قضايا وآراء

تاريخ فلسطين القديم بين العجز والارتهان

1300x600
يعاني أبناء أمتنا من جهل كبير بتاريخ فلسطين القديم، وينظر له كثيرون على أنه أشبه بالطلاسم؛ ذلك أن المناهج التعليمية في الدول العربية لا تخصص في مادة التاريخ مبحثا عن تاريخ فلسطين القديم، وإذا تطرقت لتاريخها الحديث، فإنها تعرضه مقرونا بمسائل ذات صلة بدورها المزعوم في دعم القضية الفلسطينية. بل إن الدول العربية اليوم تتسابق في حذف اسم فلسطين من مناهجها وكل ما يمت لها بصلة، بل أحلت محلها اسم الدويلة (إسرائيل)؛ بعد عمليات التطبيع المهينة التي كشفت عن معدن السياسة العربية الرقيعة، مع أن الحد الأدنى لمطالب الفلسطينيين لم يتحقق منه شيء، بل ازداد التهويد والانقضاض على الأرض وبناء المستوطنات أضعاف ما كان عليه، منذ أوسلو 1993 حتى اليوم.

يحدث هذا في اللحظة التي نجد فيها المناهج الدراسية في الكيان الصهيوني تلح على تزوير التاريخ، وتقر في روع الطلبة اليهود بأن فلسطين ما هي إلا "إسرائيل" عبر استعراضات تاريخية زائفة لا تستند إلى الواقع والحقيقة في شيء..

إن نسبة ضئيلة جدا من المثقفين العرب يستطيعون التعرض لتاريخ فلسطين القديم باقتدار، وربما لو طلبت من مئة طالب جامعي في أية جامعة عربية أن يثبتوا حقنا التاريخي في فلسطين لوجدت من بينهم واحدا أو اثنين، أو لعلك لا تجد من يستطيع ذلك، بينما تجد في المدارس اليهودية -وخصوصا الدينية منها- ما يحيلك على البكاء.. إنهم يحفظون التزوير عن ظهر قلب، ونحن لا نعرف من الحقائق إلا ما جادت به قراءاتنا واهتماماتنا المتواضعة‍‍‍‍‍‍‍‍‍..!!
يحدث هذا في اللحظة التي نجد فيها المناهج الدراسية في الكيان الصهيوني تلح على تزوير التاريخ، وتقر في روع الطلبة اليهود بأن فلسطين ما هي إلا "إسرائيل" عبر استعراضات تاريخية زائفة لا تستند إلى الواقع والحقيقة في شيء

ويدفعنا ذلك إلى صرخة مدوية نطلب فيها تعليم أبنائنا في البيوت والمساجد والجمعيات ومقار الأحزاب ما تعامت عنه مناهجنا المدرسية ودولنا المطبعة. يجب أن نعلمهم تاريخ فلسطين القديم والحديث، وأن نضع بين أيديهم الكتب والمطبوعات وأن نغذيهم بالوعي والإيمان والثقافة؛ لأنها أسلحتنا الماضية في وجه المحاولات القذرة لطمس هوية هذا الشعب وبلع أرضه ومقدساته زورا وبهتانا.

تقع مسؤولية تصحيح الأخطاء المتعلقة بتاريخ فلسطين على المؤرخين العرب، وعليهم تقع مسؤولية كشف التزوير والتلاعب اللذين تبنتهما الصهيونية منهجا في التعامل مع تاريخ فلسطين؛ فالتاريخ يثبت بما يدع مجالا للشك أن فلسطين كانت وما زالت عربية، وقد عزز الإسلام عروبتها وأكد على هويتها.

فعلى الرغم من المحاولات الخبيثة والجاهدة التي تقوم بها آلة التزوير الصهيونية في سبيل طمس الحقائق التاريخية الثابتة، إلا أن منطقهم التاريخي وهروبهم من بعض وقائع التاريخ، واختيارهم ما يناسبهم من بعضها، وتشويههم لبعضها الآخر، بات أمرا مكشوفا حتى لبعض من كان يمكن أن يكون حليفا لهم في دعم هذا التزوير ومساندته، ذلك أن ثمة جبهة مناوئة من اليهود والأمريكان القدامى والجدد الذين يقفون في وجه المؤرخين المزيفين للتاريخ من اليهود، ومن أهم هؤلاء "كيث وايتلام" اليهودي الأمريكي، صاحب كتاب "اختلاف إسرائيل القديمة" الذي يعد وثيقة مهمة في إدانة التلفيق التاريخي اليهودي حول فلسطين، وحق اليهود التاريخي والديني فيها، مع بداية ظهور جيل جديد من المؤرخين الذين يلتزمون الموضوعية التاريخية، ويسعون للخروج على دائرة المؤرخين الصهاينة الذين وجهوا الكتابة التاريخية المعاصرة المتعلقة بفلسطين لخدمة أهداف الصهيونية القائمة على الكذب والتشويه والتزوير؛ ما أدى إلى حدوث أكبر عملية تزييف للتاريخ في العصر الحديث، حيث تمكن هؤلاء المؤرخون من اختراع "إسرائيل قديمة" لا وجود لها في الواقع..

