كتاب عربي 21

"ضربة جزاء" ضد السيسي ونظامه

1300x600

(1)

لا تصدقوا الشعار الذي يتحدث عن ضرورة فصل السياسة عن الرياضة، ففي بلاد مثل بلادنا تتقدم الرياضة (خاصة كرة القدم) علي لقمة العيش ونشاط الأحزاب وأخبار الحكومات، بحيث يمكن القول إن جمهور الرياضة هو الشعب الفاعل والمؤثر في نطاق اهتمامه، صحيح أن انتماءه مقيد بلون فانلة فريقه، لكن عصبية الانتماء الكروي تتفوق على أي انتماء سياسي أو فكري، لهذا أتابع مجريات الأزمة المتصاعدة ين النادي الأهلي المصري وبين النظام الحاكم، باعتبارها صداما جديدا من نوعه بين السلطة السياسية وأكبر حزب شعبي في مصر.

(2)

يتردد في صفحات الرياضة وكتب التفاخر التذكاري أن "الأهلي" هو نادي الوطنية المصرية الذي نشأ في مواجهة أندية أسسها الاحتلال الانجليزي بشكل كامل أو "مختلط"..

ويركز المتفاخرون على أسماء رؤساء النادي وداعميه باعتبارها دليل الوطنية، فيذكرون مصطفي كامل وعبد الخالق ثروت ومحمد محمود وعزيز عزت وعمر لطفي وعبود باشا، وكذلك يستخدمون اسم سعد زغلول وسياسيين آخرين حتى لو لم يشاركوا في إدارة النادي، لأن الغرض هو تثبيت فكرة أن النادي الأهلي له تاريخ وطني شعبي مناوئ للأنجليز، علي عكس الزمالك نادي السلطة والاحتلال الذي حمل لفترة اسم الملك فاروق بعد أن كان يحمل اسم "المختلط" في إشارة للشراكة المعيبة بين المحتل الأنجليزي والعنصر المصري..

على المستوى الظاهري تكتسب المعلومة وجاهة ومصداقية لأن "الأهلي" نشأ ضمن صعود "حالة أهلية" في السياسة والاقتصاد والتعليم في بدايات القرن العشرين اثناء حكم عباس حلمي الثاني، وسرعان ما تبلورت هذه "الحالة الأهلية" في مد شعبي ثوري عام 1919 بعد سنوات قليلة من نشأة الأهلي في ربيع 1907.

(3)

يؤسفني أن أصدمكم فأقول أن التفاخر بالوطنية بين أكبر وأعرق نادين في مصر مجرد ادعاءات لا تستند إلى واقع فعلي، لذلك تتلون الحقائق حسب كل عصر، وحسب كل دعاية تتخذ من الرياضة غطاء لأوضاع سياسية واقتصادية ارتبطت بتاريخ ونشأة ومسارات الناديين، فكلاهما (بصرف النظر عن الأسماء والإدعاءات) نشأ في ظل الاحتلال وبمساعدة شخصيات أجنبية ارتبطت بالاحتلال، فقد ساهم الانجليزي "ألفريد ميتيشل ينيس" في تأسيس النادي الأهلي المصري وكان أول رئيس رسمي له، وبرغم أن رئاسته لم تتجاوز العام إلا أن الدلالة السياسية لارتباط اسمه بنشأة الأهلي توضح لنا الكثير من ارتباط الرياضة المصرية بالسياسة والاقتصاد وهيمنة النخبة المسيطرة على مجالات الحياة، فقد جاء ميتشيل إلى القاهرة للعمل في لجنة الرقابة المالية الثنائية التي فرضها الاستعمار على مصر بسبب سياسات الخديوي إسماعيل التي أدت إلى افلاس مصر عمليا وفرض الرقابة ثم الوصاية عليها، وهكذا تعبر شخصية ميتشيل عن العوامل الرئيسية التي تشكلت منها النخبة الحاكمة في ذلك الوقت (العمل الدبلوماسي والمالي والعسكري) وهي عوامل ذات طابع رسمي وليست شعبي، فقد كانت (ولا تزال) فكرة النوادي فكرة لصالح طبقة ما أو مجال عمل ما..

