قضايا وآراء

حِينَ صارَ دونكيشوت أكاديمياً!

1300x600

مَن هو دونكيشوت؟

دونكيشوت (ألونسو كيخانو) شخصيّة روائيّة مشهورة، جاء بها الرّوائي الإسباني الشّهير سرفانتس. ودونكيشوت رجلٌ خمسينيٌّ - كما يُقال - عاش في إحدى القرى الإسبانيّة في بدايات عصر النّهضة، في القرن السّادس عشر تقريباً. كان مهووساً بقراءة كتب عن الفروسيّة وأخلاقها، ويُقال إنه فقد توازنه العقلي جَرّاء كثرة قراءاته وشعوره بانفصال ما قرأه عن الواقع، حتى وصل به الأمر إلى الخلط بين الواقع الحقيقي وأفكاره وأوهامه وما يجب أن تكون عليه حقيقةُ الحياة.

غرق دونكيشوت في عالم المُثُل العُليا، ورأى في نفسه القدرة على استعادة جمال الحياة المتحقِّق بنشر العدالة ومساعدة الضُّعفاء من الناس ومساندتهم، لكنّ أفكاره المشوَّشة جعلته يرتدي لِباس الفُرسان القدماء ويمتطي صهوة جواد تراءى له أنه قويّ أصيل، وخرج في سبيل تحقيق ما يصبو إليه، فما كان منه إلا أن غدا محارباً لطواحين الهواء التي تمثّلت له بهيئة أعداء للإنسانية التي بذل نفسه لإحقاقها وتحقيقها بين البشر.

صار دونكيشوت مَضرب مثَلٍ لكلِّ من يعيش منفصلاً عن واقعه، وكأنّه في زمن لا يشبهه، ويحارب سراباً لا طائل من مواجهته سوى استحقاق السّخرية، ويخوض معاركَ عبثيّة لا انتهاء لها. وذلك بغضّ النَّظر عن هدف سرفانتس من هذه الشّخصية التي انتقد بواسطتها كثيراً من المظاهر الاجتماعية المزيّفة التي كانت سائدة في ذلك الوقت.

مات دونكيشوت بعد أن عاد إليه رشدُه وتبيّنت له أوهامُه، ولعنَ الفروسيةَ وزمنها.. لكن دونكيشوت بانفصاله عن الواقع وسعيه نحو الارتقاء بإنسانية مَن حوله غدا ظاهرةً مستمرّة ونموذجاً قائماً في واقع الحياة؛ فهو حيٌّ متمثِّلٌ في ضمائرِ كثيرين على امتداد العصور والأزمنة، واختلاف البيئات والأمكنة، واختلاف النهايات إذا جاز التعبير أيضاً.

كيف صار دونكيشوت أكاديمياً؟

صار دونكيشوت أكاديميّاً حين تمادى الأكاديميّون أو حاملو الشهادات الأكاديمية في تمييع الحدود العلميّة والشّروط الأكاديميّة، فصار الطّريق سهلاً مُعبّداً لمن يستحق ولا يستحق.. صار دونكيشوت أكاديميّاً حين وجد نفسه وحيداً في وجه تيَّار من التَّبسيط والسُّيولة التي تُغرِقُ بطوفانها كلَّ أصيلٍ وكلَّ معنى بُذِلت فيه ولأجله وُجوهٌ وأعمارٌ وجهود!

صار دونكيشوت أكاديميّاً حين استطاع أن يتَصدَّى لتدريس اللُّغة العربيّة في المدارس والجامعات كلُّ ناطقٍ بها! وحين سُمح لِمَن لم يتخرج في قسم اللغة العربية وآدابها أن يتأهّل للدّخول إلى مضمار الدّراسات العُليا في مجال اللّغويات والأدبيّات والنَّقد والبلاغة؛ بحُجَّةِ أنّه من أهل اللُّغة الأصليِّين، وهو إن طُلِبَ منه أن يكتب بضعة أسطر خرجنا منها بأخطاءٍ إملائية ما كانت لِتُقبل منَّا ونحن طلاب في الابتدائيّة!

يتساءل دونكيشوت حينها: ما معنى أن يدرس المرءُ أربع سنوات في كلّيةِ الآداب وفي قسم اللُّغة العربيّة إن كان محضُ نُطقِه بها ومحضُ انتمائه إلى العِرق العربي كافياً لجعله مُؤَهّلاً لإكمال دراساته العليا، وحصوله على درجتي الماجستير والدكتوراة في مجال اللّغة العربيّة وبلاغتها؟!

مَن يفعلون ذلك يبدون وكأنهم لبسوا ثياب الفرسان وما هم بفرسان، وامتطوا حميراً عرجاء وهم يحسبون أنّهم على ظهور جياد أصيلة، ويُخيَّل إليهم أنهم خاضوا الغمار حيث لا معركة! وانتصروا بدون أدنى قتال!