ويعد المؤرخ اليهودي الأمريكي "كيث وايتلام" من أهم الذين فضحوا ألاعيب اليهود في هذا الشأن، بعد أن كذب الصهاينة الكذبة وصدقوها ..
أهمية كتاب "اختلاف إسرائيل القديمة" تكمن في كونه اعترافا غربيا بقيام فريق من المؤرخين الصهاينة بعملية تزييف ضخمة لأحداث التاريخ القديم في المنطقة، نتج عنها خلق فكرة إسرائيل القديمة على حساب التاريخ العربي الفلسطيني القديم

إن أهمية كتاب "اختلاف إسرائيل القديمة" تكمن في كونه اعترافا غربيا بقيام فريق من المؤرخين الصهاينة بعملية تزييف ضخمة لأحداث التاريخ القديم في المنطقة، نتج عنها خلق فكرة إسرائيل القديمة على حساب التاريخ العربي الفلسطيني القديم، ذلك أن مؤلف الكتاب تمكن من الخروج من دائرة التأثير الصهيوني، والهروب من خطاب الدراسات الدينية التوراتية التي فرضت نفسها على الخطاب التاريخي ووجهته لخدمة الأهداف والمصالح الصهيونية، واستطاعت أن تبعد دراسة تاريخ فلسطين عن دائرة الكتابة الموضوعية، وعدّتْ تاريخ فلسطين تابعا للدراسات الدينية التي تسيطر عليها التوراة والجغرافيا التاريخية للتوراة والمفاهيم التوراتية الخاصة بالعهد والاختيار والخلاص، والحدود ومفهوم أرض "إسرائيل" والحدود التوراتية لهذه الأرض: "من النيل إلى الفرات"..!!

هذا بالإضافة إلى غياب الرؤية العربية لتاريخ الشرق الأدنى القديم وحضارته، وترْك الباب مفتوحا على مصراعيه للمؤرخين والباحثين وعلماء الحضارة الغربيين لكي يسيطروا سيطرة تامة على الكتابة التاريخية الخاصة بالشرق القديم وحضارته، مع الأخذ بعين الاعتبار ارتباط هؤلاء المؤرخين بنظريتين معروفتين في تفسير التاريخ المتعلق بالشرق الأدنى، أولاهما: النظرية الاستعمارية، وثانيهما النظرية الصهيونية.

أما الأولى (الاستعمارية) فقد درست تاريخ الشرق القديم في ضوء الفكر الاستعماري الحديث والسيطرة الغربية على مقدرات شعوب المنطقة، وفسرت تاريخ المنطقة بما يخدم أهداف الغرب الاستعمارية. ولعل من أهم جزئيات التفسير التاريخي المرتبط بالنظرية الاستعمارية محاولة عزل تاريخ العرب عن تاريخ بقية شعوب الشرق الأدنى القديم، وذلك لفصل هذه الشعوب عن جذورها في شبه الجزيرة العربية، والعمل على تحقير الشأن التاريخي والحضاري للعرب..

أما النظرية الصهيونية، فقد طورها المؤرخون اليهود أصحاب الميول الصهيونية ومن نهج منهجهم من المؤرخين غير اليهود؛ الذين عملوا جميعا على إعادة كتابة تاريخ الشرق الأدنى القديم من وجهة نظر يهودية صهيونية بهدف تأصيل الوجود اليهودي في فلسطين قديما، والإشارة إلى استمرارية التاريخ اليهودي في المنطقة وربط "كيانهم المسخ" القائم حاليا بما يسمى زوراً بـ"إسرائيل" القديمة، وتجاهل بعض العصور التاريخية التي مرت بها فلسطين أو اعتبار تاريخها يهوديا خالصا.

