كتاب عربي 21

البرهان والفوضى المختلقة

1300x600

سمعت بمصطلح الفوضى الخلاقة لأول مرة، في ثنايا كتابات الأمريكي دان براون، الذي ذاع أمر مؤلفه الضخم "شيفرة دافنشي"؛ يقول براون إن اول من سكَّ ذلك المصطلح هم الماسونيون، الذين يرون أن إعادة تشكيل العالم حسب رؤاهم يتطلب إشعال فوضى "متعمدة"، بأيدي أشخاص معينين، بدون الكشف عن هوياتهم، باعتبار أن ذلك يهيئ الجو العام لقبول الناس بما يطرحه الماسونيون من أساليب حياة "خالية من التوترات"، ثم وفي مطلع عام 2005 أدلت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس بحديث لجريدة واشنطن بوست الأميركية، أعلنت فيه عن نية الولايات المتحدة نشر الديمقراطية بالعالم العربي وتشكيل "الشرق الأوسط الجديد"، عبر نشر "الفوضى الخلاقة" فيه، ووجد أنصار الأنظمة الشمولية في قولها هذا ما يلزمهم من ذخيرة، لوصم ثورات الربيع العربي الهادفة للإطاحة بالديكتاتوريات العربية المزمنة، بأنها من صنع الولايات المتحدة.

تجثم على صدور السودانيين حاليا حكومة عسكرية تعمد على إغراق البلاد في حال من الفوضى، ولكن، ولأن تلك الحكومة تتألف من شخوص لا حظ لهم من الفكر والوعي السياسي ـ لأنهم ما ولجوا دواوين الحكم إلا لحماية مصالحهم المادية الضخمة القائمة على احتكار الجيش لمعظم النشاط الاقتصادي ـ فإن الفوضى التي يعملون على تكريسها شمشونية، أي مدمرة، وستتسبب في هدم المعبد السوداني على رؤوس الجميع.

بدأ البرهان باختلاق الفوضى عندما رأى ان وجود عبد الله حمدوك رئيسا للوزراء في الحكومة التي تشكلت عقب سقوط نظام عمر البشير في نيسان/ أبريل من عام 2019 يحول دون تحقيق طموحه الشخصي في أن يصبح رئيس دولة كامل الصلاحيات، فقد انتبه البرهان الى ان حمدوك يحظى بشعبية كبيرة داخليا وباحترام واسع دوليا، وجاهد البرهان لدق اسفين بين حمدوك وقاعدته الجماهيرية، ونجح الى حد ما في هذا المسعى، حيث استدرج حمدوك الى التنازل عن صلاحياته في ملفات عالية الأهمية لصالح المجلس السيادي (الرئاسي) الذي يضم البرهان وأربعة من الجنرالات الذين يدينون بالولاء والطاعة العمياء للبرهان، فبدا حمدوك في نظر الشارع السياسي قليل الحيلة.

ولكن وبسبب شخصيته الانفعالية، لم يكن البرهان قادرا على العمل الدؤوب الذي يتطلب طول النَّفَس ،للتخلص من حمدوك ووزرائه المدنيين، ولهذا اختار أقصر الطرق لتحقيق تلك الغاية، وهي الانقلاب العسكري الكامل ونفذا انقلابه ذاك في 25 تشرين اول/ أكتوبر من العام الماضي، واعتقل حمدوك ومعظم الوزراء في حكومته، وكان التمهيد لذلك الانقلاب باختلاق الفوضى، وهكذا شهدت الخرطوم وأطرافها حوادث سلب ونهب وقتل يقوم بها نفر ذوو تسليح عالٍ على متون سيارات بلا لوحات، يرتدون أزياء المليشيات التي تأتمر بأمر البرهان، ولما لم يحدث كل ذلك الفوضى المنشودة، عمد الى تحشيد بعض شيوخ قبائل شرق السودان لمناصرته، فقاموا باحتلال ميناء البلاد البحري الذي تمر منه صادرات وواردات البلاد، وقطع الطريق الدولي الرابط بين شرق السودان وبقية أرجائه، مما تسبب في ندرة في السلع والأدوية، (كافأ البرهان الزعيم القبلي الذي كان رأس الرمح في تلك العملية، والذي قال صراحة ان الغاية منها اسقاط حكومة حمدوك، بأن اوفده الى الأردن للاستجمام واجراء فحوصات طبية).

