أفكَار

تلاوة القرآن بالمقامات.. قبيحة مذمومة أم حسنة محمودة؟

ما هو حكم استعمال المقامات في تلاوة القرآن والكريم؟ آراء خبراء ومتخصصين (عربي21)

خلاف قديم، وجدل لا يتوقف بشأن تلاوة القرآن الكريم بالمقامات الموسيقية، فثمة فقهاء وقراء يرون جواز ذلك، بوصفه فنا يمكن القارئ من تحسين صوته في التلاوة، وفي المقابل ثمة آراء تمنع ذلك، إذ يرون قراءة القرآن بالمقامات، تفضي إلى شغل القراء بها، وتكلفهم للإتيان بها وإتقانها، ما ينتج عنه في غالب الأحيان تضييع أحكام التجويد، ومقاربة ألحان الغناء الموسيقي؛ رغبة في التطريب والتغني بالقرآن. 

في فتوى منشورة على موقعها الإلكتروني، أشارت دائرة الإفتاء الأردنية إلى أن العلماء اختلفوا "في حكم استعمال هذه المقامات في تلاوة القرآن والكريم"، مضيفة: "والذي نراه ما ذهب إليه الإمام الشافعي رحمه الله من التفصيل، فإن كان الهدف منها تحسين القراءة وتجميل الصوت، ولم يكن فيها تكلف ومشابهة لمقامات وألحان الغناء الماجن، وكان تعلم المقامات لا يطغى على أحكام التجويد، ولا يغير نظم الحروف، ولا يخلّ بالمعنى بقصد تجميل الصوت لقراءة القرآن، فلا حرج في ذلك". 

ونقلت عن الحافظ ابن حجر العسقلاني قوله: "الذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع، ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم، فإن الحسن الصوت يزداد حسنا بذلك، وإن خرج عنها ذلك في حسنه، وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها، ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء، ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام؛ لأن الغالب على من راعى الأنغام ألا يراعي الأداء". 

يقول عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر بالقاهرة، الدكتور حسين سليمان: "اختلفت آراء العلماء وأقوال الفقهاء في حكم قراءة القرآن بالمقامات، فمنهم من أجاز ومنهم من منع، ومن قال بالجواز اعتمد على أن المقامات ليست من اختراع الملحنين إنما هي مراتب أدائية، وطبقات صوتية خلقها الله في حنجرة كل إنسان، والقارئ للقرآن ما عليه إلا توظيف كل طبقة مع ما يناسبها من الآيات والسياقات. وهذا ما أميل إليه". 

 

                 حسن سليمان.. عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر بالقاهرة

وأضاف لـ"عربي21": "وهذا يقودنا إلى مسألة أخرى، وهي هل يجوز للقارئ تعلّم المقامات ودراساتها، أم يقرأ بطبيعته دون دراسة لها"؟ ليجيب: "اختلف العلماء أيضا في ذلك بين الجواز والمنع، فمن منع اعتمد على أن تعلم المقامات متعلق أيضا بتعلق ألحان الغناء، مما قد يضطر المرء أحيانا إلى الاستماع إلى شيء من آلات الموسيقى وأدوات التلحين، التي هي من المحرمات عند جمهور الفقهاء، ومن أجاز اشترط أن يكون ذلك بعيدا عن استماع آلات الطرب وأدوات الموسيقى، واشترط أيضا ألا يشغله ذلك عن الخشوع وتدبر الآيات. وهذا ما أميل إليه أيضا". 

أما عن ورود الحث على التغني في القرآن، فأوضح سليمان أن المراد به "تجويد التلاوة وتحسين الصوت بها، ومراعاة الطريقة أو الطبقة التي تناسب الموقف أو السياق، بدليل أن أبا موسى لما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستمع إلى قراءته قال: لو كنت أعلم يا رسول الله، لحبرته لك تحبيرا؛ أي جمّلته وزينته، وليس المقصود بالتغني التطريب والتلحين والانشغال بالألحان والمقامات عن فهم المعاني والآيات".

وخلص إلى أن القدر المسموح به من تعلم المقامات، هو ما يسمح فقط بتحسين الأداء ومراعاة التناسب بين الطبقة الصوتية والموقف أو القصة أو الحدث الذي وردت فيه الآيات، بحيث يكون فهم المقام وسيلة، لا أن تصير المقامات هدفا وغاية". 

بدوره، أوضح الباحث الأردني المتخصص في التفسير وعلوم القرآن، والقارئ المجاز، الدكتور عبد الله طه سربل، أن "قراءة القرآن الكريم بالمقامات الموسيقية تعني أن يقرأ القارئ القرآن الكريم بصوت حسن خال من النشاز، والنشاز خلل في التأليف الموسيقي لا تستسيغه الأذن". 

