آراء ثقافية

هل ينسى المهاجرون لغتهم الأم.. أم تبقى حية مهما طال الزمن؟

دماغ الإنسان قد يكون ثنائي اللغة أو متعدد اللغات- جيتي

ماذا يحدث في لغة من يترك بلده ويهاجر إلى بلد أخرى؛ ويعيش فيها أعواما طويلة بعيدأ عن وطنه الأول ولغته الأم، هل ينسى هذه اللغة؟ أم إنه يبقى محتفظا بآثارها؟ 

نشرت مجلة "لامنتي اس مرافيوسا" الإسبانية تقريرا، ترجمته "عربي 21"؛ يجيب على هذه الأسئلة، وتحدثت فيه عن صعوبة محو اللغة الأم من ذهن الإنسان بشكل مطلق حتى لو أتقن لغة أخرى، مشيرة إلى أن العديد من الظروف الحياتية الاستثنائية يمكن - في بعض الأحيان - أن تطمس في ذهن الإنسان تلك اللغة التي نشأ عليها خلال السنوات الأولى من حياته، وقد يحدث ذلك - مثلا - في حالة أولئك الأطفال الذي ينتمون إلى بلد معين ويتم تبنيهم عندما يكونون صغارا جدّا، وهو الأمر الذي يجعلهم ينغمسون في ثقافة ولغة أخرى. 

وأضافت المجلة أن العلم اهتم بهذا الموضوع على مدى عقود؛ حيث يبني العديد من الأشخاص حياة جديدة ويتحدثون بطلاقة بلغة أخرى غير لغتهم بسبب الهجرة من بلدانهم، ويمكن أن تمر عقود في كثير من الأحيان دون أي اتصال بلغتهم الخاصة، إلى حد التفكير في أن لغة الإنسان تتحدد وفق مكان الإقامة وليس مكان المنشأ.

ومع ذلك، بحسب الصحيفة؛ أثبتت الدراسات العلمية أنه من المستحيل محو اللغة التي نشأنا عليها تماماـ ولكن يمكننا أن نفقد الطلاقة وخفة الحركة والمفردات وأن نقوم بارتكاب الأخطاء النحوية؛ لذلك تبقى اللغة الأم في دماغ الإنسان كبصمة يستحيل محوها بشكل مطلق. 

"كل لغة هي طريقة مختلفة لرؤية الحياة." فيديريكو فيليني

وأشارت المجلة إلى أنه من المؤكد أن اللغة الأم لا تُفقد إلى حد ما؛ حيث يعتمد ذلك على السن الذي يتوقف فيه الإنسان عن استخدام لغته الأم؛ ولهذا فإن المهاجرين الذين يغادرون وطنهم في سن مبكرة جدّا، أو الأطفال الذين تم تبنيهم عندما بالكاد بدؤوا في التواصل مع الآخرين، عادة ما ينسون لغتهم الأصلية.

واكتشف الباحثون، بحسب الصحيفة، بعض التفاصيل المثيرة للاهتمام حول هذا الموضوع في حالة المهاجرين والأطفال؛ ففي ورقة بحثية من جامعة ماكغيل الكندية نشرت في  سنة 2014، لاحظ العلماء شيئا مذهلا، هو أن هناك أطفالا تم تبنيهم في سن تزيد قليلا عن سنة واحدة، ولا يزالون يتعرفون دون وعي منهم على أصوات لغتهم الأم. 

وأشارت الصحيفة إلى أن هذا البحث ركز على الكيفية التي تتفاعل بها أدمغة الفتيات من أصل صيني، اللواتي يتحدثن لغة واحدة هي الفرنسية مع المنبهات الصوتية الصينية؛ حيث لم تتواصل الفتيات باللغة الصينية بعد عام ونصف من تبنيهم، ولكنها لا تزال تسود على المستوى العصبي، لذلك؛ قد تكون الإجابة معقدة بالنسبة لمسألة ما إذا كان من الممكن نسيان اللغة الأم؛ لأنه على الرغم من أننا لا نستطيع فهمها أو التواصل معها، إلا أن الدماغ يتعرف عليها. 

تآكل لغوي نعم، خسارة لا


وتنوه الصحيفة إلى أنه ربما حدث لنا أو نعرف شخصا ما واجه هذا الموقف؛ فقد  تظهر التغييرات عندما نغادر بلدنا الأصلي لأي سبب من الأسباب ونُمضي عُقودا في التواصل بلغة أخرى، وقد تتعايش اللغة الأم إلى حد ما مع اللغة الجديدة في بداية الأمر. 

وأوردت المجلة أن التآكل اللغوي يتمثّل في ضعف المستوى اللغوي بسبب قلة استخدامها والتواصل بها، ويكمن التأثير الأول الذي نلاحظه في هذه الحالات في الشعور أنه عند التحدث بلغتنا الأم، نواجه صعوبة في العثور على الكلمات المناسبة للتعبير عن أشياء معينة، ويسمى هذا الأمر ظاهرة الكلمة على طرف اللسان؛ حيث لا نجد  المصطلح المناسب وهو ما يسبب بعض المتاعب والانزعاج.

وقالت الصحيفة في تقريرها؛ إننا لا نتعود على الأصوات والأسلوب الجديد للغة الجديدة فحسب؛ بل نقوم أيضا بإدراج هياكلها النحوية وجعلها تلقائية لدرجة أننا حتى نبدأ في التفكير بها، ويؤدي هذا الأمر إلى ضعف تدريجي للغة الأم إلى درجة استخدامها بصعوبة وبطريقة خاطئة، ومع ذلك؛ لا نخسر اللغة الأم بشكل جذري. 

وتلفت الصحيفة إلى أن دماغ الإنسان قد يكون ثنائي اللغة أو متعدد اللغات؛ حيث يتم تنشيط العديد من الأنظمة اللغوية التي يمكن أن تتداخل أحيانا بعضها مع بعض. وبالإضافة إلى ذلك؛ يمكن أن يعاني الشخص الذي لا يستخدم اللغة الأم بشكل متكرر بعض التآكل.

لا يمكنك أن تنسى لغتك الأم


وبحسب الصحيفة؛ فإن لندن تعتبر واحدة من أكثر المدن التي لديها "تهجين لغوي"؛ فهي مدينة حيوية ومكتظة بالسكان، وتتعايش فيها العديد من الثقافات والأشخاص من كل بلد في العالم، مبينة أنه إذا سألنا أنفسنا عما إذا كان من الممكن نسيان اللغة الأم، فإنه يكفي أن نتجول في شوارعها ونقوم بمسح صغير، وسوف نكتشف أن الجميع ينفون ذلك وأنهم يحتفظون بتلك اللغة التي نشؤوا عليها.

وتطرقت الصحيفة إلى حقيقة أخرى -لا تقل إثارة للفضول-، هي بالتحديد هذا التهجين الديالكتيكي أو اللغوي، فغالبا ما يتم تبادل الكلمات من لغة إلى أخرى ويتم توريث المفردات وحتى التعبيرات، وفي نهاية المطاف، لا يمكننا تجاهل حقيقة أن اللغة هي كيان حي يتغير باستمرار.

واختتمت الصحيفة التقرير بالتأكيد أن اللغة الأم تعتبر جزءا من هويتنا، وهي بمنزلة النسيج العاطفي المتجذر بعمق فينا، الذي نادرا ما يمكن محوه، مشددة على أن اللغة تمثّل جذورنا، ولهذا السبب فهي تسود لا شعوريّا في دماغنا، حتى لو تعرضنا لهذه اللغة لمدة عام أو عامين أو ثلاثة أعوام فقط.