قضايا وآراء

السودان وخُفّا حنين..!

1300x600
يبدو أن الثورات العربية أو ما يسمى بالربيع العربي، كتب عليه الفشل للأسف.. من مصر إلى السودان مرورا بسوريا وليبيا واليمن، وندعو الله أن يحفظ على الجزائر وتونس أمنهما، وأن يقيهما شر الأنظمة المارقة التي تحاول جاهدة تدمير كل ما تبقى من عنفوان الثورات العربية، والقضاء على آمال الشعوب العربية بالتحرر والاستقلال..

وغني عن الذكر أن الثورات العربية لم تفشل، بل تم إفشالها من قبل جهات عربية وغربية ومن ورائها الكيان الصهيوني. وهذا لا يحتاج إلى دليل ولا تأكيد؛ فهو من البدهيات ومن المعلوم من السياسة بالضرورة؛ فلم تعد ثمة أسرار في وجود الفضاء الرقمي والتسريبات والتصريحات الفضائحية التي تصدر عن قيادات الصفين الأول والثاني في الكيان الصهيوني بين الفينة والفينة، ناهيك عن التصريحات الصحفية وتسريبات المؤتمرات التي تعقدها الحركات الصهيونية في الغرب.

واليوم يقف السودان، صاحب آخر ما قد نسميه افتراضا "ثورة"، على أرض هشة، تتحكم فيه قيادات مائعة لا خبرة لديها في الحكم، وهي ليّنة أمام كل الاحتمالات الهزيلة التي تحركها يمينا وشمالا. فحتى مسألة التطبيع مرت بسرعة وبدون أدنى إحساس بالمسؤولية الوطنية أو التوقي من غضب الشعب، وما زالت الحيرة قائمة حول مرور مؤامرة التطبيع مرورا غامضا، من دون أن يثور الشعب السوداني من جديد على هذه الطغمة الفاسدة المتآمرة على الأمة والوطن، ناهيك عن المشكلات المتفاقمة بين ركني إدارة الفترة الانتقالية، خصوصا بعد الانقلاب الفاشل الأخير في 21 أيلول/ سبتمبر الفائت، وبسبب تجاهل الوثيقة الدستورية وعدم الوفاء بما جاء فيها، واتهام كل طرف الآخر بأنه لا يلتزم بمقتضياتها، إضافة إلى عدم قدرة الطرفين على مواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة للبلاد، وتبادل الاتهامات حول هذه المعضلة، هذا بالإضافة إلى اتهامات بعض الأحزاب والشخصيات للطرفين بأنهما فشلا في الخروج من حالة الانقلاب على البشير، وأنهما ما زالا يعيشان على وقع الأحداث الانقلابية وأجوائها، دون أي تقدم يذكر، وإن كان السخط يتوجه نحو المكون العسكري أكثر منه نحو المدني، وهو ما ينذر بهبة ثورية جديدة بدأت رياحها بالهبوب..

ولكي يثبت السودان ولاءه للولايات المتحدة والكيان الصهيوني، ويؤكد لهما انبطاحه المذل على أمل أن يحصل على بعض المساعدات؛ فها هو يقوم ببعض المسرحيات المهينة على مسرح العبث والارتهان المذل. فبعد أن وافق - بسرعة البرق وسذاجة الغلمان - على التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ يشترك في مؤامرة على حركة حماس مع بعض الدول العربية التي تقودها أبو ظبي بأوامر تأتي من تل أبيب مباشرة، فيعلن مصادرة أصول وأموال لحركة حماس بنحو مليار ومئتي ألف دولار؛ ذلك ليثبت عداوته لحماس، فيُرضي من يمسكون بخزائن الأرض، ومن يحملون بعض مفاتيحها كأبوظبي وتل أبيب.