التَّدليسُ الأكاديمِيّ

التَّدليسُ في اللُّغة هو إخفاء عُيوبِ الشَّخصِ أو الشيءِ عمَّن يعنيه أمرُه، نأياً به عن القَدْحِ والتَّعييب المُفضِي إلى رفضِه والابتعاد عنه. وكذا الأمر إذا ما جئنا به إلى الأروقة الأكاديميّة، ابتداء من اختيار المدرّسين وانتهاء باختيار بعضِ الطلّاب أحياناً! ومروراً برسائل جامعيّة نال أصحابُها بناءً عليها شهادات عليا، وهي لا ترقى إلى كونها حلقة بحث لم يكن ليكتفي أحدُ أساتذتنا (الكِبار عِلماً) برفضها فحسب! بل كانت ستُلقى في وجه صاحبها توبيخاً واستنكاراً! وما شفع لها (لهذه الرسائل الأكاديميّة الفقيرة والخاوية معنى ومبنى) إلا أنها قُدّمت من طالب أجنبي لأساتذة لا يُتقنون لغة الطالب تمام الإتقان، ولا هو متقِنٌ لحيثيات لغتهم وثقافتهم وتعاطيهم مع الأمور الأكاديمية!

إنَّها الكواليس السّوداء التي تخفى عمَّن عاش أحلاماً ورديَّةً ورسم أخيلة مثاليّة عن الحياة الأكاديميّة وأصحابها، فمذ كنّا طلاباً ونحن نتخيَّل أن الأكاديميّين وحياتهم المهنية قائمة بالدرجة الأولى على الالتزام بالأخلاق الإنسانية عامة، والأخلاقيّات السّلوكية الأكاديميّة ثانياً، وهذا تماماً هو السّبب الرّئيس الذي يقف وراء خيبة الآمال التي يعيشها قسم من الأكاديميّين، إذ يُخيَّل لهم أنهم وصلوا إلى مصافِّ الأكاديميّين وما تبقى سوى السير على الطريق القويم والتقدم الطبيعي كما هو الحال في ميادين الحياة كلِّها، فيُفاجَؤون عند اقترابهم بِعدسة مُكبِّرة تكسر أُفُقَ توقُّعاتِهم، وتضعهم أمام الوجه الحقيقيّ للحياة الأكاديميّة، بسوادها وبياضها، ورماديتها أيضاً!

صراعُ الأكاديميِّ بين العلمِ والعمل

قد يبدأ هذا الصِّراع من لحظة تعيينك مُعيداً في إحدى الجامعات، وقد يبدأ حين تدخل مجال التّدريس الأكاديمي سواء أكنت حاملاً للماجستير أو الدكتوراة، أو لست حاملاً لأيٍّ منهما وفقاً لمكان عملك!

غدا التَّهافت على تحصيل الشّهادات الجامعية، وتحصيل شهادات الدبلوم والماجستير والدكتوراة "موضة" موسميّة، ودافعاً نحو الحصول على عمل يُظنُّ بأنَه الأرقى! ومعاشٍ يُظنُّ بأنه الأعلى! وبذا صار الأمر بكل بساطة أشبه بمعادلة يتنحّى فيها الحرص على التحصيل العلميّ والنفع الحقيقي ليتوسّط العامل المعيشي الساحة و"يَتَمَرْدَحَ" فيها!

من الجميل الذي تحرص عليه الجامعات (في كثيرٍ من البِلاد) أنها تُحفِّز الأكاديميّين على العمل والتحصيل والبحث العلمي، وتُكافئ العاملين المُجدِّين ماديّاً (ما داموا من غير الأجانب!)، لكن الأمر يتجاوز لدى كثير من الأكاديميّين منطق الإنجاز البحثي ليتعدّى إلى كونه فرصة مادية جيدة، هل هم مخطئون في ذلك؟ بالطبع لا، لكن على ألاّ يصبح الأمرُ محضَ تَجميع وسَبَهْلَلَةٍ بقصد الكسب المادّي.. وانطلاقاً من مبدأ "كلّه ماشي هيك!". وهذا الأمرُ من جهة ما أفضى إلى نتيجة سلبيّة على الصعيد العمليّ، فصارت الساحة الأكاديميةّ تعجّ بالإنجازات الخُلَّبِيّة التي لا تُغني طالبَ علمٍ ولا تفتح أُفقاً ولا تُمهّدُ سبيلاً، ولا ترقى إلى كونها محض حجر صغير أُزيحَ في سبيل تحقيق نفع علمي أو بحثي!

أين السَّبيلُ؟

السَّبيل هو أن يتحقَّق حلم كلِّ أكاديميِّ "دونكيشوتيّ" بأن تهتم الجهات المَعنيّة بالبحث العلمي والأكاديمي باتخاذ إجراءات صارمة لا تسمح فيها لكلِّ من هَبَّ ودَبَّ أن يعبث بسُمعة الأكاديميّين الجادّين، وأن تحرص على تحقيق العدالة وتقديم الكفاءات فيما يستوجب ذلك سواء في ميدان العمل أو البحث العلميّ، لكن هيهات! والأمر حاصلٌ منذ أيام الرَّخاء ومستمرٌّ في الشِّدةِ والبلاء!

على أنَّ الأمل باقٍ والأكاديميّون الحقيقيّون واعون مدركون لخطورة ما يعتري مسالكهم، لا سيّما في أروقة الجامعات التي قيّضها الله لخدمة لغة القرآن الكريم. ودَورة الحياةِ لطالما أثبتت أنَّ كلَّ زِيفٍ لا بدَّ أن يُعرَّى يوماً ما، كل فتيلٍ أُشعِلَ بباطلٍ سرعان ما يكلّ ويذوي ويأفل، فالأصائل تعرفُ فرسانها، وقد جاء في التنزيل الحكيم: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ".