كتاب عربي 21

النخبة والدستور: انشطار الوعي بتونس

1300x600
كلما استمرت الأزمة السياسية في تونس وطالت، ازدادت بشكل مواز لها الأزمة العميقة التي تعاني منها النخبة بمختلف مكوناتها واتجاهاتها. فما يحدث من صراعات ومناورات وخيبات وتراجعات ارتدادية ليس وليد اللحظة، أو نتاج القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد، بقدر ما هي مسؤولية جماعية جسدتها ثقافة سياسية ترسخت طيلة المرحلة الماضية، وأنتجت في النهاية حالة نفسية جماعية تحمل في طياتها عوامل الردة والطمع والفشل.

عندما نسترجع الأحداث يمكن أن يساعدنا ذلك على حسن تشخيص الحالة.

كادت الحياة السياسية ومصالح التونسيين تتعطل نهائيا قبل الخامس والعشرين من تموز/ يوليو الماضي، وعجزت الطبقة السياسية وفي مقدمتها القوى المتحكمة في النظام عن معالجة الأمر واتخاذ إجراءات حاسمة وجذرية لإنقاذ الأوضاع. هكذا توفر المناخ الملائم لكي يشرع الرئيس سعيد في إطلاق صواريخه التي كان يؤكد على كونها جاهزة فوق المنصة. لم يفهم أحد يومها ماهية هذه الصواريخ وما القصد من ورائها، لكن عندما دقت ساعة الصفر، تبين أن للرجل خطة كاملة تهدف إلى تغيير النظام والمنظومة.

في هذا المنعطف الأول انقسمت النخبة بين رافض لهذه العملية القيصرية، ووصفها بـ"الانقلاب"، وبين جزء واسع من المؤيدين الذين اعتبروا الأمر "تصحيح مسار" وإنقاذا للدولة من السقوط. وعندما صدر المرسوم 117 تراجع جزء من المؤيدين حين استولى الرئيس على صلاحيات مطلقة لم يتمتع بها سابقوه من الرؤساء، مع ذلك اعتبر البعض أن ذلك من الضرورات التي تبيح المحظورات. ولما قرر الرئيس تغيير الدستور، حرص البعض على أن يكون لهم دور طلائعي في صياغة البديل، واندفعوا نحو المشاركة في عضوية اللجنة التي شكلت لهذا الغرض. قبل جميع الأعضاء بكل الشروط التي حددها لهم قيس سعيد، ومن أهمها أن اللجنة ستكون استشارية، بمعنى أن آراءهم لن تكون ملزمة للرئيس الذي له الحق المطلق في أن يأخذ بآرائهم سواء بصفة جزئية أو كلية، أو أن يلقي بها في سلة المهملات. وهو ما حصل عمليا عندما قام بنشر وثيقة دستوره الخاص به، والتي جاءت مختلفة كليا عن النص الذي أعد صياغته رئيس اللجنة وزميل له، هو أيضا أستاذ قانون دستوري. لهذا ما أن أصيبا برجة ذهنية وسياسية قوية لم يتوقعاها، حتى قررا نتيجة الإحساس بالخيبة والمهانة أن يهاجما الرئيس، ويتهماه بتكريس الحكم الفردي، والاستعداد ليصبح دكتاتورا.
رغم هذا المسار الطويل نسبيا، وما تخلله من جرعات مرة ورجات قوية، هناك من لا يزال مصرا ليس فقط على تزكية المسار الرئاسي، بل أيضا تبريره والتأكيد على سلامته، ووصفه بالمنهج الديمقراطي السليم والثوري، رغم أن عديد الفصول من أبواب الدستور الجديد تتعارض مع الخلفيات الفكرية والفلسفية لهؤلاء

رغم هذا المسار الطويل نسبيا، وما تخلله من جرعات مرة ورجات قوية، هناك من لا يزال مصرا ليس فقط على تزكية المسار الرئاسي، بل أيضا تبريره والتأكيد على سلامته، ووصفه بالمنهج الديمقراطي السليم والثوري، رغم أن عديد الفصول من أبواب الدستور الجديد تتعارض مع الخلفيات الفكرية والفلسفية لهؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم حداثيين وديمقراطيين.

