آراء ثقافية

قراءة في مسرحية "حَواريّ الشيطان" لبرنارد شو

برنارد شو المسرح أدب مسرحية

أصدرَ (شو) هذا النّصّ المسرحيّ The Devil's Disciple عام 1897، ومُثِّلَ في نيويورك في العام ذاته، ثُمّ مثِّلَ في لندن بعد عامَين. ويُعَدُّ أولَ نجاحٍ ماليٍّ لأديب إيرلندا الكبير على المسرح. وقد أدرَجَ النّصَّ في كتابه (ثلاث مسرحيّات للتطهُّرِيِّين Three Plays for Puritans) عام 1901.

والحَقّ أنّ محاولةَ قراءة نصوص (شو) محفوفةٌ دائمًا بالمخاطر، ومرَدُّ ذلك إلى حسّه الساخر اللاذع إلى أبعد الحدود، ذلك الذي يَلبِسُ الجِدَّ بالسخرية، وإصراره على تقديم نصوصه بمقدمةٍ ضافيةٍ يناقش فيها أفكارَ هذه النصوص والبواعث على كتابتِها، فضلاً عن آرائه بخصوص الدراما والحياة.

 

فمثَلاً، يحدّد نوعَ المسرحية بعد عنوانِها بأنها (ميلودراما)، وهي كلمةٌ كانت تعني أصلاً مسرحيةً تتخللُ أحداثَها الموسيقى والأغاني –وهو معنىً لا سبيلَ إلى انطباقه على النّصّ الذي بين أيدينا- ثُمّ أصبحَت تعني المسرحيةَ التي تجعل الأولويّة للحوار المُثير لمشاعر المتلقّين على حساب الأحداث وتطوُّر الشخصيّات.

 

لكنّ إثارة المشاعر هنا تحدث بطريقةٍ مغايرةٍ لما اعتادَه الجمهور، فالبطل (دِكْ/ رتشارد دَدچن) آتٍ من دائرة المغضوب عليهم مجتمعيًّا: مهرّبٌ منبوذٌ من أسرتِه ينضمّ للثُوّار المُطالِبين باستقلال أمريكا عن التاج البريطانيّ ويعتبرُ نفسَه حَواريًّا للشيطان، انضَمّ إلى حزبِه منذ صِباه إذ اعتَبرَ المستظلِّين بالإله لا يتحركون إلا انطلاقًا من الخوف، وهو قد أراد أن يتحرر من الخوف!

 

والبطلُ الآخَر (المبجَّل أندرسون) أبٌ مسيحيٌّ متزوّجٌ من فتاةٍ تصغُره بعشرين عامًا، يحاول إنقاذ رُوح (دِكْ)، ثم يدرك في النهاية صدقَ إشارة السيدة (دَدچن) والدة (دِكْ) التي اعتبرَت أنه ليس من رجالِ الله منذُ تزوّجَ استجابةً لدافِع الحُبّ، فيترُك مهامَّه الدينية وينضمّ إلى الثّوّار، ويحقق نصرًا ينقذُ على أثره (دِك) من حبل المشنقة.

 

وحتى الخصم الأهمّ للبطل الثائر (الجنرال برجوين Burgoyne) يقدمه كاتبُنا في صورةِ العسكريّ المثقَّف ذي الرُّوح المرِحة الساخرة، التي تقبَل الأمر الواقع، وتؤدي أدوارها المفروضةَ في تواضُعٍ يليقُ بمؤمنٍ بالنسبية الأخلاقية.

 

والخلاصةُ أنّ أبطالَ المسرحية جميعًا يتحدّون الذائقةَ السائدةَ للمجتمع الإنكليزيّ، على الأقلّ في نهاية القرن التاسع عشر كما يقرر (شو) في المقدمة. 

