قضايا وآراء

حركة النهضة وأدوارها في استراتيجيات الحكم قبل الثورة وبعدها

1300x600
تصدير: "هناك ظاهرة معروفة في مجتمعاتنا؛ هي القدرة على إنتاج المشكلات. هذه القدرة تفوق بكثير قدرتها على إنتاج الحلول. هذه القدرة تبتلع الوقت وتستنزف جهد العاملين، بمن فيهم أولئك الذين ينشطون في الحقل الفكري" (عبد الله حمودي، "الشيخ والمريد"، ترجمة عبد المجيد جحفة).

لا يطرح هذا المقال على نفسه التأريخ لعلاقة حركة النهضة بالسلطات الحاكمة قبل الثورة وبعدها، فذاك عمل المؤرخ المختص، خاصة ذلك المتحرر من سلطة الأيديولوجيا واحتياجات المؤسسات "البحثية" المنحازة لسردية السلطة ومنظوراتها في كتابة التاريخ أو قراءة الواقع. فغاية ما نرمي إليه، هو الوقوف عند المحطات المفصلية في العلاقة بين النهضة و"السلطة"، سواء أكان "الحزب السياسي ذو المرجعية الإسلامية" موضوعا لاشتغال تلك السلطة ومعارضا "غير قانوني" لها، أو "شريكا" فيها أو حزبا معترفا به، ومعارضا علنيا لمن هم في الحكم.

لو أردنا تلخيص المقاربة السلطوية لعلاقة السلطة بالنهضة قبل الثورة، فإننا لن نجد أفضل من تعبير الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، عندما تحدث عن حاجة المجتمعات إلى "خارج مطلق" يبني هويتها ويوفر لها "عدوا وجوديا" يخفف من حدة انقساماتها الاجتماعية والاقتصادية. ولا يحيل "الخارج" هنا إلى الجغرافيا، بل إلى "الثقافة" أو الأيديولوجيا، فقد أدارت السلطة -في لحظتيها الدستورية والتجمعية- صراعها ضد حركة النهضة على أساس التقابل المطلق والتعارض غير القابل للحل، و"الملف الأمني" الذي لا يمكن إدارته إلا بمنطق الحرب ومفردات الصراع الوجودي.

ولم تجد السلطة -بعد الفاصلة الديمقراطية التي أعقبت انقلاب 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987- صعوبة في تجميع "القوى الديمقراطية"، تمهيدا للدخول في حرب مفتوحة ضد حركة النهضة، باعتبارها خطرا وجوديا يهدد "النمط المجتمعي التونسي"، ولا يؤمن بالديمقراطية بحكم تأسس خطابه السياسي على منطق البديل، لا على منطق الشريك للنخب اللائكية التي هيمنت على الدولة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. لقد طرح المخلوع نفسه باعتباره "حامي الحمى والدين"، وهو منطق يتنافى مع التصور اللائكي الفرنسي لعلاقة الدولة بالدين، ولكنّ النخب "الحداثية" رضيت به ما دام يضمن سيطرة الدولة "البرجوازية" على الشأن الديني، ويضمن تحييد حركة النهضة عن بناء أي معنى ديني، أو سياسي "مقبول" وقابل للمساهمة في بناء المشترك الوطني.
رفض القوى "الديمقراطية" للتطبيع مع حركة النهضة وتبرير استهدافها الممنهج من طرف الأجهزة القمعية للدولة (بشكليها الأمني والأيديولوجي) لا يُردّ فقط إلى أسباب فكرية، بل هو راجع أيضا إلى التهديد الذي يمثله دخول القاعدة الاجتماعية للنهضة إلى الحقل السياسي القانوني وإلى باقي القطاعات

كان الظاهر -لا الحقيقة التي أكدتها الثورة- أن أغلب "القوى الديمقراطية" على اختلاف مرجعياتها الأيديولوجية -بيسارييها وقومييها وليبرالييها-، تشترك في اعتبار الصراع لترسيخ الديمقراطية مسألة مؤجلة وغير ذات أولوية مقارنة بمحاربة "الرجعية الدينية"، وكان ما يوفر لها الإقناع العقلي والإشباع النفسي، هو منطق التناقض الرئيس مع الرجعية الدينية والتناقض الثانوي مع الرجعية البرجوازية الحاكمة.