وإن من أهم افتراءات هذه المدرسة الصهيونية إنكار العصرين الإسلامي والمسيحي في تاريخ فلسطين، واعتبار هذين العصرين من عصور الاحتلال لفلسطين، بما يعني أنه كان ثمة احتلال مسيحي وآخر إسلامي لفلسطين استمر حتى قيام ما يسمى زوراً بـ"إسرائيل" الحالية عام 1948.
بذل اليهود وأعوانهم في الغرب -وما زالوا يبذلون- جهودا جبارة في سبيل إلغاء كل ما يمت لفلسطين والفلسطينيين بصلة، وها هم يصدرون الكتب والموسوعات ودوائر المعارف والأطالس التي تخلو من كلمة فلسطين. ومما يؤسف له أن بعض المدارس في بعض الدول العربية تستخدم مدارسها أطالس استغنت عن كلمة فلسطين

لقد بذل اليهود وأعوانهم في الغرب -وما زالوا يبذلون- جهودا جبارة في سبيل إلغاء كل ما يمت لفلسطين والفلسطينيين بصلة، وها هم يصدرون الكتب والموسوعات ودوائر المعارف والأطالس التي تخلو من كلمة فلسطين. ومما يؤسف له أن بعض المدارس في بعض الدول العربية تستخدم مدارسها أطالس استغنت عن كلمة فلسطين عند الإشارة إلى خريطتها، ومهرتها باسم جديد "إسرائيل". وقد أنهيت خدمات أحد المعلمين في إحدى المدارس الخاصة المشبوهة في دولة خليجية، بعد أن قام بجمع الأطالس الموجودة مع الطلبة، وطمس كلمة "إسرائيل" مستبدلا بها كلمة فلسطين!!

وأبعد من هذا، فإن بعض محطات التلفزة العربية وهي تنقل الصور التي تصلها من وكالات الأنباء على شاشاتها تترك كلمة "إسرائيل" متربعة على خريطة فلسطين، وذلك مقصود بعد أن اعترفت كثير من الدول العربية بما يسمى زورا وبهتانا "دولة إسرائيل"، على الرغم من أن الصهاينة لم يتصدقوا بعد على الفلسطينيين بشيء من حقهم الكامل في أرضهم التاريخية؛ فقد وصلت السيطرة الصهيونية والغربية المدروسة إلى عقر بيوتنا، وصرنا نعدها أمورا عادية من خلال الفضائيات والإنترنت والصحف والمجلات وغيرها من وسائل الاتصال!!
لماذا لا يقوم المؤرخون العرب بأخذ المبادرة؛ فيخرجون بنظرية جديدة تفسر التاريخ تفسيرا موضوعيا من خلال مؤسسات ومراكز بحث فاعلة يكون بمكنتها إيصال صوتها إلى حيث يوصله أدعياء العلم وأصحاب نظريات التفسير الفاسدة للتاريخ؟!

وفي اللحظة التي نجد فيها مؤرخي الحركة الصهيونية يجهدون في تزوير الحقائق التاريخية وقلب الموازين، وإنكار المعلوم من التاريخ والجغرافيا بالضرورة، وكأنه مجهول بالضرورة، ودون احترام لطرائق البحث العلمي، نجد على الجانب الآخر جمودا وانتظارا واتكالية تبعث على قشعريرة الضلوع لدى مثقفينا وخصوصا العاملين في حقل التاريخ. وتكمن المشكلة في أن جميع العاملين في هذا الحقل مبدعون في توجيه النقد لغيرهم، وكأن الأمر لا يعنيهم..

والسؤال المطروح والحالة هذه: لماذا لا يقوم المؤرخون العرب بأخذ المبادرة؛ فيخرجون بنظرية جديدة تفسر التاريخ تفسيرا موضوعيا من خلال مؤسسات ومراكز بحث فاعلة يكون بمكنتها إيصال صوتها إلى حيث يوصله أدعياء العلم وأصحاب نظريات التفسير الفاسدة للتاريخ؟!

إننا مهرة في النقد والتشخيص وعرض المشكلات، بيد أننا عاجزون في وضع الحلول وتطبيقها. فهل نحن بكل ما أوتينا من طاقة كلامية وطاقات بشرية وموارد مالية عاجزون فعلا عن القيام بالدور المنوط بنا في هذا الجانب؟ أم أن هناك من يحول بيننا وبين القيام بهذا الدور المركزي؟!