قضايا وآراء

المنصف المرزوقي وحوار الوطن

1300x600
لا شك لدي شخصيا بأن المنصف المرزوقي واحد من أنبل الشخصيات التونسية، ومثله قليل.. إنه شخصية ممتلئة بالوعي والمعرفة والفكر القومي الذي لا يناصب الإسلامي العداء، لكنه قدم نفسه على أنه يساري علماني ذو توجه عروبي، وهو ما لا يتسق مع أدائه السياسي، وربما كان هذا التوصيف الذي اختاره لنفسه الغلطة الوحيدة له في مسيرته النبيلة.. فهو رجل موضوعي يرفض الإقصاء ويقف من الجميع على مسافة واحدة. وهو إلى ذلك مثقف ثقافة واسعة عميقة، وهو طبيب يحمل درجة الدكتوراه في الطب الباطني، وله مؤلفات عديدة في السياسة والفكر ناهيك عن الطب والصحة.

وهو سياسي بارع ومبدئي لا يغالط نفسه، ولا يغير مواقفه بناء على تغير الأوضاع السياسية، فهو صادق مخلص لبلده حريص عليها كل الحرص. وقد دخل المرزوقي السياسة من باب حقوق الإنسان، مما تسبب بدخوله السجن عام 1994 بسبب معارضته لنظام بن علي. واختار بعد خروجه من السجن أن يعيش في فرنسا طوعيا حتى قيام الثورة وفرار بن علي، حيث عاد ليشارك في بناء تونس الديمقراطية.

لقد تعرض المرزوقي للعداوة والتشهير والإساءة إبان فترة رئاسته المؤقتة التي استمرت ثلاث سنوات إبان الانتقال الديمقراطي 2011- 2014، وكان كارهوه من بقايا النظام القديم ومن بعض البسطاء الذين خرب عقولهم الإعلام، ومن أعداء حركة النهضة، على اعتبار أنه ظل يحاول أن يبقى على صلة طيبة بالحركة.

وكان العداء للنهضة مقياسا للوطنية في عرف اليسار وأتباع النظام القديم، فقد جعل اليسار التونسي همه الوحيد وبرامجه كلها منصبة على الكيد للنهضة وإسقاطها طوال الوقت، ولا شيء غير ذلك، وليذهب الوطن إلى الجحيم؛ فقد كان تفوق النهضة في الانتخابات التشريعية عقدة العقد لدى اليسار والدولة العميقة. وقد لاحظ المرزوقي ذلك، وأدرك تماما أن بقاءه رئيسا، وانتخابه لفترة ثانية كان منوطا بعداوة النهضة، لكنه لم يفعل، وهو ما يحسب له؛ ذلك أنه ديمقراطي حتى النخاع ومنصف حدّ الخيال، ولكل من اسمه نصيب.

والحقيقة أن النهضة خذلت المرزوقي، ولم تصطف إلى جانبه في انتخابات عام 2014 التي فاز بها الباجي قايد السبسي. لكنه مع ذلك، لم يأخذ منهم موقفا كارها ولا معاديا، بل معاتبا لا أكثر ولا أقل، فقد جاء تخلي حركة النهضة عنه عبر توجيه عناصرها لانتخاب من شاؤوا، ولم تقم بدعوة أعضائها لانتخاب المرزوقي؛ مما جعل بعضهم يمتنع عن التصويت، مما أسهم في منح السبسي الفرصة للفوز. فقد أحدث تخلي النهضة عن المرزوقي نوعا من عدم الثقة به من قبل الشارع التونسي الذي قال لنفسه: إذا كانت النهضة تخلت عنه، فمن باب أولى ألا يكون محل ثقتنا، وخصوصا بعد حملة التشويه التي شنها إعلام الدولة العميقة ضده في أثناء فترة رئاسته، ولم تقم الأذرع الإعلامية للنهضة بالدفاع عنه وإنصافه، ووقفت موقف الحياد في الغالب الأعم.

واليوم، يقف المرزوقي موقفا صلبا لا محاباة فيه ولا مجاملة لأحد، فهو يقول ما يؤمن به وما يراه الأنسب لتونس الوطن ودولة المواطنين؛ فهو محب لوطنه، حادب عليه، قلق مما يحاك ضده إقليميا ودوليا، مدرك لكواليس ما يحدث في الخفاء من تدخلات إقليمية من شأنها أن تقوض المشروع الوطني، وتدمر البلد على يد رئيس رقيع لا يعرف سوى الشر والعدوانية طريقا لتنفيذ مشاريعه التخبطية، التي أدت إلى تدمير الاقتصاد وتجويع الناس وأخذ تونس نحو الإفلاس، ناهيك عن كبت الحريات وتدمير الحالة الديمقراطية.

