كتاب عربي 21

تونس: مناورات المربعات الأخيرة

1300x600
لا تبدو تونس من خارجها وضعا معقدا أمام التحليل السياسي، لكن سلوك أهم عنصر فاعل في لحظتها الراهنة غير قابل للتوقع السليم، لذلك يُستحسن احتراما للقارئ الحديث بتحفظ واستعمال الجمل الاحتمالية، فمن الادعاء المغرور القول أن غد تونس لناظره قريب.. ها نحن نحاول تجميع الحصى السياسي لصنع عجينة قابلة للهضم.

نلتقط مؤشرات على الدخول في عملية إخضاع النقابة لشروط المقرضين الدوليين، ونتابع مناورات النقابة للتنصل من ثمن الارتهان للشروط، ونتابع مناورات مشاغلة حزب النهضة باعتقالات متابعة لا تقوم على ملفات متماسكة، لكنها تصب ماء كثيرا في طاحونة الإعلام المعادي للحزب. وقد فقد هذا الإعلام كل مواضعه أو طلب منه التركيز بعيدا عن سياسات الانقلاب، حتى أنه حوّل وصول شحنة سكر من الجزائر إلى مهرجان فرح.

النقابة في مرمى الانقلاب

لم يشفع للنقابة مساندتها غير المشروطة للانقلاب منذ ساعاته الأولى وتبشيرها بفتح أبواب النعيم الاجتماعي على يديه، ولم يشفع لها تخريب الوضع الاقتصادي قبله بما جعلها أهم أسبابه.
لم يشفع للنقابة مساندتها غير المشروطة للانقلاب منذ ساعاته الأولى وتبشيرها بفتح أبواب النعيم الاجتماعي على يديه، ولم يشفع لها تخريب الوضع الاقتصادي قبله

منذ استقرت حكومة الرئيس (حكومة السيدة بودن) كشفت مطالبها وشروطها على النقابة. الشروع السريع في برنامج التخلي عن الدعم الاجتماعي للمواد الأساسية والبدء في تصفية المؤسسات العمومية الخاسرة، والتعهد بتجميد الأجور والانتداب في الوظيفة العمومية لأجل غير مسمى. رفعت النقابة صوتها معارضة، وصهل أمين عام النقابة بأن الاتحاد مقاتل شرس من أجل العمال، ثم بدأت النبرة في النزول. وتجلى الخوف حتى انعقاد آخر هيئة إدارية "برلمان النقابة" يوم 10 أيلول/ سبتمبر، وأصدرت تفويضا للمكتب التنفيذي ليكمل التفاوض.

الحكومة لا تطلب مفاوضا بل طرفا يمضي ويبلع لسانه عما سيجري. البيان لم يُرض الرئيس، فدعا عشية الاثنين (12 أيلول/ سبتمبر) أمين عام النقابة على عجل، ولم تصدر عن الاجتماع حتى لحظة تجهيز الورقة أية معلومات بخصوص المستقبل.

كل التخمينات (وهي الوحيدة المتاحة) تذكرت أن مؤتمر النقابة الأخير غير شرعي، وأن حكما قضائيا صدر ببطلانه ولم ينفذ. وهذه ورقة ضغط مهمة ويرجح أن الرئيس وضعها فوق طاولته منذ أعلن عدم حاجته لدعم النقابة، مثل استغنائه عن أصدقاء النقابة من الحزيبات المحتكرة لصفة الديمقراطية. هل أن الرئيس بصدد قراءة الحكم الصادر ضد النقابة بصوت مرتفع للأمين العام؟

الجميع يعرف وقد بات الأمر يقينا أن لا برنامج لحكومة الرئيس إلا تنفيذ شروط المقرضين الدوليين، فهم منفذها الوحيد إلى تمويل يعيد تسريح القنوات الاقتصادية المسدودة. وبقاء الحكومة ضمان بقاء الرئيس الذي تقلصت فرصه لاستبدال الحكومة الحالية، وهو المستعجل على إجراء انتخاباته.

النقابة تعرف خطورة أن تكون عقبة في طريق رئيس لا يفاوض، وقد تكون المعادلة كشفت الإمضاء مقابل غض الطرف عن المؤتمر غير القانوني مع ملفات فساد فاحت رائحتها المنتنة، لكن يظل للنقابة أصدقاء يؤمنون خط رجعة من حافة الهاوية.
بات الأمر يقينا أن لا برنامج لحكومة الرئيس إلا تنفيذ شروط المقرضين الدوليين، فهم منفذها الوحيد إلى تمويل يعيد تسريح القنوات الاقتصادية المسدودة. وبقاء الحكومة ضمان بقاء الرئيس الذي تقلصت فرصه لاستبدال الحكومة الحالية

السيستم لن يكسر عصاته الغليظة

النقابة أداة السيستم للحكم وهذه حقيقة عارية لا نزعم اكتشافها، ومن يراجع "المحطات النضالية" للنقابة سيعرف أن نتيجتها كانت دوما لصالح النظام وليس لصالح الشغيلة. ويكفينا مؤشر واحد؛ لم يتم تحريك أي إضراب في مؤسسة من مؤسسات القطاع الخاص منذ الثورة. ولم تزعج النقابة قطاع الأعمال أبدا، وهو عمق السيستم الاقتصادي، وهو يحتاجها لتمويه وجهه الاجتماعي وضرب النقابة يعني انكشاف الوجه غير الإنساني لهذه الطبقة.