ولكنّ رفض القوى "الديمقراطية" للتطبيع مع حركة النهضة وتبرير استهدافها الممنهج من طرف الأجهزة القمعية للدولة (بشكليها الأمني والأيديولوجي) لا يُردّ فقط إلى أسباب فكرية، بل هو راجع أيضا إلى التهديد الذي يمثله دخول القاعدة الاجتماعية للنهضة إلى الحقل السياسي القانوني وإلى باقي القطاعات. فهذا الأمر سيدفع حتميا إلى إعادة توزيع السلطة والثروة على أسس مختلفة (التمثيلية الشعبية لا الادعاء الذاتي)، كما سيشكك في المكانة التي يمتلكها "الديمقراطيون" في مركز السلطة ويهدد أدوارهم/ امتيازاتهم في هوامشها/ ملحقاتها المدنية والنقابية والثقافية.

إننا أمام عاملين تفسيريين لموقف "القوى الديمقراطية"من حركة النهضة خلال زمن المخلوع -وحتى من قبله-، وهما عاملان لم يفقدا قيمتهما التفسيرية بعد الثورة، وإن كان قد أضيف إليهما عامل آخر يرتبط بأداء الحركة بعد وصولها إلى السلطة بشروط المنظومة القديمة. فقد نجحت النواة الصلبة للمنظومة القديمة بعد رحيل المخلوع في هندسة المشهد السياسي على أساس التقابل بين "القوى الديمقراطية" وحركة النهضة، وذلك لحرف الصراع عن موضوعه الحقيقي، أي الصراع ضد المنظومة القديمة وخياراتها اللاوطنية وبنيتها الجهوية الزبونية وطبيعتها الريعية، التي جعلت الثروة والسلطة فيها خاضعة إلى هيمنة بعض العائلات؛ عدّها مسؤول أوروبي بعد الثورة بأربعين عائلة.

ونحن هنا نتفق مع الرئيس قيس سعيد في اعتبار أن "التأسيس" قد كان حصيلة صفقات وتسويات وحسابات انتهازية في أغلبه، ولكننا نختلف معه في تعيين العامل الأخطر (أو المحدد النهائي حسب التعبير الماركسي) في ذلك كله. فنحن نعتبر أن النواة الصلبة لمنظومة الحكم القديمة -ومن يسندها من قوى إقليمية ودولية-، هي المتحكم الأساسي في انتقالٍ ديمقراطي كان الفاعلون الجماعيون فيه، بحكم فقدان مقومات السيادة وغياب أي مشروع وطني أو سردية ثورية ذات مصداقية، "عرائس" تتلاعب بهم أيدي تلك النواة الصلبة، وتغير مواقعهم وأدوارهم -طوعا أو كرها- تبعا لاحتياجاتها الذاتية خلال مختلف المراحل، بما في ذلك مرحلة تصحيح المسار ذاتها.
نتفق مع الرئيس قيس سعيد في اعتبار أن "التأسيس" قد كان حصيلة صفقات وتسويات وحسابات انتهازية في أغلبه، ولكننا نختلف معه في تعيين العامل الأخطر (أو المحدد النهائي حسب التعبير الماركسي) في ذلك كله. فنحن نعتبر أن النواة الصلبة لمنظومة الحكم القديمة -ومن يسندها من قوى إقليمية ودولية-، هي المتحكم الأساسي

لقد فرضت روح الثورة على "القوى الديمقراطية" الاعتراف بحركة النهضة جزءا من المشهد السياسي القانوني، ولكنها لم تستطع أن تفرض عليها تغيير وعيها السياسي، وجعله مطابقا للحظة التاريخية واحتياجاتها الوطنية؛ ولذلك شهدنا "عودة المكبوت" بمجرد ظهور نتائج انتخابات المجلس التأسيسي، بل قبله وإن بصورة أقل حدة وصدامية. كما شهدنا عودة للمفردات التي هيمنت على السردية السلطوية زمن المخلوع: تهديد النمط المجتمعي، حاضنة الإرهاب، محاولة اختراق أجهزة الدولة، ضرب مدنية الدولة، عدم الاعتراف بالدولة- الأمة أو الدولة الوطنية.. إلخ، وهي مفردات كانت موضوعة أساسا للتقريب بين ورثة المنظومة القديمة و"القوى الديمقراطية" على أساس الاشتراك في المشروع المجتمعي. ولم يكن ذلك كله ليُنتج إلا عودة ورثة المنظومة القديمة إلى مركز السلطات الثلاث بعد انتخابات 2014، عبر واجهتهم الحزبية "حركة نداء تونس".

رغم هيمنة النداء على السلطتين التنفيذية والتشريعية بتواطؤ مع المركزية النقابية وترحيب من أغلب مكونات المجتمع المدني، ورغم أن أغلب القرارات خلال مرحلة التوافق كانت تخدم "أيتام صانع التغيير" (مثل قانون المصالحة الاقتصادية وتوجيه القروض للأجور لا للاستثمار)، حرصت "القوى الديمقراطية" بدعم قوى من المنظومة الإعلامية الخاضعة للمنظومة القديمة وحلفائها على "وصم" منظومة بالفساد الحكم، وشيطنتها باعتبارها "منظومة النهضة"، خاصة بعد تشقق النداء إلى أكثر من حزب.