المنصف المرزوقي رجل الديمقراطية الأول في الوطن العربي بلا منازع، ووعيه يشبه إلى حد بعيد وعي رئيسة الحكومة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، التي وقعت أعظم اتفاقية في تاريخ ألمانيا بين حزبها الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وغريمه التاريخي الحزب الديمقراطي الاشتراكي، وذلك كي تحقق الرفاه للمواطن، وتخرج بالبلاد من أزمة اقتصادية كانت قاب قوسين أو أدنى من الوقوع.

لو كان المنصف المرزوقي رئيسا في دولة غربية؛ لنصب له مواطنوها التماثيل في الميادين، لكن التونسيين لم يرق لهم أن يروا رئيسا ديمقراطيا هينا لينا طيبا يتعامل مع شؤون الدولة باحترام كامل لمؤسساتها، ويحرص على القانون والدستور؛ فقد اعتادوا على النظام الجمهوري الدكتاتوري الذي يقمع الحريات ويستقوي على القوانين ولا يحترم الدستور، واعتادوا على أن الرئيس هو الدولة، وحين رأوا المرزوقي جزءا من نظام الدولة، وليس الدولة كلها استخفوا به، لا سيما أنه يفتقد إلى كثير من الصلاحيات في اللحظة التي استقر في الذهنية الشعبية أن على الرئيس أن يمتلكها كلها، فوقع في أذهانهم أنه رئيس ضعيف، غير متفهمين للوضع الدستوري الجديد الذي ينظم السلطات في البلاد، ولا يمنح الرئيس الكثير من الصلاحيات، وهو ما جعل قطاعا من الشعب يعتقد بأن ذلك يعود إلى قصور في أداء الرئيس.

لقد جرّت عليه مواقفه المبدئية عداوة اليسار وقطاع من الشعب، بسبب موقفه من مصرع القذافي بصفته دكتاتورا، وعقده اجتماعا لأنصار سوريا في تونس، وموقفه من الانقلاب في مصر، وتضامنه مع الرئيس الشهيد محمد مرسي، وتأثره الشديد بوفاته مغدورا. فقد كانت تصريحاته قوية ومؤثرة وتاريخية، هذا بالإضافة إلى موقفه الشجاع في فضح بعض دول الخليج وتآمرها على تونس ودول الربيع العربي بعامة، إلا أنه يتمتع بشعبية كبيرة لدى قطاع من التونسيين، وقطاع كبير من أبناء الشعب العربي، حيث يعده كثيرون أيقونة في حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية.

وإبان تهديد قيس سعيد بسحب جوازه الدبلوماسي، دعت 100 شخصية عربية للتضامن مع القيم التي يمثلها المنصف المرزوقي، من سياسيين ومفكرين وحقوقيين وإعلاميين، فهو يحظى باحترام عدد كبير من الشخصيات العربية الوازنة التي تتميز برقي فكرها وصلابة مواقفها وتمسكها بمبادئها، ويكفيه ذلك شرفا.

في الأثناء، يطلع علينا المنقلب قيس سعيد بتحركات جبانة ضد المنصف المرزوقي؛ حيث يوجه إلى سحب جواز سفره الدبلوماسي، وحيث يتم الحكم عليه غيابيا بالسجن أربع سنوات، وهي أفعال صبيانية تفتقر إلى كثير من التوازن والأخلاق؛ وهي مؤشر كبير على العبث الذي يمارسه هذا الرئيس. فبينما كان المرزوقي يحترم الدستور بل يقدسه، قام قيس سعيد بهدمه والافتئات عليه بناء على أهوائه وتطلعاته غير المشروعة؛ فقد جمع في يده كل السلطات بمراسيم رئاسية فجة وبأسلوب غاية في العدائية لكل مكونات المجتمع المدني والحزبي، حيث يسعى فاشلا لدفع الشعب إلى الرقص على إيقاع طبوله المتنافرة، دون جدوى.

حتى وإن اختلفنا قليلا مع المرزوقي، إلا أنه سيظل شمعة واقدة في ظلام تونس القاتم الذي أوصلنا إليه المنقلب، وسيظل الأمل معقودا بأمثال هذا الرجل للإسهام في بناء تونس جديدة قادرة على الوقوف في وجه أعدائها المحليين والخارجيين؛ فأمثال المرزوقي يبعثون الأمل في نفوس التونسيين، وهم قادرون على إحداث ثورة فكر ووعي من شأنها أن تغير الواقع المر الذي نعيشه اليوم، على وقع الفقر والغلاء والتهميش وانعدام الثقة برئيس مشوه الفكر، مرتبك الخطى.