قضايا وآراء

ما حقيقة الموقف الدولي من "الجمهورية الجديدة" في تونس؟

1300x600

لفهم الواقع التونسي، سيكون علينا أن نتجاوز الفاعلين الجماعيين المحليين بجميع خرائط طرقهم؛ سواء أكانوا في السلطة أم في المعارضة، أي سيكون علينا استقراء "خارطة الطريق" الخفية التي وضعتها القوى الدولية والإقليمية النافذة للإقليم كله. فوراء الجدل المحتدم حول القرار الوطني المستقل ورفض التدخلات الخارجية، يوجد واقع اقتصادي واجتماعي وثقافي، يشير كل ما فيه إلى غياب مقومات "السيادة الوطنية"، وإلى محدودية هامش التحرك الحر لكل القوى الداخلية، بما فيها منظومة الحكم التي تحاول احتكار سردية السيادة، وتوظيفها لضرب خصومها السياسيين والتشكيك في وطنيتهم، أو على الأقل المزايدة عليهم فيها. 

بحكم وجود شبه إجماع بين القوى/ المنظمات الدولية في مواقفها الرسمية من الوضع التونسي بعد 25 تموز (يوليو) من السنة الفارطة، وبحكم "تمرد" الرئيس التونسي على كل بيانات "القلق الشديد"، والدعوات المتكررة للحوار الشامل وللفصل بين السلطات، فإن المهتم بالشأن التونسي سيتساءل عن مصدر قوة النظام التونسي أمام مراكز القرار الدولي، أو على الأقل سيتساءل عن حقيقة تلك المواقف الرسمية وعلاقتها بالمواقف الخفية التي يبدو أنها لا تتطابق معها ألبتة. ويكفي هنا أن نذكّر بمصير عمران خان رئيس وزراء الباكستان، صاحب الأغلبية البرلمانية والدعم الشعبي القوي. فهذه الشخصية السياسية التي تقود دولة نووية وقوة إقليمية، وجدت نفسها خلال أيام خارج المعادلة السياسية الباكستانية؛ لأنها قد شكّلت تهديدا جديا للمصالح الاستراتيجية الغربية. 

إننا لم نذكر مثال عمران خان إلا للتذكير بحقيقة جيو ـ سياسية مهمة، ألا وهي عدم مبدئية الموقف الغربي من الديمقراطية، واستعداده لإسقاط أي نظام ديمقراطي يهدد مصالحه أو يتمرد على إملاءاته في القضايا الاستراتيجية، حتى لو كان ذلك النظام من حلفائه. وإذا ما عدنا إلى الشأن التونسي -باعتبارها دولة لا تقارن بالباكستان من جهة قوتها السكانية أو الاقتصادية أو العسكريةـ، فإننا سنطرح قضية "تسامح" القوى الدولية مع سردية "السيادة الوطنية"، ورفض التدخل في الشأن الداخلي، التي يتبناها الرئيس التونسي. 

ونحن هنا أمام فرضيتين لا ثالث لهما: إما أن نصدّق الرئيس التونسي في سردية السيادة الوطنية وفي جدية التمرد على الإملاءات السياسية الخارجية، وإما أن نعتبر أن سردية السيادة هي جزء من "مسرحية سياسية" يحتاجها الرئيس ـبموافقة غربيةـ، لدعم شرعيته وتنفيذ خارطة الطريق الخفية التي لا تخرج عن فرض إملاءات الجهات المانحة/ الناهبة، والتطبيع مع الكيان الصهيوني.

إن تصديق الفرضية الأولى يبدو أمرا صعبا؛ فرفض الإملاءات السياسية يحتاج إلى اقتصاد قوي أو على الأقل إلى مقاربات جديدة في التعامل مع المسألة الاقتصادية (منوال التنمية) ومع قضية المديونية، بقيادة نخب فكرية وسياسية مختلفة مع وجود دعم شعبي واسع. كما يحتاج "التمرد" على الدائنين وعلى الشركاء التقليديين إلى وجود شراكات بديلة قادرة على تحدي القوى الغربية، بل يحتاج قبل ذلك كله إلى قدرة النظام التونسي على رفع هذا التحدي، دون أن تعارضه العديد من القوى الداعمة له. وإذا ما علمنا أن النظام التونسي مازال يفاوض صندوق النقد الدولي الذي تتمتع أمريكا فيه بحق الفيتو، وعلمنا أيضا أن منظومة الحكم في تونس مازالت خاضعة لورثة المنظومة القديمة وحلفائهم الموضوعيين في مختلف الأصعدة الاقتصادية والثقافية والإعلامية وغيرها، فإن سردية السيادة الوطنية تبدو أمرا متناقضا مع الواقع.