وتستمر أحلام قادة السودان بمكونيه العسكري والمدني في الحصول على الهبات الخليجية وخصوصا الإماراتية؛ غير واعين لما يحدث في الخفاء من مؤامرات لتدمير البلد وإبقائه في حالة غليان إلى ما شاء الله. والحقيقة أنه لن تقوم للسودان قائمة بعد عشرين عاما على أقل تقدير، وستثبت الأيام أن الانبطاح السوداني لن يأتي بشيء ذي بال، وسيظل الشعب السوداني يعاني اقتصاديا إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. ولن يفلح مليارا دولار وعد بهما رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس لدعم الحكومة السودانية العام القادم؛ في الحد من حالة الفقر وضعف النمو الاقتصادي، فالسودان مثقل بالديون، وتردي المعيشة، وركاكة البنى التحتية، والعديد من المخاطر التي تهدد وجوده، حتى مع الإعفاءات من الديون الدولية الجاثمة على صدر البلاد. ومن قراءة بسيطة لواقع السودان الاقتصادي؛ فإن السودان بحاجة إلى نحو 15 مليار دولار ليكون بإمكانه أن يتنفس بعيدا عن أجهزة التنفس البدائية..!

لقد سقط السودان منذ اللحظة الأولى للانقلاب في مستنقع مصر/ الإمارات، هذا المحور الذي يصدّر ثقافته الانقلابية والفاشية التسلطية التي تتمدد على حساب الشعوب الأضعف والأقل قدرة على النهوض. وإن كان تمددها غير احتلالي، فإنه تمدد هيمني يحمل في طياته جوانب اقتصادية وهيمنة أمنية تحت غطاء التدريب والتعاون الأمني، فإذا كانت الأجواء ملائمة؛ فالعسكري جاهز كما حدث في اليمن، وهو ما حاولت الإمارات القيام به في عدة دول أفريقية؛ فقد شهدت السنوات الأخيرة حركة انتشار اقتصادي أمني واسع للإمارات في عدد من دول إفريقيا الفقيرة، مستغلة حاجتها للاستثمار الخارجي، وهو انتشار يشبه ما تقوم به فرنسا في ذات القارة. فقد نصّبت الإمارات نفسها وجها جديدا للاستعمار الناعم الذي يفوق قدراتها الفكرية والذهنية؛ فباء كثير من أنشطتها بالفشل، لكنها تسير ضمن برنامج أعد لها، فهي لا تيأس، وتتابع نشاطها المريب لإرضاء أسيادها، وكان السودان آخر محطاتها في أفريقيا، ولن تكون الأخيرة.

لقد وعدت الإمارات السودان بالذهب الأسود وعائداته، وهي ترقب ما ستؤول إليه الأوضاع في البلاد، فإن طبقت الطغمة العسكرية الفاسدة التعليمات وسيطرت على البلاد، وحكمتها بالحديد والنار - كما في مصر - فسوف تحصل على بعض الموارد الاقتصادية كالاستثمار والقروض والإيداع البنكي وبعض الهبات الصغيرة، وبخلاف ذلك ستذهب كل الآمال الرخوة أدراج الرياح.

وحتى لو نفذت الإمارات وعودها هي وغيرها من الكفلاء المخادعين، فلن تقوم للسودان قائمة؛ لأن المطلوب لتعافي الاقتصاد السوداني أكبر بكثير مما يمكن تقديمه لها، فالسودان ليس مصر، ومصر أخذت الكثير، ولم تُبقِ في سلة الرشاوى الخليجية إلا القليل. وفي قراءة ممعنة للمشهد السياسي العربي، نجد أن ثمة دولا أهم من السودان وأحق بالمعونات والرشاوى، فلبنان يفتح فاه، ولا بد من العطايا التي يمكن لها أن تقارع تغوّل إيران وحزب الله، وهناك سوريا وإعادة الإعمار ومحاولة التغلغل فيها على حساب إيران، وهناك تونس وإعادة التوازن، واليمن وما أدراك ما اليمن.. إذاً في المحصلة فإن حكام السودان ينتظرون طواحين الهواء، لا طواحين القمح..!!

إنهم يتنازلون عن أغلى ما لدى السودانيين، كرامة الوطن وعنفوان أبنائه وإبائهم، ورفضهم الذل والمهانة.. فالسودانيون معروفون بنقاء جوهرهم وبرفضهم الاستعباد والركوع لغير الله، وحين نعلم أن هذه التنازلات المدمية لن تأتي بشيء، تكون الخسارة خسارتين؛ خسارة لكرامة الوطن والمواطن، وخسارة الأحلام غير الواقعية.. إنها الخسارات المهينة، وبلا أية مكاسب حقيقية.. وعليه فلا بد من أن نعيد على مسامع حكام السودان الذين قدّموا الوطن لأعداء الأمة على طبق من صفيح ساخن - المثل الحضرمي الصعب:

"تموت الحرة..".