المعادلة هنا تتعقد، السيستم يحتاج قيس سعيد لتفكيك مؤسسات القطاع العام الخاسرة لتؤول إليها بتراب الفلوس. وتحتاجه لوضع حد لاحتكار الدولة لجزء هام من السوق باسم الضغط على كلفة المعيشة (مثل احتكار استيراد السكر والتبغ وزيت الطعام)، وهي غنائم اقتصادية في وضع ليبرالي يحرر التوريد؛ تريد هذه الطبقة الاستيلاء عليها.

إذا فقدت النقابة السيطرة على هذه المؤسسات وعجزت عن استعمالها كبؤر احتجاج وضغط انتهى وجودها وفقد النقابيون غنائمهم.. أي المصالح ستنتصر؟ مصلحة النقابة أم مصلحة المؤسسات الاقتصادية أو طبقة رجال الأعمال (أو عمق السيستم)؟ وماذا يحتاج الرئيس في هذه المرحلة من النقابة ومن طبقة رجال الأعمال؟ يحتاج إنجاح انتخاباته في آخر السنة والتقدم خطوة عملاقة على طريق فرض دستوره ونظامه.. هنا يمكن حل المعادلة.

وجه من وجوه حل المأزق

وما هو إلا تخمين، فالكواليس غامضة أمامي. تقوم النقابة بإعلان ولائها التام لمشروع الرئيس، أي القبول ببرنامج الإصلاح المفروض من المقرضين الدوليين وتنسى خرافات الزيادة في الأجور وتحسين المقدرة الشرائية (لا بأس ببعض التنطع الإعلامي الذي لا ينزل الأرض)، وتعلن مشاركتها في الانتخابات القادمة بكثافة (ترشحا وتصويتا). في المقابل، يقدم لها الرئيس حبل نجاتها من الحكم القضائي وينهي التتبع في قضايا فساد النقابيين.

يقدم الرئيس مؤسسات القطاع العام لطبقة رأس المال؛ مفككة في أسهم أو في سوق خوصصة ينظم بسرعة كتابة الرئيس لأمر قانوني يصادق عليه برلمان صوري لاحقا.
تكف النقابة بدورها القديم مطاردة الإسلاميين وتحميلهم أسباب الخراب، خاصة وقد حصلت على دعم قوي، فقد فاز أصدقاؤها بنقابة المحامين لفترة السنوات الثلاث القادمة وأعلنوا الشروع في الحرب على الإسلاميين

تتشكل صورة بلد له مؤسسات وتقدم للمقرضين الدوليين فيحصل الرئيس على مخارج لأزمته الاقتصادية، ويعلن نجاحه عندما يجد الناس السكر والزيت ولو بأثمان باهظة، فقد تمرنوا على فقدانها وسيفرحون بعودتها. وإذا دارت الماكينة الاقتصادية بهذا الاتجاه يصبح وجود الرئيس معادلا لذهابه، وقد يُمنح فرصة أخرى للبقاء أو خروجا آمنا إذا طلب الشارع (الغبي) ثمنا لاضطراب تزويد السوق.

ثم تكلف النقابة بدورها القديم مطاردة الإسلاميين وتحميلهم أسباب الخراب، خاصة وقد حصلت على دعم قوي، فقد فاز أصدقاؤها بنقابة المحامين لفترة السنوات الثلاث القادمة وأعلنوا الشروع في الحرب على الإسلاميين قبل إعلان النتيجة الرسمية.

لا داعي للمقارنة مع وضع ابن علي بعد انتخابات 1994، فالتطابق يوشك أن يكون تاما. هل هذه أيام نجاة المنظومة من براثن الثورة؟ عبارة براثن الثورة هذه للتعزية فقط، لقد سمتها فرنسا ثورة ياسمين فنزعت مخالبها منذ الساعات الأولى.

ثم ماذا؟

الشعب الواعي الذي يغيّر المعادلات الصعبة فضّل الحرقة على متابعة الأخبار المحلية.. لا أظن أن قد بقي له من الحماس ما يكفي ليتابع طبقة سياسية تخلت عنه في أحلك الظروف؛ منتظرة أن يسقط الانقلاب من تلقاء نفسه.