ونحن لسنا هنا بوارد الدفاع عن تلك المنظومة الفاسدة/ المفسدة، فكل ما يهمنا هو كشف زيف سردية "القوى الديمقراطية" ونفاقها السياسي. فالنهضة لم تكن إلا جزءا من تلك المنظومة (مثلها في ذلك كمثل المركزية النقابية واتحاد الأعراف باعتبارهما شريكين اجتماعيين). ولا شك في أنها تتحمل مسؤوليتها السياسية عن تلك المرحلة، أما حصر المسؤولية فيها، فلا يستسهله إلا خطاب انقلابي انتهازي يرفض بناء خطاب مطابق للواقع خوفا من تحمل المسؤولية، والعجز، من ثم، عن التموقع ضمن المشهد السياسي الجديد.
أثبتت الثورة التونسية ومآلاتها زيف سرديتين كبيرتين وحاجتهما إلى مراجعات نقدية جذرية: أولا زيف سردية "الإسلام هو الحل"، سواء في شكلها "العنيف" الموجه ضد الدولة وفلسفتها السياسية الحديثة (السلفية الجهادية)، أو في شكلها "الليّن" أو المقنن والمتصالح بدرجات مختلفة مع الدولة- الأمة (الإسلام لايت أو الإسلام الديمقراطي)، وثانيا زيف سردية "القوى الديمقراطية" بمختلف عائلاتها

إن نجاح "تصحيح المسار" إلى هذه اللحظة، يعود في جزء كبير منه إلى تحقيقه بمنطق المراسيم و"الحكم الجبرى"، ما عجزت عنه "القوى الديمقراطية بمنطق الانتخابات والاحتكام للإرادة الشعبية. وقد يبدو من التناقض أن يدعم "الديمقراطيون" مشروعا يُبشر بحكم الفرد وضرب كل الأجسام الوسيطة أو على الأقل تدجينها (كما وقع زمن المخلوع). فالكل يتذكر أن اجتثاث الإسلاميين زمن المخلوع قد أضعف الأحزاب كلها، بل قتل الحياة السياسية. ولكنّ هذا التناقض يجد حله عندما نفهم الأولويات الحقيقية للعقل "الديمقراطي" التونسي؛ التي لن نجد فيها الديمقراطية باعتبارها اعترافا بالاختلاف الجذري وبناء مؤسسات لإدارته. فأولويات "القوى الديمقراطية" الحقيقية هي الدفاع عن الخرافات المؤسسة للنمط المجتمع التونسي، ومنع توسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة والثروة، وضمان المصالح المادية والرمزية للنخب، ولو بالتذيل للسلطة والتموقع على هوامشها المدجّنة.

لقد أثبتت الثورة التونسية ومآلاتها زيف سرديتين كبيرتين وحاجتهما إلى مراجعات نقدية جذرية: أولا زيف سردية "الإسلام هو الحل"، سواء في شكلها "العنيف" الموجه ضد الدولة وفلسفتها السياسية الحديثة (السلفية الجهادية)، أو في شكلها "الليّن" أو المقنن والمتصالح بدرجات مختلفة مع الدولة- الأمة (الإسلام لايت أو الإسلام الديمقراطي)، وثانيا زيف سردية "القوى الديمقراطية" بمختلف عائلاتها الأيديولوجية وتموقعاتها داخل السلطة والمعارضة. وهو "زيف مزدوج" لا يمكن أن يؤديَ إلا إلى عودة "المكبوت الاستبدادي"، بصرف النظر عن آليات شرعنته.

وبعيدا عن التفسيرات الرجعية لقولة هيغل "كل ما هو واقع هو معقول وكل ما هو معقول هو واقع" -أي بعيدا عن تبرير الواقع واعتباره حتمية ينبغي الرضا بها-، فإن الواقع التونسي هو نتيجة مسارات وتراكمات وانحرافات جعلت "تصحيح المسار" مشروعا "معقولا" عند جزء مهم من الشعب التونسي، وهي "معقولية" قد لا تكفي الأزمة الاقتصادية في نقضها والتشكيك في شرعيتها، بحكم غياب أي مشروع وطني بديل يكون أكثر "معقولية" أو مصداقية عند عامة الشعب من" التأسيس الجديد".

twitter.com/adel_arabi21