 

تجثم على صدور السودانيين حاليا حكومة عسكرية تعمد على إغراق البلاد في حال من الفوضى، ولكن، ولأن تلك الحكومة تتألف من شخوص لا حظ لهم من الفكر والوعي السياسي ـ لأنهم ما ولجوا دواوين الحكم إلا لحماية مصالحهم المادية الضخمة القائمة على احتكار الجيش لمعظم النشاط الاقتصادي ـ فإن الفوضى التي يعملون على تكريسها شمشونية، أي مدمرة،

 



وبعد مرور تسعة أشهر على انقلابه، والمعارضة الشعبية ضده تتسع يوما بعد يوم، لم يجد البرهان بُدّاً من اللجوء الى سلاح القبيلة، من منطلق أن رجالات الإدارة الأهلية (العُمد وشيوخ وزعماء القبائل) من فئة "شعب كل حكومة"، فرأى ان يستعين بهم ليشكلوا حاضنة مدنية لحكمه تبعد عنه شبهة العسكرة، وأوكل هذا الملف إلى نائبه في رئاسة المجلس السيادي محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لأن الأخير سخي بماله لتحقيق طموحه السياسي، ولأنه وفي التحليل الأول والأخير على نفس الموجة والتردد من حيث الفهم والوعي والإدراك، مع القيادات القبلية بحكم انه أصلا نتاج مليشيا قبلية.

منذ انقلاب البرهان الأخير، قُتل أكثر من أربعمائة شخص في إقليم دارفور وتعرض الآلاف للتشريد، إثر تعرض المناطق الغنية بالمعادن في الإقليم لغارات عسكرية قوامها الجنجويد الموالين للبرهان (او هم في طريقهم الى موالاته، بشرط إطلاق أيديهم لينهبوا الثروات المعدنية في دارفور)، ولكن ذلك لم يكن كافيا لإكمال المشروع البرهاني الرامي الى جعل الحكم عسكريا بالكامل، وهكذا قام حلفاء البرهان في ولاية النيل الأزرق بإشعال فتنة قبلية أدت الى هلاك ما يربو على مائتي شخص في غضون خمسة أيام، ثم انتقل الشرر الى شرق السودان مجددا.

فشلت مساعي البرهان طوال الشهور الماضية في تكوين حكومة مدنية صورية يتحكم هو وكبار الجنرالات فيها، بتجريدها من الكثير من الصلاحيات التنفيذية، فكان أن أعلن في الرابع من تموز/ يوليو الجاري عزوف العسكريين عن عضوية مجلس السيادة، وأنهم سيكتفون بعضوية المجلس الأعلى للقوات المسلحة (الذي سيتولى "فقط" شؤون الأمن والدفاع والسياسة الخارجية والبنك المركزي)، وجاءه الرد في شكل مظاهرات حاشدة ترفض ان يكون للعسكر أي سهم في أمور الحكم تحت أي مظلة او ذريعة.

ومن هنا ـ وفي تقديري ـ قرر البرهان المضي قدما في سياسة الفوضى المختلقة، بإشعال الفتن القبلية في أطراف السودان، ليكون ذلك مبررا لفرض حكام عسكريين على الأقاليم "المضطربة"، وربما إعلان الأحكام العرفية في عموم أرجاء البلاد، وتحت دخان تلك الأحكام يحكم سيطرته على دواوين الحكم والدولة مؤسسا لنظام عسكري عضوض.