كتاب عربي 21

التزوير بغرض التوزير

1300x600

بعد "سلام الشجعان"، الذي جعل قيام الدولة الفلسطينية في خبر كان، تم توزيع غنائم السلطة الوطنية الفلسطينية التي تولت أمور الحكم في غزة وقسم من الضفة الغربية في 1994، وفاز ذوو الحظوة بالمناصب الوزارية والتنفيذية العليا، ثم حدثت المعجزة بانتصاف عام 1995 حيث نال سبعة منهم درجات الماجستير في مختلف ضروب المعرفة، ومارسوا بذلك "حرق المراحل"، فقد كانت قفزات خمسة منهم من الإعدادية والثانوية إلى الماجستير، متخطين درجة البكالوريوس، ولم يكن مستغربا أن تكون رومانيا مصدر تلك الدرجات الأكاديمية الرفيعة، فبينها وبين القيادات الفلسطينية المزمنة ـ وإن شئت قل التاريخية ـ ود قديم منذ عهد ديكتاتورها الراحل نيكولاي شاوشيسكو.

ومعلوم أن بالشرقيين عربا وعجما ولع بالشهادات ذات الأسماء الطنانة والرنانة، ففي عام 2008 كانت فضيحة وزير الداخلية الإيراني علي كردان، بعد أن اتضح أنه يحمل دكتوراه مزورة من جامعة أوكسفورد، ولما قالت الجامعة إنها لم تسمع به قط، حاول أن يكحلها فـ "عماها"، حيث قال إن وسيطا تسلم منه أطروحة الدكتوراه ثم عاد إليه بعد حين حاملا درجة الدكتوراه من أوكسفورد، ولم يسأله كردان كيف لم تناقش معه الجامعة أطروحته، ولا كيف منحته تلك الدرجة خلال أقل من سنة.

كانت صحيفة القبس الكويتية أول من قرع جرس الخطر في أمر الشهادات الجامعية المزورة، بادئة بخمسة من كبار المسؤولين الكويتيين الذين هبطت عليهم تلك الشهادات من السماء، ثم تولت وسائل إعلام عربية أخرى فتح ذلك الملف، وافتضح أمر عشرات كبار المسؤولين الحكوميين في عدد من الدول العربية، ولكن أكبر الفضائح دويا كانت في العراق حيث، وفي منتصف العام الماضي كشفت التحقيقات عن حصول مسؤولين حكوميين وسياسيين كبار على شهادات جامعية وما فوق الجامعية من مجموع 27 ألف شهادة مزورة حصل عليها عراقيون، وجميعها من الدول العربية، ومعظمها من ثلاث جامعات في دولة عربية بعينها.

للتزوير في دول الشرق سوق، بسبب الولع بالألقاب، ففي عالم الطرب هناك الكواكب والبلابل والعندليبات، وللشعر عمداء وأمراء، وحار البعض في أمر أيقونة الرقص فيفي عبده فجعلها هرم مصر الرابع، ومنذ أكثر من ثلاثين سنة والصحافة السعودية تفضح الشعراء المزورين (بالواو المشددة مع الكسر مرة وبالفتح مرة)، وكتبت كثيرا عن مقاولين شعراء يتولون توريد القصائد لصاحب أكبر عطاء مالي، وعن أشخاص عاطلين من موهبة الشعر يقرؤون قصائد منتحلة على المنابر على أنها نتاج قرائحهم.

أجريت قبل سنوات ليست بعيدة جدا تحقيقا حول الشهادات العليا المزورة، ونشرت جانبا منه في صحف قطر والسودان والبحرين، وكلفني ذلك ثروة طائلة (بمقاييسي)، فقد هاتفني حبيبي أبو الطيب المتنبي قائلا: إذا غامرت في شرف مروم/ فلا تقنع بما دون النجوم، وفهمت فحوى "الرسالة"، وقررت أن أحصل على شهادات من جامعات ذات شنة ورنة، وتواصلت مع جهة تبيع جنس تلك الشهادات وحصلت على درجة الماجستير في طب المسالك البولية من جامعة هارفارد الأمريكية (اخترت ذلك التخصص لأن اسمه يشي بأمر التزوير)، نظير 119 دولارا، وكانت الجهة التي زودتني بتلك الشهادة أمينة، حيث أنها أبلغتني صراحة بأن الشهادة مزورة، ولكن أيضا بأن التزوير متقن بحيث ينطلي على كثيرين، وفتح ذلك شهيتي وطلبت دكتوراه في القانون الدستوري من أوكسفورد، فقالوا لي: طلباتك أوامر وطالما أنت زبون قديم فرسوم الدكتوراه 99 دولارا فقط؛ ولكن بقية من حياء منعتني من إكمال الصفقة.