أضِف إلى ذلك أنّ المقدمةَ تتعرّض لسؤال "لماذا للتطهُّرِيِّين؟"، وتُجيبُ عنه بانحيازِ (شو) لأولئك الذين يجعلون أسمى ما في الفنّ رسالتَه الأخلاقيّة، ويتبرّأ في صفحاتٍ طويلةٍ من مداعباتِ المسرحيِّين للذائقة السائدةِ – أو ما يعتقدون أنه الذائقة السائدة – من خلال الحبكات الجاهزة والأدوار النمطيّة والعُري ومداعبة الغرائز (أو ما يمكن أن نجعلَه معادلاً مسرحيًّا ڤكتوريًّا لخلطة المشاجرة والرقصة والإغراء الرخيص في أفلام المقاولات في السينما المصرية!).  


لكننا رغمَ كلّ ذلك ماضُون في محاولة القراءة!

* عن الأخلاق الشيطانية:


هو عنوانٌ فرعيٌّ في المقدمة، وتحته يُهيبُ (شو) بسوابِق الأدب الشيطانيّ من أسطورة پرومثيوس الذي تحدّى مشيئة الآلهة وسرقَ النارَ للبشَر، وُصُولاً إلى (ما وراء الخير والشرّ) لنيتشه ومفهومِه عن الإنسان الخارق (السوپرمان) الذي لا يقيم وزنًا لمواضَعات الخير والشرّ المجتمعيّة ويُعلِن موتَ الإله.

 

ويَعرض لنا (شو) ذلك المشهد الذي يَجمَع (دِكْ) بـ(چوديث) زوجة المبجَّل (أندرسون)، حيث يتركهما الأخيرُ تلبيةً لاستغاثة السيّدة (دَدچن) وهي على فِراش الموت، ثم يقتحم المكانَ جنودٌ بريطانيُّون يريدون اعتقالَ (أندرسون) كما تنبّأ بذلك (دِكْ) سابقًا وحذَّرَه.

 

بالطبع يَظُنُّ الجنودُ أنّ الجالسَ مُطمَئنًّا في بيت أندرسون مع زوجتِه هو أندرسون نفسه، والمفاجأة أنّ (دِكْ) لا يُظهِر لهم شخصيتَه الحقيقية فِرارًا من عقوبة الشَّنق التي تنتظِر (أندرسون) المبجَّل ليكون عِبرةً لكلّ الثُّوّار الأمريكيِّين بصِفَتِه أبرزَ رجُلٍ في المدينة، ويترُكُهم (دِكْ) يقتادُونه، مُوصِيًا (چوديث) بألاّ تُفشِيَ ما حدثَ لزوجها حالَ عودتِه، وإلاّ فسيشنقونَه ولن يُنقِذَ هذا (دِكْ) من الشنق هو الآخَر.

 

ونعرفُ بعد ذلك أنّ (چوديث) تعتقِد أنّ زوجَها جبانٌ وأنّ (دِك) بطَلٌ، وتقع في حُبّ الأخير، إلى أن يُعاوِد (أندرسون) الظهور قبل شنق (دِكْ) بثَوانٍ باعتبارِه مبعوثَ الثُّوّار لتوقيع اتفاقيّة انسحابِ (برجوين) وجنودِه وعقد الصُّلح، وبذلك يُنقِذُ (دِكْ) آخِرًا كما أنقذَه (دِكْ) أوّلاً، وتعودُ (چوديث) للإيمان بزوجِها.

ويسوقُ لنا (شو) تكهُّنات النُّقّاد بخصوص الباعثِ الذي جعلَ (دِكْ) يضحّي بنفسِه لإنقاذ (أندرسون) رغم أنّ (دِكْ) يُنكِر أن يكون لديه سببٌ واضِحٌ وينعَتُ نفسَه بالحُمق في سخريةٍ من الذات. وأهمّ تلك التكهُّنات أنّ (دِكْ) واقعٌ في غرامِ (چوديث)، لكنه لا يريد أن يهدِمَ بيت زوجيّتِها، فهو بالتالي إنسانٌ طيّبٌ مسيحيٌّ في قرارة نفسِه.