بعد مرور 4 سنوات فقط من تأسيس النادي الأهلي  بفكرة مصرية من المحامي عمر لطفي ودعم من الرقيب المالي الأنجليزي ميتشيل، تأسس النادي "الثاني" بجهود أجنبية خالصة على يد رجل قانون يهودي يحمل الجنسية البلجيكية / الفرنسية (جورج مزرباخ)، ولما كان مزرباخ رئيسا لإحدى المحاكم المختلطة فقد حمل النادي اسم "المختلط" بعد تسمية أولى وقصيرة ارتبطت بموقعه الجغرافي قرب ثكنات الاحتلال بجوار "قصر النيل"..
 
في تلك الفترة كانت الفكرة الوطنية (الأهلية) تتصاعد بدعم من الخديوي عباس الثاني الذي أراد الانتقام من الأنجليز لأسباب نفسية وعائلية تمثلت في نفيهم وإذلالهم لجده إسماعيل، وإهانتهم واستهانتهم بوالده توفيق الذي جلب الاحتلال بشكله المباشر، لذلك سعى عباس في بداية حكمه لتكوين حركة سياسية مصرية من طلبة المدارس والحقوقيين ورجال الأعمال، مع أعداد كبيرة من العسكر والتكنوقراط الألمان  والمجريين والنمساويين للاستعانة بهم في صراعه "الفاشل " ضد الأنجليز، وهو الصراع الذي انتهي بعزله ونفيه مثل جده..

ما يهمنا أن عباس الثاني ساهم بهذه السياسة (السايكوعائلية) في تأسيس نوع من "الوطنية المصنوعة" التي برز فيها تلميذه مصطفي كامل وأسماء مثل لطفي السيد وعبد العزيز جاويش ومحمد فريد تحت مسمي راية "الحزب الوطني" الذي تم إعلانه كغطاء لجمعية سرية يديرها الخديوي بنفسه في الخفاء، قبل أن ينشب الخلاف ويتفرق الشركاء..

إشارتي لهذا "التصنيع السلطوي" للوطنية، تعد بمثابة دعوة هادئة لإعادة قراءة تاريخنا الحديث لنفهم عوامل الفشل البنيوي في "الحركة الوطنية المصرية" التي نشأت بدوافع من صراعات في القمة، ثم عكست  نفسها في الشارع لتستخدم الجماهير كغطاء وليس أكثر (كما رأينا بأنفسنا في وطنية 30 يونيو 2013 التي تم تصنيعها لأهداف سلطوية تحت غطاء شعبي).

(4) 

نستخلص من هذا السرد المختصر أن الرياضة في مصر انعكاس صافي للعلاقة بين السلطة المهيمنة بأذرعها العسكرية والمالية والاقتصادية والقانونية من جانب وبين الاستخدام الميكافيللي للجماهير في تحقيق مصالح النخبة الحاكمة على الجانب الموازي، لذلك فإن نظرة سريعة لرؤساء ومجالس إدارات الناديين الكبيرين في مصر توضح طبيعة السلطة المهيمنة علي البلاد في مرحلة ما، كما توضح طبيعة العلاقة بين تلك السلطة والجماهير المخدوعة بالشعارات وضرورات المعيشة، ففي نشأة الأهلي برزت سلطة وحضور الرقابة  المالية الأنجليزية (ميتشيل)، بينما ظهر في الزمالك الشق الفرنسي من الرقابة المالية الثنائية لسلطة المحاكم المختلطة (مزرباخ)، وكلنا يعرف أن المحاكم المختلطة تشبه مرتضى وقوانينه، فقد كانت تمثل القضاء المنحاز  للأجانب  ضد أهل البلد، كما  تمثل إزدواجية  القوانين وحالة الخلط والاختلاط.

 

الرياضة في مصر انعكاس صافي للعلاقة بين السلطة المهيمنة بأذرعها العسكرية والمالية والاقتصادية والقانونية من جانب وبين الاستخدام الميكافيللي للجماهير في تحقيق مصالح النخبة الحاكمة على الجانب الموازي،

 



وفي مرحلة لاحقة بعد النشأة، تفاخر "نادي الوطنية المصرية" بأسماء مثل عبد الخالق ثروت (جزار الحرية وراعي الأحكام العرفية وذراع الاحتلال) وأحمد حسنين (ثعلب القصر الملكي وأحد رؤوس الفساد)  وعبود باشا (رجل المال السياسي المستفيد من الحالة الأهلية في الاقتصاد التي سبقه إليها طلعت حرب) والفريق  مرتجي (رجل البرستيج العسكري) وكلها شخصيات تم تقديمها للجماهير كرموز مضيئة للوطنية، بالرغم من الاختلاف  الفادح والفاضح فيما بينهم..

