آراء ثقافية

مصر.. التعالي على الأفريقي والخنوع لـ"أبو ناصر"

أتيليه الإسكندرية

أتعامل مع الأخبار الثقافية والفنية بطرق متنوعة، إحداها ما سأتعرض له هنا: أجمع كل ما يقع نظري عليه، أو يصادفه سمعي في ملف، متوقعا أن يأتي وقت للنظر إليه مجتمعا؛ وبعد أن يكون قد تشكل سياق ما، وأحيانا يقاطع ذلك السياق "المتوقع/ المنتظر" أخبار أو أحداث أو وقائع مغايرة، فيكتسب بذلك الملف أبعادا لم تخطر ببالي للوهلة الأولى.

وهذا ما حدث؛ فلأكثر من عام أتابع ما يجري مع أتيليه الإسكندرية، أو للدقة "مقر جمعية الأدباء والفنانين ومبدعي الإسكندرية"، وقبل أيام تم ما كان متوقعا فجرى إخلاء المبنى وتسليمه إلى الورثة، في الوقت الذي ناشد اتحاد كتاب مصر محافظ الإسكندرية توفير مقر بديل، بعد أن صار إخلاء المبنى وتسليمه أمرًا واقعًا.

من بين المئات من الموضوعات التي جمعتها عن أتيليه الإسكندرية لفت نظري تقديم فاطمة فرج لموضوعها (أتيليه الإسكندرية.. المصير المجهول) بهذه الأبيات من قصيدة جورج حنين التى كتبها عن الحرب عام 1938، وترجمها بشير السباعي:


انظروا، المدن تفقد شرايينها..
شريانا بعد شريان
حيث لا يستطيع أحد أن يميز سماء
من أرض
لأنه لم يبق فى السماء
غير بعد واحد


وبعد نحو شهرين من قراءة ملف، فرج، المستفيض، والذي سيكون القارئ محيطا بالموضوع برمته إذا عاد إليه، لفتني خبر آخر (نائب يناشد الرئيس بالتدخل لحماية أتيليه الإسكندرية: "مبنى أثري")، وظللت انتظر صداه دون جدوى، على الرغم من أني في الواقع لم أتوقع أية استجابة، لكنى قلت: لعل وعسى، هذه "لقطة" لا يجب أن تمر، لكنها مرت.

ظل ثقيل يجثم فوق مدننا يا جورج، أثقل من كل ما مر عليها. وانحطاط لا مثيل له. ليس الأتيليه إلا علامة، فارقة، نعم، لكنها مجردة علامة، فلا قيمة لأي شيء، لا للتاريخ، ولا للذكريات، ولا للفن ولا للثقافة، ولا للآثر، البلدوزر يكتسح كل شيء.

المناشدات في حد ذاتها دليل صاف على الانحطاط. ذلك أن من يناشد وزيرة الثقافة بالتدخل لانقاذ الأتيليه، لم يفته مناشدة نائب الشعب للرئيس، فمناشدة النائب في حد ذاتها دليل انحطاط، فهو وزملاؤه بمقدورهم، إذا أرادوا أن يقرروا، بل ويجبروا الرئيس على فعل ما يريدون، لكن وجودهم في حد ذاته مقرون بالخضوع والإذعان.

وللانحطاط تعبيرين. أحدهما على هيئة استعلاء، عنصري، حتى وإن تلبس بثوب السخرية، والاستظراف، و"القفشة"، وهذا نموذج، معبر عن آلاف التعبيرات التي نالت من الكاميرون، بلدا وشعبا: "محمد هنيدي غاضبًا: "مهزلة.. محمد صلاح بيعمل استشفاء في جردل طرشي"، فقد علق الممثل، على صفحته على موقع "الفيسبوك"، على طريقة "استشفاء" محمد صلاح في الكاميرون أثناء مشاركته في بطولة أفريقيا: "تخيل لما تكون بتلعب في أقوى دوري في العالم، وبيتابع تدريباتك وتحضيراتك أفضل متخصصين في العالم، وتضطر تعمل استشفاء في جردل طرشي بالشكل ده وتسكت عشان بلدك، وسط تنظيم كارثي"، وأرفق تعليقه بصورة لمحمد صلاح والسولية وهما يستشفيان في (جردل طرشي) على حد وصفة"، خاتما: "كل الدعم والتحية لكل اللاعيبة وبعثة المنتخب إنهم بيستحملوا كل المهازل بتاعت تنظيم البطولة دي عشان بلدهم وعشان يفرحونا".