 

ويسخَر (شو) من هذا الزَّعم، متحدّثًا عن الإنسان الأوتوماتيكيّ الذي لا يتحرّك إلاّ استجابةً لباعث! ويَترُك بطلَه (دِكْ) يُفصِح عن سبب انقيادِه للجنود، فهو يقولُ في حديثِه مع (چوديث) قبل محاكمتِه إنّه لا يعتقد أنّ له الحَقّ في إزهاق رُوح أيّ إنسانٍ باستثناء نفسِه، وإنه كان سيفعلُ مثلَما فعلَ مع أيّ إنسانٍ غير (أندرسون).

هكذا ترتسِمُ واضحةً صورةُ الأخلاق الشيطانيّة كما رآها (شو): تحرُّرٌ من الإثم نتيجةً للتحرُّر من كلّ مرجعيّةٍ دينيّةٍ أو ما ورائيّة، وتحرُّرٌ بالتالي من الخوف من الموت، ورؤية الخَلاص من النقص البشريّ كامنًا في نقطةٍ غير محددةٍ في المستقبل، يحاول الشيطانيُّ الوصولَ إليها بشتى الوسائل، بشَرط ألاّ يتعدّى على حقوق الآخَرين في الحياة، وإن اضطَرَّه هذا إلى التضحية بنفسِه، ومِصداقُ ذلك قولُ (دِكْ) وهو يُسلِم نفسَه للمشنقة بينما تدقُّ ساعةُ المدينة الثانية عشرة مُعلنةً حُلولَ ميعادِ تنفيذ الشنق: "آمين! حياتي من أجل مستقبَل العالَم!"

وفي رأيي أنّ هذه الصورة تلتقي في كثيرٍ من تفاصيلِها بالفلسفة الإبيقوريّة الأصليّة، قبلَ أن يَخلِطَ التداولُ العامُّ بينها وبين تعاليم فلسفة اللذة القورينائيّة ورائدِها (أرستِبُّوس)، فقد كان (إبيقور) يعترف بالآلهة لكنّه يحيّدها ويعتبرُها غير ذات صِلةٍ بحياة البشر، وكان مهتمًّا بقهر الخوف من الموت، وكان أخلاقيًّا في النهاية، إلاّ أنّ السعادةَ التي بشَّرَ بها فرديّةٌ لا سبيل إلى امتدادها من الفرد إلى الجماعة، بعكس السعادة الجَمعيّة المستقبليّة التي بشَّرَ بها (دِكْ) في الفردوس الشيطانيّ الموعود.

 

وتلتقي بهاتَين الصورتَين تطهُّريّة (شو)، فهي ليست التطهُّريّة المسيحيّة التقليديّة التي تتبرّأ من لذّات الجسَد لتُطلِق الرُّوحَ في ملكوتِ الرّبّ، وإنما هي تطهُّريّةٌ من كل لذّةٍ أو خوفٍ قد يعوقان العقل عن اقتحام أعماق الحياة لتحسينِها والوصول بها إلى الفردوس الأرضيّ وإن بدا في كل لحظةٍ بعيدَ المَنال.

 

وبهذا، يُخطئ مَن يظُنّ أنّ (شو) – ذلك الذي أعلن مِرارًا خلال كتاباتِه موقفَه السلبيّ من الدّين المُنَظّم- قد ترك لنا في هذا النّصّ رُوحًا مسيحيةً تتجلّى في دَور الفِداء الذي قام به (دِك) طَواعية. فالأقربُ إلى الواقع أنّها رُوحٌ مسيحيةٌ مقلوبةٌ إن جاز التعبير، خلاصُها في الأرض لا في السماء، ومرجعيتُها في المستقبل لا في الماضي، ومُقدَّسُها الإنسانُ لا كِيانٌ مُتعالٍ ماورائيّ.
    
* (شو) ويسار السُّلطة:


لم يكن (شو) يتحرّى يسار السُّلطة السياسيّة فقط كما هو المفهوم من المقولة الشائعة "المثقف يجب أن يكون على يسار السُّلطة". 

