحي بأن السلطات الفرنسية قد تدخلت لدى قناة تلفزيونية فرنسية حتى تلغي حوارا مع أحد ضيوف برنامج إخباري". ونفت السفارة "نفيا قاطعا هذه المزاعم"، مؤكدة على أن "فرنسا لا تزال ملتزمة بحرية الصحافة وحرية التعبير في جميع أنحاء العالم". ولأن بلد الأنوار لا يتوقف عن إعطاء الدروس للآخرين، وإن داستها أجهزتها بالأقدام، فقد أضاف بيان السفارة الفرنسية بالقول إن "التعددية الإعلامية والحق في الإعلام أو الحصول على المعلومات والقدرة على التعبير عن وجهات النظر النقدية التي هي ضرورية للنقاش الديمقراطي. إن الدفاع عن هذه المبادئ، التي تطبقها على نفسها، هو أيضا من أولويات سياستها الخارجية".

لم يكن لهذا البيان "الغريب" أن يمر دون أن يثير حفيظة المغاربة لدرجة أن الحكومة عبرت عن استغرابها مما أقدمت عليه السفارة الفرنسية في الرباط، حيث تساءل الناطق الرسمي باسمها، مصطفى بايتاس، إن كان ذلك "يدخل في إطار الأعراف، وإن كانت السفارات تقوم به في العادة، وهل أن سفارات فرنسا في مختلف دول العالم تقوم بمثل ما قامت به سفارتها في المغرب؟".

كان المغاربة ينتظرون بيانات توضيحية أو تكذيبية من ممثليات الدولة الفرنسية بالبلاد بخصوص أزمة التأشيرات التي طالت حتى من يسبحون بحمد باريس ليل نهار، ولم تستثن الطلاب والمستثمرين والباحثين والمرضى، دون أن تفرط في العوائد المادية التي تتكلفها الملفات المرفوضة، وهي الأزمة التي دفعت الكثيرين للاحتجاج ورفع القضايا ضدها في محاكم المملكة والتفكير في اللجوء لمحاكم باريس. أما أن تقحم الخارجية الفرنسية، من خلال سفارتها، المغرب والمغاربة في قضية لا علاقة لهم بها فذاك أمر يبعث على الارتياب. فرحات مهني لاجئ جزائري تأويه باريس ومعه عدد من الناشطين القبائليين، وفيها أعلن مع رفاقه عن تأسيس "الحكومة المؤقتة للقبائل" في العام 2016. فرحات ذاته مطلوب للعدالة الجزائرية بعد أن صنفت الحكومة منظمته تنظيما إرهابيا على إثر مقتل جمال بن اسماعين في فترة الحرائق التي شهدتها البلاد قبل سنتين واتهمت الرباط بتدبيرها. ما الداعي إذن لتخصيص بيان التكذيب لجمهور مغربي، ربما لم يتابع أغلبه مجريات القصة ولا اهتم بها؟

 

 

العدو اليوم هناك في موسكو وشيطنته أمر مطلوب. ولتحقيق نوع من التسلية والتنوع، لا بأس من التعريج على جثث النساء اللائي تحصدهن آلة القمع هناك بطهران وبقية حواضر إيران. يكفي أن نقدم لقطات تستدرّ دموع تماسيح أو ننشر مقاطع لمن لم يجدن من آلية للتضامن غير تقطيع خصلات من شعورهن وذلك أضعف الإيمان.

 



يعتقد كثيرون أن هذا التعامل ب"حساسية مفرطة" مع انتقادات الصحافة المغربية أو تدوينات وآراء أفراد معزولين في وسائل التواصل الاجتماعي، تنم عن المستوى المتردي الذي وصلته العلاقة بين البلدين بعد مرحلة جفاء وبرود، تكاد تصل لمرحلة القطيعة الفعلية، دون قدرة على ابتداع فرص تمكن من تدارك الأمر بلا غالب أو مغلوب. ومحاولة إقحام المغرب في هذه القضية التي لا تعنيه إما سعي لخلط الأوراق وتوريطه فيما لم يفصح عنه البيان، لكنه مفهوم في سياق توتر العلاقات المغربية الجزائرية وتصاعد حدة الاستقطاب بين ديبلوماسيتيهما، أو هو إقرار غير معلن بأهمية الرأي العام المغربي لدى فرنسا بشكل يدفعها ل"تبرير" سلوك بدا غريبا عن الصورة "المتخيلة" التي جاهدت باريس لرسمها عن بلاد الأنوار، خصوصا مع ما تتعرض له باريس من رفض شعبي وتراجع متراكم في النفوذ ببقية أطراف القارة السمراء. إعلان ماكرون من جانب واحد، وبلا مناسبة، عن زيارة مرتقبة له إلى الرباط شهر أكتوبر الحالي، ليلة مغادرته للعاصمة الجزائرية قد يساعد في فهم بعض من تجليات هذا السياق. ربما أرادت فرنسا أن تذكر الجمهور المغربي أنها لا تزال هنا والآن.

كان جليّا بباريس أن تقدم تفسيراتها وتصدر بياناتها في اتجاهات أبعد من الرباط، لأن الجمهور المستهدف ب"تبريراتها" يوجد هناك من المسؤولين بالعاصمة الجزائر أو النشطاء في منطقة القبائل ونواحيها. غير ذلك، فمجرد طلقات طائشة لن تساهم في رأب التصدعات ولا في استعادة المكانة التي كانت واندثرت ولم تعد، كما يبدو، أولوية في التعامل الرسمي ولا مرجعية على المستوى الشعبي.