التعبير الثاني مزدوج، ويقع كله في بند الخنوع وتبريره، فأولا هناك محاولة لتجميل مقصود الممثل حسن الرداد حين قال؛ أثناء مشاركته في حدث فني في السعودية: "أتمنى أن أعيش في السعودية"، وكُتب الكثير في محاولة تفسير ما قصده الرداد، وما إذا كانت "كل ردود الأفعال بريئة أم حملت الكثير من التصيد؟".

أكثر محاولات التبرير غرابة جاءت تحت عنوان "الفنان بطبعه لا يحسب ظلال الكلمات"! وهذا أعجب العجب، فما مهنة الفنان إلا تقدير ظلال الكلمات.

وهذا يضعنا أمام الفرع الثاني من المزدوج، أي الخنوع، الذي يوازن الاستعلاء، ليصنعا واقع الانحطاط.

فقد كشفت الفنانة أنغام في حديث إذاعي أن التحضير لـ"دويتو" أغنية "برضه بتوحشني" مع الفنان وائل كفوري، كانت فكرة تم الاتفاق عليها في سهرة بمنزل المستشار تركي آل الشيخ "أبو ناصر"، وبحضور عدد من الموسيقيين وشخصيات فنية، وأنها جاءت فجأة دون اتفاق مسبق، فقد غنت أنغام الأغنية، وهي بالأساس للفنان وائل كفوري أثناء تلك الجلسة الفنية داخل منزل "أبوناصر"، وشاركها الفنان اللبناني الغناء فأثنى الجميع على الكيمياء المتداولة بينهما واقترحوا فكرة الدويتو الغنائي. فكان.

هل يحتاج ما فات من كلمات للمزيد من الوضوح؟

ربما نكون في حاجة لبعض العبث واللامعقول، وقد يكون أجدى.

فبينما أكتب هذه الكلمات عدت لتوثيق الروابط التي تضمنتها، فصادفت هذا العنوان الصحفي "الإفتاء تكشف حقيقة بدء شهر رجب غدا"، قلت: غريبة هي الصياغة، وكان المتن أغرب: "نفت دار الإفتاء المصرية، ما تردد على موقع التواصل الاجتماعي، بشأن حلول مطلع شهر رجب غدا الثلاثاء. ذكرت الإفتاء عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك": "انتشر على معظم الصفحات على فيس بوك أن غدًا أول شهر رجب وهذا الأمر غير صحيح". وأكدت الإفتاء أنه من المقرر استطلاع هلال شهر رجب غدا الثلاثاء، ليتم الإعلان عن مطلع الشهر الكريم بعد صلاة المغرب".

ولكن اللامعقول لم يتوقف على هذا، فقد كنت أتصور أن قمة اللامعقول أن يكون استطلاع الهلال مادة للتعليق والجدل، وتتبع الـ"فيسبوك"، ورصد "معظم الصفحات"، فجهاز الإفتاء يترصد "معظم الصفحات"، والصحيفة تدخلنا في حيص بيص، وبيانات تصحيح، وتأكيد، وهو أمر عجيب، لكن الأمر لم يتوقف على هذا، فصورة المفتي، الدكتور شوقي علام، المرفقة بالخبر، كتب تحتها هذا العنوان: "مفتي الجمهورية: اختص الله مكة المكرمة بإنزال الوحي الكريم واختص مصر بتلاوة القرآن الكريم- صورة أرشيفية"، فكان لازما علىّ أن أعود إلى أصل العنوان، فعدت، فإذا العنوان صحيح، وقد قاله المفتي يوم 11 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، فى افتتاح المسابقة العالمية للقرآن الكريم الثامنة والعشرين، وهى المسابقة التي تجريها وزارة الأوقاف، وتقام تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، وحرت في التعليق على هذا "الحكم" على الله، لأنه لا يمكن الاعتداد، كثيرا بمن يجادل في مكان نزول القرآن، ولأنه يفهم أن مكة في هذا السياق تشتمل أيضا على يثرب، وما سواها من الأماكن المحيطة والقريبة والبعيدة نسبيا عنهما، في حين أن الجزء الثاني من مقولة المفتي فيها قولان، وتحتاج برهانا، وهي في عمقها تعبير صارخ عن معضلة الانحطاط والاستعلاء والخنوع.