 

ظاهرة الكتاب الأشباح معروفة في الغرب، وهي أن ينسب شخص إلى نفسه كتابا ألفه غيره، ولكن آفتنا في الشرق هي الشهادات الشبحية، التي أوصلت كثيرين إلى كراسي الوزارة، فالتزوير في بلداننا يقود إلى الشهرة فالتوزير.

 



خلال إقامتي في لندن في منتصف تسعينيات القرن الماضي كلفني البعض بأعمال ترجمة من العربية إلى الإنجليزية لصالح دارسين عرب، وذات يوم زارني شخص قال إنه يريد مني أن أترجم رسالة الماجستير التي أعدها بالعربية إلى الإنجليزية حتى ينال بها الدرجة المنشودة من جامعة بريطانية، وقلبت الأوراق التي قدمها لي، واكتشفت أن أكثر من نصفها مقصوصة من مجلات وكتب وموضوعة جنبا إلى جنب عشوائيا، فسألته ما إذا كان يريد مني ترجمة محتويات كل قصاصة بها وحدة موضوع على حدة، فقال لي: "أنت الخير والبركة، وأكيد عندك خبرة بها الأمور فحاول تسبكها وتربط بينها". كان يريد مني "عمليا" أن أتولى صياغة رسالة الماجستير فقلت له: لو كانت لي القدرة على ذلك لما ظللتُ بلا لقب فوق الجامعي حتى اشتعل الرأس شيبا.

قبل سنوات سرد الكاتب الصحفي السعودي الراحل أحمد المهندس حكاية صحفي عربي كان يعمل في السعودية، ودرج على كتابة مقالات ونشرها باسم زوجته التي لم تكن تحسن حتى كتابة قائمة المواد الاستهلاكية اللازمة لشؤون الطعام والنظافة المنزلية، ونالت المقالات استحسان الأوساط النسائية في السعودية، وسعت العديد من الجمعيات والروابط النسائية إلى التواصل معها ودعوتها لإلقاء محاضرات والمشاركة في ندوات، وبالطبع كانت تلك المرأة أعقل من أن ترتكب حماقة الظهور أمام حشود نسائية سرعان ما كانت ستكتشف أن مخها مثل "دريم ويب"، أي مجرد رغوة عديمة الجدوى، ومع تكاثر الدعوات والاعتذارات استنتجت تلك الجمعيات أن الأستاذة الكاتبة "متكبرة ومتغطرسة"، ولكن سيدة ما لم تيأس ووسطت شخصية كبيرة ومتنفذة لإقناع الأستاذة بتقديم محاضرة أمام حشد نسائي، وقامت الشخصية الكبيرة بالاتصال بالصحفي وطلبت منه السماح لزوجته بتقديم المحاضرة المطلوبة، ولم يكن أمام الرجل من سبيل سوى الاعتراف بأن زوجته ماهرة في فن "القوالة" الذي هو القيل والقال، وفاشلة في مجال المقالة، وأنه يكتب باسمها حتى يرفع معنوياتها!! (لم يكن أمينا ويعترف بأنه كان يريد رفع معنويات نفسه بتوهُّم أنه متزوج بمي زيادة الجديدة).

ظاهرة الكتاب الأشباح معروفة في الغرب، وهي أن ينسب شخص إلى نفسه كتابا ألفه غيره، ولكن آفتنا في الشرق هي الشهادات الشبحية، التي أوصلت كثيرين إلى كراسي الوزارة، فالتزوير في بلداننا يقود إلى الشهرة فالتوزير.