في الملاحظات الضافية التي ذيّل بها نصَّ (حَواريّ الشيطان)، أفرَدَ معظمَها لشخصية (برجوين)، وخلال ذلك تحدّثَ باستفاضةٍ عن الدور الذي وجدَ (برجوين) نفسَه فيه على مسرح الحياة السياسية البريطانية، وهو دور كبش الفِداء، حيث تحمّل وحدَه أمام الرأي العامّ تَبِعةَ خسارة التاج البريطانيّ لحُكم أمريكا، بينما كانت تحرُّكاتُه العسكريّة البطيئة نتيجة إهمال اللورد (چورچ چيرمين) وزير الدولة لشئون المستعمرات الأمريكيّة آنّذاك. وباختصارٍ نَجِد (شو) هنا واقفًا على يسار السُّلطة والرأي العامّ معًا لفترةٍ تربو على قرنٍ من عُمر الأمّة البريطانيّة، يمتدُّ من خسارة حملة ساراتوجا Saratoga Campaign التي هُزِمَت فيها قُوّات المملكة بقيادة (برجوين) إلى لحظة كتابة نَصّ المسرحية.

كذلك نَجِد (شو) خلال المقدمة يتحدث عن فساد ذلك الرأي الذي يتّهم المسرحيّ الذي يكتبُ مقدمةً لنصِّه بأنه كاتبٌ رديء. ويقول (شو) إنه يكتبُ المقدمات لأنه ببساطةٍ يستطيع أن يفعلَ ذلك بكفاءةٍ، وليُسلّط الضوءَ على نَصِّه للجمهور الذي لا يعرفُ الجيّدَ من الرديء، حتى يتبيّنَ القارئُ مواطنَ القوّة في هذا النَّصّ. هكذا يواجه (شو) قُرّاءَه المحتمَلين في جرأةٍ لا تخلو من تَعالٍ، ويقولُ لهم ضِمنًا: "كثيرٌ منكم لا يرَون أبعدَ من أنوفِهم ولا يفهمون الجيّد من الرديء، وأنا أكتبُ ما أكتبُه لتتعلّموا." إنه بهذا يتحدّى تلك الثقةَ التي لا معنى لها في حُكم الجمهور، ويؤسس تفرُّدَه على مواجهة القارئ والمُشاهِد بجَهله. أي أنه يقف على يسار العامّة وحُكمِهم.

خطوةٌ أخرى في المقدمة، ونكتشفُ أنّ (شو) ربّما لا يُطيق حتى أن يتملّقَ النُّقّادَ الذين يرَون في نَصِّه إبداعًا غيرَ مسبوقٍ، فيُحيلُهم إلى (زواج الجنّة والجحيم The Marriage of Heaven & Hell) لوِليَم بليك، وإلى (ما وراء الخير والشّرّ) لنيتشه، وقصيدةٍ لم يُسمِّها لروبرت بيوكانان Robert Buchanan يجعلُ فيها الشيطان هو المُنقِذ!

الخلاصة أنّ (شو) – بغضّ النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع رؤاه – يلقننا درسًا في طبيعة ذلك اليسار الذي يحلُم المثقَّف بسُكناه ولا يَني يردِّدُ ذلك. إنه يسار كُلّ شيءٍ تقريبًا! لا يرضى لنفسه أن يتملّق السلطة السياسية ولا وجهة النظر السائدة ولا رأي النخبة. فبغضّ النظر عن طبيعة الفردوس الذي يحلم به المثقّف، سواءٌ كان أرضيًّا أو سماويًّا، يبدو لي أنّ ما يبقَى ثابتًا من نموذج (برنارد شو) هو صلابتُه الفكرية ورجولةُ موقفِه من العالَم، أو كما تقولُ الرسالة الشفهيّة التي حمَّلَها بطلُه (دِكْ) لـ(چوديث) لتُبلِغَها زوجَها (أندرسون): "وأبلِغِيه بأنني صامِدٌ على دِيني كما أنه صامِدٌ على دِينِه، وأنَّ بإمكانِه أن يعتمِد عليَّ حتى المَوت".