كتاب عربي 21

لسان حميدتي من الرفث إلى الرفس

1300x600

استحدث ف. أ. (فريق افتراضي) محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس مجلس السيادة السوداني (وهذا أيضا منصب افتراضي لا وجود له في أي قانون أو دستور أو لائحة)، استحدث الرجل أمرا بدعا، عندما حشد الآلاف من جنود جيشه (الدعم السريع) لأداء صلاة العيد قبل أيام قليلة، في ساحة كبيرة وهم يرتدون الزي العسكري، وكان معه في الصف الأول إثنان من أولياء عهده دون سن العاشرة وهما أيضا بالزي العسكري، ومن ثم استنتج الناس أن المقصود بتلك الصلاة لم يكن لأنها سنة مؤكدة أو فرض عين، بل استعراض القوة، ثم نشرت وكالة السودان الرسمية للأنباء صورة لذلك المشهد، ولكن هناك من رصد نفس الصورة في صفحة قوات الدعم السريع في فيسبوك معززة بطوابير إضافية من الجند بتقنية فوتو شوب، مما يؤكد بأن الغرض من الصلاة العسكرية كانت الترويع بالكثرة العددية.

قلت أكثر من مرة هنا في "عربي21" إن حميدتي هذا لا يحسن لجم حصانه الذي هو لسانه، ولهذا ما أن ينطلق به حتى يرفث في وجوه الآخرين ثم يرتد عليها رفسا، عندما يصبح كلامه موضع تندر، ورغم أنه كثير الشكوى من تعرضه للتهكم بسبب أقواله الخرقاء، إلا أنه لا يصون لسانه، بل يطلق له العنان، ليندفع كما خيل الشرطة المعنية بمكافحة الشغب، فتتسبب في مزيد من الشغب.

ولأنه محدود القدرات الذهنية والفكرية (شكا قبل أيام من أن الناس يقولون عنه غير متعلم، بينما هو فعلا كذلك)، فإنه وكما يقول السودانيون لا يعرف صليحه من عدوه (والصليح هو من في حال تصالح مع هذا الطرف أو ذاك)، ويرفس عامدا أو غير عامد من يقبعون معه في خندق الانقلاب على الحكم المدني بقيادة عبد الفتاح البرهان، ففي "المعايدة" التي نظمها حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي (وهو أيضا من صنائع البرهان وحميدتي، ويحسب نفسه مني أركو مانديلا)، أطلق حميدتي لسانه كالعادة بدون لجام، وقال إن جعفر نميري (ديكتاتور السودان الراحل) كان عسكريا قوي الشكيمة وحازما، وإنه لو كان من ذلك سبيل لبعث به من قبره ليأتي ويحكم البلاد مجددا، وهو بذلك يقولها صريحة إن حاكم السودان العسكري الحالي عبد الفتاح البرهان "دون المستوى" الذي يؤهله لشغل منصب رئيس مجلس السيادة، وهو أيضا يقر بأن مثله الأعلى في الحكم ليس واحدا من القادة السياسيين الذين ناضلوا ضد الاستعمار، أو وصلوا إلى الحكم بالانتخاب الحر، بل ديكتاتور عسكري اغتصب السلطة.

منذ الانقلاب العسكري الذي نفذه البرهان وحميدتي في 25 تشرين أول/ أكتوبر من العام الماضي، ظهرت في العاصمة السودانية والطرق السريعة عصابات مسلحة تمارس النهب والقتل والسحل نهارا جهارا، بينما البلاد تخضع لقانون طوارئ فرضه الانقلابيون، ولكن أحكام ذلك القانون تسري فقط على من يخرجون إلى الشوارع منادين بسقوط الانقلاب، فيكون مصيرهم الرمي بالرصاص والاعتقال، بينما تلك العصابات تسرح بسياراتها ودراجاتها النارية في الشوارع دون أن يعترضها معترض، فإذا بحميدتي يقول خلال تلك المعايدة إن عناصر تلك العصابات وقادتها معروفون بالاسم لدى الأجهزة المختصة، ويمكن حسمهم بالاعتقال خلال يومين أو أسبوع، وهو بذلك يتهم تلك الأجهزة صراحة بالتواطؤ أو القعود المتعمد عن حفظ أمن المواطن، وربما يفوت عليه أنه يصم نفسه بالفشل في ذلك المضمار، بحكم أنه يشغل ثاني المناصب الدستورية رفعة في السودان، إلى جانب أنه نائب رئيس مجلس الأمن والدفاع.

