قضايا وآراء

كيفَ نظر "ابن عاشور" إلى الحريّة وجموح الثّائرين وتقييد حريّتهم؟

1300x600
إذا ذُكرَ علم مقاصد الشّريعة الإسلاميّة في العصر الحاضر، فإنّ كلّ دروبِه توصلكَ إلى الإمام محمّد الطّاهر بن عاشور، المجدّد التّونسيّ ابن جامع الزّيتونةِ وأحد أبرز أعلام إصلاح وتجديدِ الفكر الدّينيّ.

ولد الطّاهر بن عاشور عام 1879م وتوفي عام 1973م، وبين هذين التّاريخين قضى أربعةً وتسعين عاماً في العمل الإصلاحيّ التّجديديّ ليكون علامةً فارقةً للثّورة الرّاشدة في الفكر الإسلاميّ، وليستلّ مقاصد الشريعة من كتب الأصولييّن ويفردها لتكون علماً مستقلاً قائماً بذاته.

الحريّة مقصدٌ من مقاصد الشّريعة

كان الطّاهر بن عاشور الأسبق في إعلان الحريّة مقصداً من مقاصد الشّريعة إذ يقول: "ومن قواعد الفقه قول الفقهاء: "الشّارع متشوّف للحريّة" واستقراءُ ذلك واضحٌ من تصرّفات الشّريعة التي دلّت على أنّ من أهمّ مقاصدها إبطال العبوديّة وتعميم الحرية".
الحريّة عنده مقابل العبوديّة بكلّ أشكالها وصنوفها وصورها، فلا بدّ أن يرسخ في أعماق المسلم أنَّ الإسلام جاء ليرفع إصر العبوديّة عن الفرد والمجتمع، ويطلق الإنسان ليحلّق في فضاءات الحريّة بأشكالها كافّة

جاء الطّاهر بن عاشور ليعلن أنّ الحريّةَ أصلٌ يجبُ أن يمتزجَ بروح الإنسان وينبتَ مع إيمان المسلم بربّه ودينه، وينمو مع تصّوراته الاعتقاديّة. فالحريّة عنده مقابل العبوديّة بكلّ أشكالها وصنوفها وصورها، فلا بدّ أن يرسخ في أعماق المسلم أنَّ الإسلام جاء ليرفع إصر العبوديّة عن الفرد والمجتمع، ويطلق الإنسان ليحلّق في فضاءات الحريّة بأشكالها كافّة.

والحريّة عند ابن عاشور هي أهمّ ثمار الفطرة الإنسانيّة؛ فالفطرة عنده أصلٌ كليّ تنبني عليه مجموعةٌ من المقاصد من أهمّها مقصد الحريّة؛ فيقول: "الحريّة وصفٌ فطريّ في البشر؛ فإنّنا نرى المولود ييفع حراً لا يعرف للتّقييد شبحاً"، والحرّيّة عنده شاملةٌ تتعلق بالاعتقاد والإيمان والفكر، والقول والتّفكير والتّعبير عن الرّأي، والعمل والسّلوك.

حريّة الثّائر وتقييدُ الحريّة

أمّا الثّائرُ عند ابن عاشور فهو أحد الأصناف الذين يمكن أن يصيبهم الجموح فيخرجوا عن الحريّة إلى نقيضها تحت شعارِها الجميل الفاتن؛ فيقول: "لا تجد لفظاً تهواه النّفوس، وتهشّ لسماعه، وتستزيد من الحديث فيه - مع أن معظمهم لا يضبط مقدار المراد منه - مثلَ لفظِ الحريّة.

وما سبب ذلك التعلّق العام إلا أن معظم من يسمعون هذا اللّفظ أو ينطقون به يحملونه على محامل يخفّ محملها في نفوسهم.

فالوقحُ يحسب الوقاحة حريّة، فيخفّ عنده ما ينكرُه النّاس من وقاحته، والجريء الفاتكُ ينمي صنيعه إليها؛ فيجد من ذلك مبرراً لجرأته، ومحبّ الثّورة يعد الحرية مسوّغاً لدعوته، والمفتون في اعتقاده يدافع النّاقمين عليه بأنه حرّ العقيدة إلى غير هؤلاء؛ فيا لله لهذا المعنى الحسن ماذا لقيَ من المحن، وماذا عُدِل به عن خير سنن!!".
مفهومَ الحرية بحدّ ذاته من أعقدِ المفاهيم الفلسفيّة رغم أنّه أكثرها تداولاً، وهو من أغنى المفاهيم في قدرته على التّجدّد والامتداد

إنّ مفهومَ الحرية بحدّ ذاته من أعقدِ المفاهيم الفلسفيّة رغم أنّه أكثرها تداولاً، وهو من أغنى المفاهيم في قدرته على التّجدّد والامتداد.

وهذا التّوسّع والامتداد في المفهوم، والخشية من مآلات الجموح في تمثّل الحريّة إلى نقيضها؛ هو ما جعل ابن عاشور يتبنّى تقييد وتقنين الحريّة، وهو تقنينٌ يحفظ للحريّة جوهرها، وحُسنَ تأتِّيها، ولا يحرفُها عن الجادّة المقاصديّة التي غدت لأجلها من أهمّ مقاصد الشّريعة.

فيقول: "هذه الحريّة الفسيحة لا يقيّدها إلا بما يقيّد بقيّة الحريات الأخرى، وهو قيدُ المصلحة العامة، فما لم تسبّب مضرّة للناس ولا للأفراد، وما لم تضرّ بالآداب، وقواعد السّلوك، والأعراف التي تَصَالحَ النّاس عليها؛ فهي مباحةٌ، وإلا قيّدتها الشريعة بما يحقق التّوازن بين أفراد المجتمع، ويحقّق أمنه وسلامته".

فحريّةُ الثّائرِ عند ابن عاشور هي حريّةٌ لا تخنقها قيود، ولا تكبِتُها قوانين، ولكن تحافظ على نقائها ضوابط المصلحة العامّة، ويحفظ لها بريقَها الصّادق عدم تعدّيها على مصلحة المجتمع وحقوق الأفراد الآخرين.

فالثّائر الذي يتذرّع بالحريّة لتجاوز حدوده متعدياً على حقوق العباد، أو متجاوزاً على مصلحة المجتمع فقد تحوّل مستبدّاً يلبسُ ثوب الحريّة.

وهذا ما عناه تماماً ابن عاشور بقوله: "والتّحقيق أنّ الحريّة إنّما يُعنى بها السّلامةُ من الاستسلام إلى الغير بقدرِ ما تسمحُ به الشّريعة والأخلاق الفاضلة".

فهلاّ تفكّر في هذا البيان الجليّ والفكر العذب أبناء الرّبيع العربيّ الجامحين، ودعاة الحريّة المُطلقة الهائمة على وجهها؟!

twitter.com/muhammadkhm