أمّا الفرضية الثانية، فتبدو أقرب للتصديق بحكم وجود سوابق كثيرة ترجّحها. فـ "المسرحة" أو هيمنة التخييل جزء من الجملة السياسية للرئيس قيس سعيد ـولمن يقف خلفه في الدولة العميقة وفي الخارج- منذ أن ترشح للانتخابات الرئاسية، بل هي جزء من خطابه/ صورته منذ أن طرح نفسه باعتباره "خبيرا دستوريا". ألم يطلب "الخبير الدستوري" قيس سعيد من الحكام والمعارضة أن يرحلوا جميعا لأنهم زيفوا الوعي بقضاياهم الهوياتية، ثم جعل من سردية الهوية ـ الموظفة ضد حركة النهضة أساسا ـ المبدأ التوليدي لنسف النظام البرلماني المعدّل والديمقراطية التمثيلية؟ ألم يدعو المرشح الرئاسي قيس سعيد إلى بناء "كتلة تاريخية"، ثم عمد إلى تجذير الانقسام بين التونسيين على أساس الهوية؟ ألم ينتقد آلية الاستفتاء واعتبرها تؤسس لـ "دكتاتورية متنكرة"، ثم لجأ إليها لتمرير دستوره الجديد؟ ألم يعتبر التطبيع "خيانة عظمى"، ثم حدثتنا وسائل الإعلام "الإسرائيلية" عن وجود مفاوضات بين الكيان الصهيوني وتونس، وعلمنا بعد ذلك بمشاركة تونس في مناورات عسكرية إلى جوار "إسرائيل" في المغرب والسينغال، أما في تونس فقد أنكرت وزارة الدفاع مشاركة قوات إسرائيلية في المناورات؟ 

 

نحن هنا أمام فرضيتين لا ثالث لهما: إما أن نصدّق الرئيس التونسي في سردية السيادة الوطنية وفي جدية التمرد على الإملاءات السياسية الخارجية، وإما أن نعتبر أن سردية السيادة هي جزء من "مسرحية سياسية" يحتاجها الرئيس ـبموافقة غربيةـ،  لدعم شرعيته وتنفيذ خارطة الطريق الخفية، التي لا تخرج عن فرض إملاءات الجهات المانحة/ الناهبة والتطبيع مع الكيان الصهيوني.

 



إذا ما وضعنا "سردية السيادة" في سياق الخطاب الشعبوي القائم على ترضية الرأي العام ثم الانقلاب عليه واقعيا، فإن تلك السردية ستظهر باعتبارها "مسرحية سياسية" موجهة للاستهلاك المحلي بموافقة القوى الدولية. فمثلما يحتاج الرئيس إلى تقوية الدعم الشعبي وضرب القوى المعارضة بسردية السيادة، تحتاج القوى الدولية هي الأخرى إلى غض الطرف عن هذا الخطاب الصدامي؛ لأنها تعلم أنه خطاب موجه للداخل التونسي ولا علاقة له بالسياسات الحقيقية للدولة، ولا تأثير له على التزام النظام بفرض"حزمة" الإملاءات الاقتصادية (رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات، تجميد الأجور، تخفيف النفقات العمومية، إلخ) والسياسية (مركزة السلطة وإضعاف المعارضة السياسية والنقابية والمدنية؛ تمهيدا للتطبيع ولدور إقليمي جديد). 

وبحكم غياب أية جبهة معارضة قادرة على تغيير المعادلة المحلية، ـومن ثم تعديل المواقف الدولية القائمة على قراءة براغماتية لموازين القوى في تونسـ، فإننا نرجح أن تواصل القوى الدولية المراهنة على الرئيس التونسي بصرف النظر عن انتقاداتها "الخطابية"، التي لا وظيفة لها إلا الإيهام بأهمية الديمقراطية عند تلك القوى "الإمبريالية".