الكفر بالأنوار والمبادئ والحريات على إثر الأزمات الاجتماعية المرشحة للتصاعد بسبب الحرب على أوكرانيا، وما نتج عنها من أزمة طاقية ظهرت آثارها على جزء من مناطق البلاد، حيث لا تتمكن محطات الوقود من توفير البنزين وصارت الطوابير الطويلة أمر مألوفا، أمر يمكن تفهمه والإقرار به. وعندما تتاجر أمريكا بضعف الأوربيين ويهدد بوتين بقطع الإمدادات، فلا مناص من التوجه جنوبا لاستدرار عقود غاز ونفط على أعتاب شتاء قارس بدأت نذره قبل الأوان.

الماستر سين.. 9 و10 أكتوبر 2022

هو مصطلح يطلقه أهل السينما والمشتغلون بالنقد الفني على أكثر مشاهد الفيلم قوة وتأثيرا في المشاهدين باعتباره مفتاحا لفهم القصة وأهدافها.

بالعاصمة الجزائرية حلت رئيسة وزراء فرنسا إليزابيت بورن، بمعية وفد حكومي ضم ستة عشرة وزيرا، أسابيع فقط بعد عودة الرئيس ماكرون من رحلة سابقة إلى هناك، والهدف عقد اللجنة الحكومية المشتركة رفيعة المستوى. قبل عام ونصف، ألغت الجزائر زيارة لرئيس الوزراء السابق جان كاستيكس احتجاجا على ما قيل وقتها إنه "مستوى ضعيف" للوفد الوزاري الذي كان سيضم أربعة وزراء. الظروف الدولية تغيرت، وباريس تبحث عن تأمين حاجياتها الطاقية وعن تعويض جزء من خساراتها المتلاحقة بمراكز النفوذ التقليدية بالقارة السمراء.
 
السعي إلى تحسين العلاقات الثنائية بين البلدين وقف "شراكة متجددة" أرستها زيارة ماكرون، هدف لا يمكن السماح لفرحات مهني، وما يمثله، أن تأثر سلبا عليه. يمكن للرجل أن يبقى في باريس لاجئا محميّا إلى أن يحين وقت التهديد به لتحقيق أكبر المكاسب وتعظيمها. حقوق الأقليات وحريات الصحافة والإعلام وغيرها من الشعارات متروكة لأيام "الوفرة". أما فترات السنوات العجاف، فتأمين الاحتياجات الأساسية من مأكل ومشرب وتدفئة أولى من شعارات الحرية والحفاظ على البيئة وغيرهما. ماكرون أخبر شعبه أن زمن "الوفرة" قد ولّى، وفرحات مهني وشعب القبائل صارا في أدنى درجات سلم الأولويات. أما قناة (سي نيوز) وأخواتها، فأدوات في يد السلطة، من خلال سيطرة الملاك على سياساتها التحريرية، توجهها كيف تشاء.

 

قبل عام ونصف، ألغت الجزائر زيارة لرئيس الوزراء السابق جان كاستيكس احتجاجا على ما قيل وقتها إنه "مستوى ضعيف" للوفد الوزاري الذي كان سيضم أربعة وزراء. الظروف الدولية تغيرت، وباريس تبحث عن تأمين حاجياتها الطاقية وعن تعويض جزء من خساراتها المتلاحقة بمراكز النفوذ التقليدية بالقارة السمراء.

 



العدو اليوم هناك في موسكو وشيطنته أمر مطلوب. ولتحقيق نوع من التسلية والتنوع، لا بأس من التعريج على جثث النساء اللائي تحصدهن آلة القمع هناك بطهران وبقية حواضر إيران. يكفي أن نقدم لقطات تستدرّ دموع تماسيح أو ننشر مقاطع لمن لم يجدن من آلية للتضامن غير تقطيع خصلات من شعورهن وذلك أضعف الإيمان.

أما الجزائر فاستعادت واحدا وخمسين قطعة نقدية أثرية كانت فرنسا تعرضها في بعض من متاحفها كما كانت تفعل بجماجم مقاومين جزائريين بما تسميه متخف الإنسان.

فلاش باك..

مع زيارة إيمانويل ماكرون إلى الجزائر، نهاية شهر أغسطس، سحبت صحيفة لوموند مقالا للكاتب ماكس موران من موقعها الإلكتروني، بمبرر كونه "تضمن خطأ أدى إلى تفسير سيئ". الغريب أن الجريدة "العريقة" لم تكتف بالسحب بل قدمت الاعتذار "لقرائها ولرئيس الجمهورية".

وفي شهر سبتمبر 2020 بلبنان، اتهم إيمانويل ماكرون، أمام عدسات الكاميرا، الصحفي جورج مالبرونو من جريدة "لوفيغارو" بأنه "غير مسؤول"، لادعائه في مقال له أن فرنسا هددت بفرض عقوبات على كل مسؤول لبناني يعرقل تنفيذ الإصلاحات، قبل أن يضيف "سمعتني دائماً أدافع عن الصحفيين، وسأفعل ذلك دائماً. لكن أتحدث معك بصراحة، ما فعلته خطير وغير مهني ووضيع".
 
كان ماكرون يهدف يومها للظهور بمظهر منقذ لبنان بعد محادثات طويلة مع القادة اللبنانيين بشأن تشكيل الحكومة. عاد ماكرون من حيث أتى، ولم يتبق من رحلته إلى بيروت غير الفيديو المؤرخ لتقريعه الصحفي المخضرم، كما هو حال فيديو فرحات مهني أمام استوديو قناة (سي نيوز) شهادة على أن الغاية تبرر الوسيلة وأن المصلحة تبقى فوق كل اعتبار.

إنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.