 

منذ الانقلاب العسكري الذي نفذه البرهان وحميدتي في 25 تشرين أول/ أكتوبر من العام الماضي، ظهرت في العاصمة السودانية والطرق السريعة عصابات مسلحة تمارس النهب والقتل والسحل نهارا جهارا، بينما البلاد تخضع لقانون طوارئ فرضه الانقلابيون، ولكن أحكام ذلك القانون تسري فقط على من يخرجون إلى الشوارع منادين بسقوط الانقلاب،

 



ثم نعى حميدتي على جميع الأطراف أنها لم تجلس على الأرض لتشخيص علل البلاد وإيجاد الحلول لمشكلاتها والتوافق على أسلوب الحكم، وهذا يندرج تحت بند ما يسميه السودانيون "قوة العين"، وهي الجرأة على الحق ولَيّ عنق الحقيقة مقروناً بقلة الحياء، فمنذ أن تسلل هو والبرهان إلى قصر الحكم لم يكفا عن التآمر على القوى المدنية التي أنجزت اسقاط حكم عمر البشير، بل أشبعا تلك القوى تقتيلا وتنكيلا، بالانقلاب عليها في نيسان/ أبريل 2019 ثم حزيران/ يونيو من نفس السنة، ثم تشرين أول/ أكتوبر من العام الماضي.

ويحرص حميدتي بين الحين والحين في مخاطباته العامة على إعطاء انطباع بأنه شخص بسيط ومبرأ من الطموح الشخصي وغايته المصلحة العامة، ولكنه وفي سبيل ذلك يرمي غيره بدائه وينسل، فالأزمة السياسية الراهنة في تقديره ناجمة عن أن "الأحزاب ترفض تقابلنا" وناون الجماعة هنا تعود لعسكر الانقلاب، ثم يضيف "أنتم المثقفين والفاهمين، أما نحن فمساكين .. تعالوا نتصافى"، ثم يهزم هذه الفكرة بالضربة القاضية عندما يقول "لو رفعنا أيدينا عنكم" أي عن القوى السياسية فستعانون الويل وسهر الليل، وهو بذلك يقول إنه يعتبر العسكر أوصياء على السياسيين والمدنيين الذين يدعوهم للجلوس والتفاوض (من موقع ضعف) للخروج من أزمة نجمت عن الانقلاب.

وبعد أن عرّض بالبرهان وقال إنه ليس في قامة جعفر نميري، شهر حميدتي لسانه على قادة الحركات المسلحة الذين وقع معهم هو شخصيا اتفاق سلام، وأجلسهم إلى جواره في كراسي الحكم، ثم تمَّ توريطهم في الانقلاب، وقال لهم ما معناه بالمصري "لحم أكتافكم من خيري"، لأنهم و"بفضله" صاروا أندادا له في كراسي الحكم كوزراء وشاغلي مناصب دستورية رفيعة، بعد أن كان هو (حميدتي) المنتصر الذي لا يجسر أولئك القادة على مجرد الاقتراب منه.

يحسب حميدتي أن المواطن السوداني يشارك الأسماك في ضعف الذاكرة، وأنه نسي أو بصدد نسيان أنه صنيعة النظام الذي يتبجح بالمساهمة في إسقاطه، بينما كل سهمه في الأمر هو أنه رفض استخدام قواته لقمع المظاهرات التي خرجت لإسقاط النظام، وكأنما الامتناع عن جريمة مدعاة للفخر ومجلَبَة للمغانم، وكأن جرائم جنجويده في كل شبر من السودان سيمحوها الرفث بحق شركائه في جريمة الانقلاب، ورفس الذات بغير عمد بالكلام المرسل على عواهنه.