ما يفسر ذلك هو كره هؤلاء للإسلاميين ولحركة النهضة تحديدا، هذا هو المقياس الوحيد المعتمد لديهم في التأييد أو الرفض. المهم بالنسبة لهم هو التخلص من الخصم بأي أسلوب، بناء على مقولة عدو عدوي صديقي، حتى لو ارتبط ذلك بمقولة أخرى معروفة هي أيضا في سرديات التاريخ البشري وهي "أكلت يوم أكل الثور الأسود".

لقد سبق أن أكدنا هذا الأمر في مقال سابق نشر في "عربي21" تحت عنوان "من أجل الديمقراطية.. لا من أجل النهضة"، أن عمى الألوان هو الذي قاد إلى هذا السيناريو التراجيدي الذي لن يذهب ضحيته الإسلاميون وحدهم، رغم الأخطاء الجسيمة التي ارتكبوها خلال العشرية الماضية، ولكن كل الأحزاب تقريبا ستدفع الثمن بنسب متفاوتة، إلى جانب معظم مكونات المجتمع المدني.

في ضوء هذا المشهد الغريب رفعت الناشطة النسوية بشرى بلحاج حميدة صوتها عاليا بكل شجاعة، وطالبت رئيس الجمهورية بأن يعيد لها دستور 2014 بمشاكله وبعض غموضه. لقد أصبح التمسك بذلك الدستور أقصى الأماني لدى عديد الديمقراطيين؛ لأنه مقارنة بدستور 20 حزيران/ يونيو 2022 يتبين لأصحاب الرأي الذين لا تزال عيونهم مفتوحة وتميز بين الألوان والكلمات والغث والسمين؛ أن الحقوق التي ضمنها دستور الثورة سقطت أو طمس العديد منها في الوثيقة الدستورية الجديدة، التي جاءت ألغامها أكثر عددا من سابقتها وأشد غموضا وأخطر وقعا.
سيكون استفتاء حول قيس سعيد وليس حول الدستور، أي تفويض مطلق وبيعة شعبية لشخص الرئيس، في حين أن الثقة في أخلاق الحاكم لا تكفي وحدها للحكم له أو عليه، لأن العبرة بالسياسات والاختيارات، ويخشى أن تكون النتيجة مؤلمة ومكلفة


مع ذلك لا يزال البعض من "رموز النخبة" يطلقون حناجرهم لإقناع التونسيين بأن دستور 2014 هو دستور النهضة، وأنه دستور داعشي بامتياز، وأن الشعب التونسي يجب أن يقطع معه نهائيا ويلقي به في "مزبلة التاريخ".

لقد أسهم هذا الوعي المزيف في طمس الحقائق، وقلب الموازين والقيم، وتحويل الحق إلى باطل والكذب إلى صواب. هذه لعبة النخب، تفتقر في كثير من معاركها للوضوح، وتفتقر إلى المبدئية والأخلاق، لهذا السبب يبقى المواطنون ضحية الجهل والغش السياسي والأيديولوجي، يهيمون على وجوههم دون دليل صادق، إلى أن يأتي يوم الاستفتاء فيذهب بعضهم للإدلاء بأصواتهم دون أن يطلعوا على الدستور الجديد، ومن اطلع منهم لا يعلم الكثير من خفايا الفصول والكلمات.

سيكون استفتاء حول قيس سعيد وليس حول الدستور، أي تفويض مطلق وبيعة شعبية لشخص الرئيس، في حين أن الثقة في أخلاق الحاكم لا تكفي وحدها للحكم له أو عليه، لأن العبرة بالسياسات والاختيارات، ويخشى أن تكون النتيجة مؤلمة ومكلفة، ولن تعرف إلا بعد فوات الأوان!!