قضايا وآراء

السياسة الواقعية من فلسطين وسوريا إلى أوكرانيا

1300x600
قلّما واجهت السياسة الواقعية مأزقاً كالذي واجهته خلال السنوات الماضية وتحديداً في الحدثين السوري والأوكراني. ولنبدأ بالثاني لكونه الأجدّ والأحدث في ذاكرة القراء والشعوب، فالسياسة الواقعية بالأصل كان أحد منظريها ومنفذيها عملياً، وروّج لها عبر مقالاته وكتبه، وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر. ومناسبة الحديث، تصريحاته الأخيرة التي لقيت صدّاً ورداً وتفاعلاً قوياً في العواصم العالمية ومن بينها العاصمة المعنية كييف، وذلك حين دعا في مؤتمر دافوس الأخير إلى واقعية سياسية بحيث يتم استرضاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا عبر منحه أراضي أوكرانية، أملاً في وقف الحرب ووقف تداعياتها.

الواقعية السياسية ترى في أساسيتها أن الدولة هي اللاعب الأساسي والوحيد في السياسة الدولية، ومعها الدولة الأقوى التي تستطيع أن تمارس قوتها ونفوذها -وبلطجيتها بالأصح- على الأضعف، فلا محلّ لتطلعات الشعوب ولا لمصالحها، ولا لحروب العصابات. ولذا فإن استرضاء بوتين اليوم في أوكرانيا بنظر هذه المدرسة هو الذي سيحلّ مشكلة أمن أوروبا وأمن العالم الاقتصادية، ولا سيما مخزون القمح الذي يشكل حجمه في أوكرانيا أكثر من 20 مليون طن، وهو المحاصر والمغلقة عليه الموانئ بسبب الحرب الأوكرانية وإغلاق الموانئ التي باتت تحت سيطرة روسيا، أو تحت تهديدها.

لكن من يجادل في عبثية هذه السياسة الواقعية يُذكر كيسنجر بالتنازلات التي قدمها تشامبرلين لهتلر في بولندا قبيل الحرب العالمية الثانية، والتي لم تكن كافية لوقف شهية هتلر، فدخل الحرب وأدخل معه العالم كله، فكانت أول ضحايا الحرب هي السياسة الواقعية التي نادى بها أصحابها على أنها يمكن أن تخفف من الصدام الذي لم يعبأ به هتلر.
كان البعض ينادي بالواقعية السياسية، بعد أن دخلت قوة إقليمية ودولية لدعم نظام بشار الأسد، فكانت حصيلته الحوار مع النظام، والدخول في مفاوضات رعتها الأمم المتحدة، ومع مرور الوقت تقزمت المفاوضات، وتقزمت أجندتها من انتقال للسلطة إلى كتابة دستور

قبل سنوات ومع اندلاع الثورة السورية كان البعض ينادي بالواقعية السياسية، بعد أن دخلت قوة إقليمية ودولية لدعم نظام بشار الأسد، فكانت حصيلته الحوار مع النظام، والدخول في مفاوضات رعتها الأمم المتحدة، ومع مرور الوقت تقزمت المفاوضات، وتقزمت أجندتها من انتقال للسلطة إلى كتابة دستور لا أحد يعلم الوقت الذي سيحتاجه، بينما طاحونة القتل والرعب والإرهاب والتهجير والاحتلال تتواصل بحق الشعب السوري.

أما الطرف الأقوى عسكرياً وليس أخلاقياً فهو الغزو الروسي والإيراني لسوريا، الذي ظل مهموماً ومشغولاً بتمزيق فصائل الثورة السورية، فمنها من كان يفاوض في درعا وعمان، ومنها من كان يفاوض في جنيف وآخر يفاوض في القاهرة والبعض يفاوض في إسطنبول.. وهكذا، فكانت استراتيجيته التي تقوم على تجزئة الثورة دليلاً واضحاً على أن السياسة الواقعية هي لتثبيت واقعية الدولة العميقة المتسلطة على الشعوب، والتي في جوهرها وحقيقتها عصابات مافيوية متحكمة لعقود، لا علاقة لها بمصالح الشعوب وهمومها وتطلعاتها وأشواقها.