كذلك استمر الزمالك تحت حكم الخلطة العسكرية والمالية والقانونية من مزرباخ وبيانكي وحيدر باشا إلى مرتضي منصور، القاضي الفاسد الذي فرض أسلوبه علي الملعب، وكشف الغطاء (بغباء مشكور) عن اللعبة الخفية، واستدراج الأهلي للعب في مباراة مفتوحة بلا قواعد، لذلك لا يستبعد العقلاء أن يؤدي هذا الخروج عن القواعد إلى نزول الجماهير لأرض الملعب لتشارك بنفسها في الصراع .

(5)

في أثناء ثورة يناير تبين أن "الجماهير المنظمة" التي كان يعدها جمال مبارك وشقيقه علاء لمساندة مشروع توريث الحكم، صارت رقما مؤثرا في الحراك الشعبي ولاعبا مهما في لعبة "الوطنية المصنوعة" التي أسسها عباس الثاني، لهذا برزت حالة من الصراع والتنافس "الفوقي" للاستحواذ على هذه القوة الشعبية المنظمة (تشكيلات الألتراس)، وانتهى الصراع بعد 3 يوليو بقرار سلطوي يستهدف تفكيك هذه التشكيلات الجماهيرية، لصعوبة التحكم في حركتها والسيطرة على ردود أفعالها، وكانت صدمة التخويف الدموي في استاد بورسعيد علامة فارقة في انقلاب السلطة علي الألتراس. 

وبالرغم من حجب المعلومات ووقف التحقيقات في (مذبحة الـ74) إلا أن الأسلوب التخويفي استمر بالتوازي مع محاولات التفكيك، وانتقلت صدمات التخويف من الأهلي إلى الزمالك، الذي تذوقت جماهيره طعم دمها في مذبحة ملعب الدفاع الجوي، وأعقب المذبحة مواجهات خاضها (مرتضي منصور) ضد مشجعي النادي الذي يترأسه، وانكشفت مهمة  منصور في معركة تكسير الألتراس نيابة عن سلطة أكبر، واستخدم ضد جماهيره تعبيرات أمنية وسياسية متداولة في الخطاب السياسي الرسمي مثل الارهاب والبلطجة وخروج الألتراس عن القانون، في المقابل فرض جمهور الأهلي أسلوبه "الشعبي" على الإدارة وجعلوا من ضحاياهم "شهداء" لا يفرطون في إحياء ذكراهم والتنديد بما حدث لهم والمطالبة بالقصاص من قاتليهم.

(6)

هذه الزاوية في النظر لما وصلت إليه العلاقة بين الناديين الكبيرين تفتح أمامنا ممرا خفيا لفهم خلفيات الصراع باعتباره "صراعا رئيسيا بين سلطة وجماهير"، وليس مجرد صراع فردي بين منصور والخطيب، أو تنافس رياضي بين فريقين، فقد كان مسكوتا عن الأهلي عندما كان قريبا من السلطة ويلعب لتحقيق أهدافها، لكن "موقعة بور سعيد" قطعت الجسور بين السلطة والأهلي وصنعت تاريخا جديدا يشبه "الحالة الينايرية"، وبتعبيرات يناير نقول إن (الشعب الأهلاوي ركب يا باشا) وأجبر قيادته على الاختيار الصعب: إما الولاء للنادي وجماهيره أو التضحية بدماء أبنائه والاستمرار في حضن السلطة، وكان اللاعب النزيه محمد أبو تريكة قائدا شعبيا لاتجاه عدم التفريط بالدم للحفاظ مكاسب خسيسة تراعي الشهرة والمال وحضانة السلطة علي حساب القيم الإنسانية والولاء للنادي وأخلاق الرياضة، ودفع أبو تريكة ثمن موقفه وصار متهما بما يفوح من فم منصور (ومن يقفون خلفه) من تهم ملفقة كريهة الرائحة والتوجه..