 

              عبد الله سربل.. باحث أردني متخصص في التفسير وعلوم القرآن

وأردف: "وبناء على ذلك، فجميع القراء بلا استثناء يقرؤون حسب المقامات الموسيقية، والمشكلة لا تكمن في هذا الجانب مطلقا، وما أنكره بعض العلماء من استخدام المقامات الموسيقية يرجع لأسباب يمكن تلخيصها بما يلي: فهمهم أن القراءة بالمقامات تستدعي لحونا موسيقية لأغان منكرة، فهمهم أن القراءة بالمقامات تشغل القارئ عن التدبر إلى العناية بالتأليف الموسيقي في أثناء القراءة". 

وتابع لـ"عربي21": "فهمهم أن القراءة بالمقامات الموسيقية، تستدعي حالا لا تتناسب مع تدبر الآيات، ليكون المقصد هو التطريب لا التدبر، وهذه الأفهام تتفق مع واقع بعض القراء؛ لذلك فإن الحكم بمنعه فيه صيانة للقرآن الكريم من العبث". 

أما إذا اجتنبت تلك المحاذير، وحرص القارئ على الابتعاد عنها وعدم الوقوع فيها، فأفاد سربل أنه "لا بأس من استخدام العلم بالمقامات القرآنية لتوظيفه في مجال التغني بالقرآن الكريم".

وفي ذات الإطار، لفت الأكاديمي المغربي المتخصص في الإسلاميات والتصوف، الدكتور محمد التهامي الحراق إلى وجود آراء متعددة بخصوص التعامل مع ما يعرف بـ"علم المقامات"، وما نسميه في المغرب بـ"حلية التلاوة"؛ مصداقا للحديث النبوي الشريف؛ "إن لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن". 

وأضاف: "هناك بالطبع من يتحفظ على استعمال تلك المقامات والطبوع (وهو المصطلح المغربي الخاص بالأنغام والمقامات) في تحلية تلاوته سدا لذريعة الخروج بتلاوته عن إهاب جلال القرآن الكريم، وهناك من يستحب ذلك بشروط احترام قواعد وأحكام التجويد، وعدم الخلط بين التلاوة والغناء، استنادا لعدة نصوص كقوله عليه الصلاة والسلام "زينوا القرآن بأصواتكم". 

 

                          التهامي الحراق.. باحث مغربي في التصوف

وتابع: "هناك من يتوسع في تجويز ذلك باعتباره من التحبير المحمود الذي أخبر به سيدنا أبو موسى الأشعري النبي الكريم، لما قال له إنه أوتي مزمارا من مزامير آل داوود، حيث قال أبو موسى للمصطفى عليه السلام: "لو علمت أنك تسمع، لحبرته لك تحبيرا". طبعا يختلف مستوى الترنيم حسب مستويات التلاوة التجويدية من الترتيل إلى التحقيق".  

واستحضر الحراق في حديثه لـ"عربي21" قوله عليه الصلاة والسلام المروي في الصحيحين: "ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن"، وقوله الآخر عليه الصلاة والسلام: "من لم يتغنَّ بالقرآن، فليس منا"، مشيرا إلى أن العلماء فسروا التغني هنا بتحسين الصوت، والتلاوة الطرية الندية التي تخرج الحروف من سليم مخارجها وتعطيها حقها، مثلما أخذوه بمعنى تزيين الصوت بآيات القرآن الكريم من غير شطط في التلاوة زيادة أو نقصانا، وذهبوا إلى معنى آخر هو الاستغناء بالقرآن الكريم عما سواه".

ورأى أن "التغني هنا، إنما يعني التحنن في التلاوة بعد إتقان أحكام التجويد، بشكل يجعل التلاوة وسيلة لتقريب معاني الآيات، وأداة لطيفة لجلب تدبرها معنى ومبنى ومغزى، والجمال في الصوت والأداء وحسن استعمال الترنيم، كفيل بالمساعدة على ذلك". 

وأشاد الحراق بما "قام به أرباب الزوايا الصوفية بالمغرب، حيث نقلوا الأنغام المستعمَلة في النسق الغنائي الدنيوي إلى مجال المديح النبوي، وحلقات الذكر فهذبوها وشذبوها وخلصوها من علامات الغنج والتثني واللهوية الدنيوية، مما أهلها لتغدو صالحة للاستعمال الجمالي والجلالي الخاص بكلام الله في التلاوة المرنمة فرديا وجماعيا".

وختم حديثه بالإشارة إلى أن هذا "هو ما جعل هذه التلاوة تعبر عن معان ربانية، وتسهم في غرس قيم القرآن الكريم في القلوب عبر مدخل الجمال الملائم للفطرة، جمال النغم والصوت والأداء، الذي فطر الحق تعالى النفس على التلطف والترقق به، لا سيما حين يكون القارئ حاذقا يختار نغم التفكر لآيات التفكر، ونغم التبشير لآيات التبشير، ونغم الإنذار لآيات الإنذار. وهكذا، تبرز هنا مهارة القارئ في اختيار حلية النغم والأداء الموفق لكل موضوع من موضوعات القرآن الكريم، وهو علم عظيم، قلة هم الذين يَدرُسُونه ويدرِّسُونه".