اليوم في أوكرانيا تجري نفس اللعبة، ولكن باعتبار الطرف الآخر تمثله سلطة الدولة بقيادة زيلينسكي صعّب على أصحاب هذه النظرية تطبيقها مقارنة بالنموذج السوري، إلاّ إذا كان القانون الحاكم وهو كذلك قانون الغاب بحيث القوي يلتهم الضعيف، وهو ما يمهد ويدعو إليه أصحاب هذه النظرية ومن بينهم كيسنجر.
اليوم في أوكرانيا تجري نفس اللعبة، ولكن باعتبار الطرف الآخر تمثله سلطة الدولة بقيادة زيلينسكي صعّب على أصحاب هذه النظرية تطبيقها مقارنة بالنموذج السوري، إلاّ إذا كان القانون الحاكم وهو كذلك قانون الغاب بحيث القوي يلتهم الضعيف، وهو ما يمهد ويدعو إليه أصحاب هذه النظرية

فشلت نظرية السياسة الواقعية مع كل الاحتلالات الأجنبية، ورأينا ذلك في أفغانستان حين كان المحتل سوفييتياً، وحين كان أمريكياً، وعلى مدى فترات الاحتلالات الأجنبية للعالم كله رأينا رحيلها عاجلاً أو آجلاً بانتصار القوى التحريرية. ونحن نرى اليوم تراجع المشروع الاحتلالي الاستعماري الصهيوني في فلسطين، والخشية التي تعتمل في نفوس رموز وقادة الاحتلال التاريخيين من تداعي دولتهم قريباً، مستندين إلى نظرية أن لا دولة يهودية قامت في فلسطين أكثر من ثمانين عاماً، وقد شارف الاحتلال الصهيوني على نهاية هذه الفترة.

وحين لوّح العالم للرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات بضرورة التحلي بالسياسة الواقعية؛ فطرحوا عليه فكرة اللقاءات والاتفاقيات مع العدو الصهيوني، بدأ مسار أوسلو ومسار التفاوض. رأينا جميعنا إلى أين وصل هذا المسار، حيث الطريق المسدود الذي انتظره كما انتظر مفاوضات المعارضة السورية أو كاد مع الروس والنظام.
النموذج الأوكراني اليوم سيكون نقطة اختبار حقيقية للسياسة الواقعية، وفيما إذا كان المحتل والغازي الأجنبي سيكافأ على غزوه وتدميره وتخريبه لدولة صغيرة بحجم أوكرانيا، كما فعل في سوريا، وفيما إذا كان العالم سيتسامح مع هذه الاستراتيجية التدميرية كما تسامح بها من قبل في سوريا وغيرها.. وماذا لو لم يشبع الدب الروسي

ميزة التفوق الأساسية التي تستعلي بها القوى الثورية على القوى الاحتلالية والاستبدادية هي الميزة الأخلاقية، وحين تتخلى هذه القوى الثورية عن هذه الميزة لتقبل بقوانين وأطر وأبجديات الدولة الوطنية السياسية؛ تغدو الأخيرة هي الأقوى، ما دامت متسلحة بجبروتها الأمني والعسكري، ومدعومة بمنظومة خارجية ودولية ترى في كل ما عدا الدولة عصابات خارج القانون.

بكل تأكيد فإن النموذج الأوكراني اليوم سيكون نقطة اختبار حقيقية للسياسة الواقعية، وفيما إذا كان المحتل والغازي الأجنبي سيكافأ على غزوه وتدميره وتخريبه لدولة صغيرة بحجم أوكرانيا، كما فعل في سوريا، وفيما إذا كان العالم سيتسامح مع هذه الاستراتيجية التدميرية كما تسامح بها من قبل في سوريا وغيرها.. وماذا لو لم يشبع الدب الروسي غداً من شرق أوكرانيا، أو حتى من أوكرانيا كلها، ليتمدد فيصل إلى أوروبا؟ فيكون بذلك على خطى هتلر، ونفس الأمر ينسحب على القوى الاستبدادية التي ترى في القوى الأجنبية ملاذاً آمناً لحمايتها، حينها سيكون ذلك درسا لكل الشعوب الثائرة والحية لتخويفها من مآلات قيامها بثورة، وبالتالي تكون الثورة السورية والتدخل الروسي ضدها منصة تحذير وتأديب لكل القوى الطامحة للاستقلال والحرية الحقيقية.