 

جماهير الأهلي والزمالك وبقية الأندية، هم في الأصل شعب واحد يعاني الظلم نفسه والاختلال نفسه ومن مصلحة الجميع أن يعملوا معا لضمان دولة قانون يسري فيها العدل والمساواة والحرية والكرامة والاحترام بدلا من المحسوبية والبذاءة وإهدار القوانين،

 



وتوالت المواقف التي تؤكد قوة "الشعب الأهلاوي"، وأبرزها: رفض وصاية تركي آل شيخ الذي استخدم ثغرة الدعم القديم للأهلي من أمراء آل سعود، وتسلل إلى منصب الرئاسة الشرفية ووضع سمعة النادي الشعبي في امتحان عسير، لكن الجماهير اتخذت القرار الحاسم، ونفذته في هتاف علني شهير أطاح بجاسوس الترفيه وأنهى فترة العلاقة المشبوهة بين إدارة الأهلي ومزرباخ الترفيه النفطي المسموم..

هذا الدور المؤثر لجمهور الأهلي أشعر الأجهزة بالخطر وحفزها على إطلاق الأسلحة القذرة ضد النادي، ليس كرها في الخطيب، لكن عقابا له على عدم تكسير جماهيره الثائرة الحرة، كما فعل منصور بالوايت نايتس..

(7)

تصور الخطيب أن القانون يكفي لوقف بذاءات منصور ضده وضد النادي الأهلي فلجأ إلى المحاكم، وانتظر عبثا رفع الحصانة عن النائب المشمول برعاية الأجهزة، والذي حرص الرجل الكبير في بداية عهده على رعاية مصالحه بينه وبين الأهلاوي شوبير، لكن الأحداث أثبتت أن منصور أكبر من القانون وأن الهدف المخطط له أكبر من كرة القدم، لهذا اضطر الخطيب للاستعانة بشعبه، وسمح (وربما ساهم  بالدعم الناعم) في إطلاق عشرات الصفحات والمجموعات علي السوشيال ميديا، لترتفع فيها أصوات "التالتة شمال" لتهز سلطات وجبال..

وبين يوم وليلة تحولت هتافات جماهير الأهلي  إلي منشورات سياسية تفضح وتتوعد وتتحدث عن دولة البلطجة وغياب القانون وسلطة #حنفي_الدكر، وتندد بتدخل مسؤولين كبار في الصراع المريب ضد الأهلي..

وكما حدث من قبل في استخدام أسماء سعد زغلول وعبد الحكيم عامر لدعم نفوذ الناديين خارج المستطيل الأخضر، ترددت أسماء كامل الوزير "والكبير أوي" وصارت الكرة في حوزة جماهير الأهلي بما ينذر بصراع يصعب توقع نتائجه، لهذا قد تبادر السلطة باحتواء الموقف الخطير قبل وصوله إلي ذروة لا يمكن تفاديها، وقد تتغافل فتدفع ثمن حماقتها وقراراتها الخاطئة، لكن في كل الأحوال ومهما كانت جهود الاحتواء فإن رصيد الغضب لدى قطاع واسع من الشعب قد زاد وفاض ولمس الحدود الحمراء، خاصة وأن "كل شيء انكشفن وبان" أمام جماهير غفيرة لم تكن تهتم قبل ذلك بالحديث عن مستوى نزاهة القضاء أو انحيازاته، ولم تندد بتدخلات الأجهزة واستخدامها المعيب للقوانين، لكنها في هذه الأزمة تتحدث بلغة تمرد سياسي لا تحجبها إدارة النادي بل تشجعها وتتعامل معها باعتبارها سبيل لإعادة الاعتبار بعد أن تبينت لهم أوهام دولة القانون..

وحتى لا أطيل أكثر، أنبه إلى ضرورة استثمار الحالة الشعبية لضمان العدل واحترام القانون بعيدا عن التعصب والاحتراب بين الجماهير، فجماهير الأهلي والزمالك وبقية الأندية، هم في الأصل شعب واحد يعاني الظلم نفسه والاختلال نفسه ومن مصلحة الجميع أن يعملوا معا لضمان دولة قانون يسري فيها العدل ، وتتحقق فيها المساواة والحرية والكرامة والاحترام بدلا من المحسوبية والبذاءة وإهدار القوانين، والعاقل من يدرك أنه لا يستطيع تمرير الفساد والتزوير في زمن "الفار"، و"التوثيق" و"السماوات المفتوحة" و"قوة الجماهير الغفيرة"..

اللهم لا تعاقبنا بإشعال الحرائق بيننا، وانعم علينا بثورة عدل وصيحة حق ضد كل قبيح وفاجر وظالم.

tamahi@hotmail.com